بغداد والشعراء والصور… قراءة في بلاغة اعتياد الموت اليومي في قصيدة (بغداد)
شعر : ماريو كلاريوس /رومانيا
ترجمة : حسن حجازي /مصر
قراءة : حيدر على سلامة /العراق
أصبحت إشكالية ترجمة الشعر من لغة الى لغة أخرى، تعبر عن قضايا وإشكالات فلسفية ولسانية متداخلة ومتفاعلة بين الثقافات المختلفة. لان الأهمية الرئيسية لعملية الترجمة تكمن في انشغالها على إعادة تشكيل وترميم ذاكرة الثقافة واستعادة “جينالوجيا الأزمنة” واستنطاقها واكتشاف صيرورة تحولاتها الثقافية والتاريخية. لهذا اقترح الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور” :((…مقارنة “مهمة المترجم” التي تكلم عنها فالتر بينجامين W. Benjaminبالمعنى المزدوج الذي اعطاه فرويد لكلمة “عمل” Travail عندما تكلم في أحد المقالات عن “عمل الذاكرة” وفي مقال آخر عن “عمل الحِداد” Deuil فأثناء عمل الترجمة أيضا نعمد إلى نوع من الإنقاذ والى نوع من التعويض عن الخسارة. إنقاذ ماذا؟ وخسارة ماذا؟…شريكان إذن يوضعان في علاقة من خلال فعل الترجمة، و”الغريب” كلمة تغطي العمل والكاتب ولغته،ومن جهة أخرى القارئ متلقي النص والعمل المترجَم، وبين الاثنين يحاول المترجم،الذي يقوم بإرسال الخطاب،تمرير الرسالة كاملة من لغة الى أخرى. اذن، داخل هذه الوضعية غير المريحة للوسيط تكمن مشكلة “المحنة”. لقد اعطى فرانز روزنزفايع
F.Rosenzweig) ) لهذه المحنة شكل مفارقة
Paradoxe) ) الترجمة، كما يقول، هي في خدمة سيدين:
الغريب داخل عمله، والقارئ ورغبته في التملك، الكاتب اجنبي وقارئ يسكن نفس اللغة التي يتكلمها المترجم هذا التناقض يتعلق بإشكالية لا نظير لها لأن المترجم يجد نفسه بين نارين:
(رغبة الوفاء وشكوك الخيانة.) (1).
من هنا يبدو عمل المترجم، وكأنما هو :((يهاجم تقديس اللغة الأم وهشاشتها الهوياتية))(2).
فمن ترجم :(( زاول اللغة…زاول الفكر من أعلى أعاليه. الترجمة اختبار ضخم لبديهيات الفكر الصافي. بها نستشرف رابعة نهاره. وهو الدليل الأقطع إلى أن اللغة تجربة فلسفية .هي ليست من عِنديات اللغويين ،لأن البحث فيها حوم على الأنسان، الذي يتكلم اللغة -اذ لا لغة بدون انسان- وكل بحث في الإنسان هو اختبار فلسفي..نعني ان اللغة لم تكن بعد أن سُوِي الإنسان إنسانا.هو لم يأت من قبلها. لقد وجدت اللغة منذ ان جُبلت لطيفته.كانت منذ ان كان. بها قوامه، وبقاء نوعه، إنها في مغارس قلبه، الذي يندفع الى الكلام بحاجة طبيعية.رُكِبّت في صماميم جوارحه…هي تنبثق من ذاته،بل من ذات ذاته، انبثاقا حياتيا. ولهذا كان منطقها منطق النبضة البشرية، لا منطق اللغويين، والمجامع اللغوية…منطقها منطق السليقة الكينونية.))(3(.
لهذا، نلحظ طبيعة التلازم بين كل من:
“لحظة الاستعادة التاريخية للذاكرة”
و “منطق لغة الترجمة”
وبين منطق الكينونة/وكينونة المنطق المتشظي في بنية الوجود، والذي هو أهم ما ميز عملية ترجمة نص قصيدة (بغداد)، التي حاولت وصف “تاريخ ذاكرة بغداد”، ذلك التاريخ الذي بدأ “مؤسطَرا” بماضوية ميثية :
فيما مضى من زمن ٍ بعيد
عندما كانَ الزمن ُ يُقصَد ُ به الشعر أيضاً
والقمرُ كان َ قد توقف ليستريح
على سقفِ قصر العجائب
نفس ُ المكان
حيث كانت أكمامُ الزهورِ
ترسمُ القصائد العربية
التي تُغَنى وتُرَتَلُ
بجوار النيران الليلية
بواسطة الحدائين و الهائمين
على وجوههم فى الصحارى
و المسافرين و المحاربين …..والنجوم
اليوم يعلو صوتها فقط
بالنحيب بالعويل
هناك حيث الأشجار
تًدك ُ بالمعادن ِ الثمينة
وتخلِط مع الزمرداتِ الأوراقَ
المغطاة بالذهب ِ والفضة
هناك حيث كانت الشمس
تستحم في البحيرات
والسواقي الكادحة
التي تخلط مع اشعتها
كبارى المشاة المصنوعة
من الخشب التي نضجت وترعرعت
فى بلاد الأساطير
هناك حيث كانت النجوم
ستداعب الأزواج الشابة
من الشباب والفتيات
في ليالي الغرام العذبة
في أعشاش الغرام المقدسة
وفي السرادقات
وأشجار السرو التي كانت تغطى البحيرات
التي كتبت عليها زنابقُ الماء
مخطوطة ً شعرية.
