كتب / ياسر عبد الرحمن البعد النفسى داخل مجموعة “هذا الوجه”
شخوص طبيعية مسكونة بأمراض نفسية
تتحرك أغلب قصص المجموعة من الداخل، وليس الخارج، فتأتى أغلب التفاصيل من الذاكرة في الماضي، أو من داخل عقل مأزوم يعيش الحاضر. والكثير من الشخصيات التي قدمتها الكاتبة غير سوية نفسيا رغم تعاملها مع الواقع حولها بشكل طبيعي ومن أكثر الأمراض النفسية التي ظهرت هو انفصام الشخصية أوالشيزوفرينيا ( Schizophrenia) هو مرض نفسي مزمن ، يؤثر على تفكير الشخص ، وسلوكه ، حيث يعاني من أوهام ، وهلاوس . ومن ضمن أسبابه التعرض لضغوط نفسية أو صدمات. وفى قصة “لحظة” عندما قرر الفتى الانتحار يرى وجه أمه الراحلة على الماء يحدثه قائلا: – لا، ثم يرى وجه حبيبته أيضا يقول: – لا ، ( لقد اصبحا وجهي أمه وحبيبته وراح صوتهما يترددان معا في أذنيه ) ورغم ذلك بدا للقارئ أن البطل أصر على الانتحار .
وفى قصة “دمعتان” الوحدة والشعور بالفقد والحنين للراحلين دفع البطلة إلى الانتحار أو هذا ما بدا للقارئ ، فتقول في وصف مشهدها الأخير ، (رأت خيوطا مضيئة تنزل من السماء حتى سطح الماء ، ورأت وجوه أحبائها: أمها..ابنتها .. زوجها..أبيها.. وسمعت أصواتا متداخلة وتناثرت الكلمات حول مسامعها: بحبك ..وحشتيني ..أنت فين ؟ ) (اختلطت الكلمات، انهمرت دموعها، وما شعرت إلا ببرودة الماء تبلل قدميها).
كما ظهر نموذج آخر للمرض النفسي وهو تعدد أو ازدواج الشخصية وهو اضطراب مختلف يطلق عليه اضطراب الهوية التفارقي (Dissociative Identity Disorder) ، وفيها يفقد المريض ترابط أفكاره، وذكرياته، ومشاعره، وتصرفاته، وإحساسه بهويته، وهو ما يؤدي إلى ظهور شخصيتين مختلفتين أو أكثر لكل منها هوية مختلفة، وفى قصة “سعادة وهنا” بدا للقارئ أن هناك شخصيتان احداهن ترى الدمى طفلتين وتعيش معهن حياة سعيدة مشتقة من دلالة الاسم سعادة وهناء وتصنع لنفسها لحظات رائعة مع الطفلتين على شاطئ البحر وفى حديقة الحيوان كأي اسرة سعيدة وفى اليوم التالي تستيقظ البطلة متعجبة من وجود دميتين جديدتين (بوجي وطمطم) التي اشترتها الشخصية الأخرى لطفلتيها الوهميتين “سعادة وهناء” فالأخرى لا ترى المشهد سوى أربع دمى عكس الشخصية الأولى فلكل شخصية منهن حياة مختلفة وذاكرة مختلفة وهوية مختلفة. وفى قصة “هذا الوجه” البطلة تجادل المرآة عن ملامح وجهها:
- انا لم أحاول إخفاء ملامح وجهي الحقيقية
- لا… لم يهرم وجهك بما يناسب عمرك
- لا.. يا مرآتي لا تكذبيني.. لقد فر العمر منى
وهذا جزء من حوار شائك بين البطلة والمرآة التي تنظر إليها، كشف عن وجود شخصيتين، إحداهما في المرآة تدعم الأخرى، وتحثها على توسيع الدائرة حولها وتحقيق حلمها. وتكرر الحوار الداعم في قصة “ثوب جديد” (جاءها صوت المرآة -لا..لا تبك فاليوم مختلف ..)