سيطرت فكرة تحول الزمن/والذاكرة لمدينة بغداد على مخيلة الشاعر “ماريو كلاريوس” بشكل جعل من بنية تَعاصُر الأحداث؛ الأزمنة؛ الأسماء والأمكنة، هي الثيمة المركزية لمحور قصيدته. فالشاعر ينتقل بالمتلقي من “زمن بغداد المؤسطَر/الميثي” الى “زمن بغداد المتفجِر/الجنائزي”. لهذا، نرى كيف تحول الزمن المفارق/والمتعالي الى زمن انطولوجي/وبلاغي، يصف “لغة وبلاغة الموت اليومية”، التي أصبحت بلاغة مألوفة الى حد التآلف مع ذلك الشر اليومي -بحسب حنا آرندنت- والأعتياد على بلاغته الجنائزية، حيث الاحتراق والصراخ والعويل، وبلاغة تكفين الأجساد ودفنها بشكل عبثي، والتي خلت جميعها من “منطق الرحمة المتعالية” الذي انسحب من العالم، ليفسح المجال “لمنطق العدمية السياسية الكارثي” :
اليوم يمرقُ الرصاص
ليدمر حياة ملوك بابليون
حاصداً معهُ كل أحلام القصائد
التي كُتبت وحلمنا بكاتبتها
اليوم تموت مراراً ومراراً
اليوم يصرخُ الشعر بالدموع
على الجثث :
جثث الشباب الأمريكي
وجثث العرب
الموتى لقضيةٍ من المستحيل
أن نفكَ طلاسمها أو نجد لها حلاً
في جانب من جوانب الزمن
في مدينة تيراز القديمة
حيث توجد قصاصات من الورق
وبقايا من خرق قديمة
عليها نقشٌ لقصيدة ٍ خربة مشوهة
ترقد مهملة ً
في جانب ينتمي لملابس الخليفة
حيث تنسجُ القنابل لها الأكفان
وصرخاتُ الجنودِ , في كل مكان ,
الذين يفرون من الموت
في شوارع مرصوفة بالذكريات
التي تخطو عليها الكلمات مشلولة
تتعلق بملابس الريح
المنسوجة من الدم
من الرصاص
خارجة ً من صرخاتِ الأمهات
للقتلى من الشباب
خارجة ً من الغبار المحمول عبر القرون-
الى بقايا من صفحات الكتب
التي كانت تنشر الضياء والحكمة
من دار الحكمة
والآن من شفاهِ الحروف
لتلكَ القصيدة المسماة :
بغداد
كلُ بيتٍ يقطرُ دماً
من تلك القصيدة
التي تبدو للسماء
متأكلة ً مشوهة ً
بصورةٍ مقززة
تتمشى فيها الكلماتُ
بصورةٍ منفرة
هذه القصيدة المسماة :
بغداد
التي ما زالت تتنفسُ الكره
ودخانَ الموت والبغضاء
والتي لا تزال بها الملابس المرقعة
بعبق ِ الذكريات بأسماء :
الخليل
سيبويه
المبرد
الثعلبي
ابن حنبل
ابن المقفع
الخوارزمي-الذي ما زالت أفكاره تحلق ُ بين النجوم
أبو نواس
الكندي
داود الأصفهاني
أبن قتيبة
البحتري
أبو حنيفة
والكثير الكثير
والآن
ترتعشُ ظلالهم
تذرفُ الدموع
على غبار هذا اليوم
عندما يموتُ الأطفال
بهجماتٍ العرباتِ المصفحة
وبدلا من الذهابِ للمدرسة النظامية
أو المدرسة المستنصرية
اليوم الشارع هو المدرسة
حيث يتعلمُ الأطفال
كيفَ يعيشون فى حربٍ لا يفهمونها
وآبائهم المشنوقين على صليبِ الحياة
بكلماتٍ تحملُ معان ٍ جوفاء
يغلفها الزيف ُ والبهتان
في بغداد تصرخ الملائكة
بدموعٍ لا تغسل بحورَ الدم المندفعة
نحو السماء
من سقف مسجد المرجان
بغداد :
قصيدة ٌ تبكى بدموع الأطفال
بدموع الرجال
بدموع النساء
بغداد اليوم :
كلمة سجينة فى دمعة
معلقة في عقد آريس
قرب هيروشيما , ستالينجراد, كارزاجينا
وبين أصابع إلهٍ لا يرحم
يشفق عليك !