المساحة المظلمة والتشكيك في نتائج الحياة ومّكتسباتها: –
قد يرى القارئ ان أغلب القصص بالمجموعة تمثل باقة من ورود قاتمة اللون فهى تخاطب في الأساس الجزء المُحبط داخل شخصية القارئ فتتفاعل معه بشكل يحاول إعادة التوازن إليه مثلما فعلت المرآة مع البطلة في “هذا الوجه” ونجد ان هناك حالة من الفقد والوحدة والتخبط في الحياة وعلى سبيل المثال رحيل أبطال القصص في نهايات عديدة مثل (ثوب زفاف – فنجان قهوة – باقة من الياسمين – العودة – عيد ميلاد – لحظة) كما لم تخل أغلب القصص من سيرة أحبّاء راحلين عن الحياة وفى النهاية ما تم تقديمه هو انعكاس لمساحة يشكلها الحزن داخل الكاتبة نفسها فبانت بوضوح في انعكاسات فنية أمام القارئ
وبانت بالمجموعة ظاهرة أخرى لافتة وهي التشكيك في مكتسبات الحياة وقيمة النجاح ففي قصة “البوم صور” أصبحت البطلة “دكتورة” ذات شأن ورغم ذلك تتساءل (هل حققت حلم أمها أم خذلتها؟ وهل وصلت هي لشاطئ النجاة؟).
وفى قصة “نور الصباح” التي تحكى عن طفل لديه مشكلة بالنطق والكتابة والبطلة كانت تساعده على تجاوزها وكانت أمها تقول – الولد دا لازم يتعالج – وبعد سنوات أصبح الولد رجلا كبيرا يملك ابتسامة مضيئة وقلب طفل وعصا يتكئ عليها ورأته البطلة يحيّها بكلمات متعثرة ويقيم الآذان بصوت واضح رغم تعثره في الكلام فقالت البطلة (– لا أدرى من منا الذي تعثر أنا أم هو؟) (تذكرت تلاميذي وسألت نفسي كم يبلغ عددهم؟ وكم تعثر منهم؟ ومن الذي تعثر انا أم هم؟ … وفى قصة “هو” أصرت البطلة على الطلاق الذي كان يساوى وقتها حريتها، رغم انها لم تجد السعادة في هذا القرار. فهل الأولويات تتغير بمرور الزمن، أم أن خطأ الأبطال يكمن في تحديد أهدافهم من الأساس
والحقيقة أن أزمة عدم الشعور بالسعادة ، رغم النجاح تحمل دلالات نفسية ، وتكشف فجوة بين الأبطال من جانب، وبين سعادتهم الضائعة ، رغم النجاح من جانب آخر ، فهناك دائما أشياء تفسد لحظة السعادة ، وهى عدم القدرة على التواصل الصحيح مع المجتمع ، فهي دكتورة في قصة “البوم صور” ولكن تشعر بالفقد والحنين لرفاق الألبوم ، وفى قصة “نور الصباح” حين رأت تلميذها الذى كان طفلا متعثرا أصبح هذا الرجل الذى يتكئ على عصاه، تعجبت من قدرته على التفاعل، والانسجام مع الناس ، وكيف يحمل رغم مرور السنين ، ابتسامة مضيئة وقلب طفل ، في حين أن البطلة تعانى من الوحدة ، والانعزال الاختياري
وفي الواقع أن البطلة، لم تصل الى حالة الرضا والسعادة، إلا في لحظات الخيال، الذي تنسجه أزمات الأبطال النفسية فنجد البطلة عاشقة للأطفال، فتحلق مع طفلتين لا وجود لهما في قصة “سعادة وهناء” وتتجادل مع شخصية لا وجود لها في قصة “هذ الوجه” وتسمع أصوات الأحباء الراحلين، في قصة “دمعتان”
فسعادة الأبطال تسكن الخيال فقط، أما الواقع فتسكنه الوحدة والإحباط والفقد، والحنين الدائم إلى عالم مضى، كان مفعما بالحب والونس.
حضور طاغ لروح امرأة داخل المجموعة: –
قد تكتب امرأة قصة عن رجل، أو يكتب رجل رواية عن امرأة، ولكن بعض الأحيان لا يستطيع المبدع الانفصال عن نفسه، وفى هذه المجموعة إذا رفعنا اسم الكاتبة، أستطيع بكل بساطة التأكيد على أن المؤلف امرأة لهذه الأسباب: –
- أجادت بوصفها امرأة، عرض سيكولوجية المرأة، وعلاقاتها بأدوات التجميل، والمرآة وخزانة الملابس، واستمتاعها بلحظة تصفيف شعرها، وتعظيمها لقيمة الثوب الجديد، فالأناقة والمظهر الجميل، أمور تشعرها بالفخر والبهجة.
- تعشق المرأة التسوق عموما، في المتاجر الكبيرة خصوصا، فمجرد مشاهدة البضائع المتنوعة والناس يسعدها ويجدد الدماء في حياتها.
- ذاكرة الأنثى، تتفوق على الرجل بمراحل، ففي قصة “كنا نتسوق” تعرفت الزوجة على النجمة الشهيرة، بعد سنوات من اعتزالها، و(بدون مكياج) عرفتها من عينيها، وصفتها بتفاصيل مدهشة، (كانت ترتدى تنورة سوداء و”بلوفر” اسود وحذاء رياضيا رخيصا وتحمل حقيبة من القماش مطبوعا بصورة فرعونية) هي امرأة قرأت أخرى، بعيون فاحصة، بمجرد أن لمحتها.
- في قصة “الزيارة انتهت” نجد هنا امرأة تقمصت ذاكرة البطل، فاستطاع التعرف على البطلة، التي لم يراها منذ عهد الطفولة البعيدة، عرفها كما صرحت البطلة في قصة “كنا نتسوق” من عينيها …كما أنه تذكر يوم عيد ميلادها، وهو أمر لا يتذكره الرجال غالبا.
هل تنسيق أفكار النصوص جاء عمدا أم مصادفة؟:-
ظهر تنسيق غريب، بين ترتيب بعض النصوص، ففي قصة “ثوب الزفاف” جاءت في الترتيب بعد “ثوب جديد” القصتان تصنعان حالة من البهجة حول ثوب ما، لكن الأولى انتهت بالحزن، والأخرى نهايتها مبهجة. وقد شعر القارئ ان قصة “نظرة غضب” تستكمل نفس الحدث الذي بدأ في قصة نسمة شتوية دافئة”. كما جاءت كلمة -لا- في قصة “لحظة” متشابهة لكلمة -لا- في قصة “لا” فحرف النفي، يحمل نفس الدلالة في القصتين، وهو نفى النفي وتأكيد الاستمرار.
وختاما استطاعت الكاتبة استحضار روح التفاؤل، رغم ازدحام الأزمات النفسية وآلام الجسد ، فدائما يتم فتح النوافذ، ودخول شمس الصباح ، واستنشاق رائحة النسمات المنعشة، وهناك دائما مساحة تحت الشجر لتنقية الروح ، وهناك حدائق تغسل الأحزان ، وتسكنها كائنات تتفاعل مع البطل بكل سهولة، وهناك حلم لم يتحقق بعد ، والأهم هو أن هناك معركة لم تنته ومكان خال في البوم الصور ينتظر الجديد ، ولا يهم القارئ أن تكون نهاية القصة حزينة أو سعيدة، ولكن ما يهم هو المحتوى الفني ، الذى يقدمه الكاتب للقارئ ، فيأخذه في رحلة إلى عالم مختلف ، ليستمتع بكل تفاصيله والكاتبة أسعدت القارئ بعمل فني جيد، مفعم بمستوى رفيع من المشاعر والذكريات المتدفقة، ومسّت وجدان القارئ، وأضافت له تجارب ونصائح غالية.