ويشبه البرجان التوأمان
اللذان قُتلا بالكره .. بالحقد
بلا أي شعورٍ من رحمة
هناك تتدفق على نهر العبث
حياة هؤلاء الذين كان من الممكن
أن يقرأوا القصيدة المسماة :
بغداد
بشفاهٍ من حب
وأجسامٍ تنبض بالحياة.
////
الهوامش
(1) بول ريكور : عن الترجمة، ترجمة،حسين خمري، منشورات الاختلاف-الجزائر، الطبعة الاولى،2008، ص ص15-16
(2) المصدر نفسه، ص 17
(3) كمال يوسف الحاج : فلسفة اللغة، دار النشر للجامعيين- بيروت، د- ت، ص 11
///////////////
(*) قصيدة (بغداد) للشاعر ماريو كلاريوس
رومانيا
ترجمها الى اللغة العربية :
الاستاذ حسن حجازي
مصر
////
(Bagdad)
BY:
Marius Chelaru
In the memory of those who died and they are dying each and every moment in Baghdad, Kabul, New York, Madrid, London, in Transnistria, Chechnya and everywhere in the World, killed by hate, intolerance, terrorism and by a politic of war and interests who has nothing to do with our life
Bagdad (Baġdād)
„…it was named the Garden of Delights, and in its center rising the Palace of Marvels, ruled by Harūn al-Rašīd … The whole palace was an entire huge hall, with 24 windows, opened only when he arrived”.
The Book of One Thousand and One Nights
(Kitāb ‘Alf Layla wa-Layla)
*
On a path of the history
one day
that God folded it as if it were a handkerchief
embroidered it with bulbul song thread
and kept it near the heart of the poetry
that day
just when unburned unborn Scheherazade
with a story
(which was to begin
at a life’s distance
from the moment when the khalif Mansur
showed where they should build the fortress)
the war slumbered
almost as much as a eyelid beat
or a heart whisper,
that day
there was born a dream named
Madīnat al-Salām
as suckling hour
kicks the dying one
ravenous, time gnawed
with teeth made of from blood and crushed poems
by swords blunted in so many wars
the bricks of Al Khuld Palace
changing them into dust
stirred today by rackets
killing over and over again
and in their fly
birds of Death
wounding Haven and Earth
and the sad shadow of Harūn al-Rašīd
with eyes of blood and eyelashes of hatred
Tiger’s waters scan
The Heaven
which some time ago used to smile
at beautiful ladies from the Garden of Delights – some time ago being just like those from Jannah –
long ago
when time meant poetry also
the Moon stopped to rest on the roof
of the Palace of Marvels
the very place where the flower beds
were drawing Arabian poems
recited by the night fires
by wanderers, travelers, warriors
and stars
today resounds because of wails only
over there where trees
circled with precious **ls
with emeralds incorporated
with leaves gilded with gold and silver
there where the Sun was bathing
in lakes and brooks made with plenty toil,
then shuffling with its rays
on the footbridges
made of wood
grown in the far and legendary countries,
over there where stars would caress in sweet love nights
young couples in divine pavilions,
and cypresses that were covering
the lakes on which water lilies wrote the calligraphy of a verse,
today bullets are running
to crumble life
the kings of Babilon
together with all the written or dreamed
poems
today
died over and over again
poetry is crying with tears from bodies:
bodies of young Americans and Arabs
dead
in the name of a cause
more and more difficult to puzzle out
in a corner of time
in an old tirāz
where shreds/ tatters of a dilapidated poem
are lying in a corner
belonging to the forgotten khalifs’ clothes
bombs are weaving the death sheets for them
the cries of the soldiers from everywhere
escaping from death
on the streets paved with memories
on which even the words are stepping down crookedly
get entangled with the wind’s clothes
woven out of blood,
bullets,
out of cries of the mothers of all those killed young men,
out of the dust carried over the centuries – what remained
from the pages of the books
that used to spread light in Dar al-Hikma
now
from the lips of the letters of that poem
named Bagdad
blood is dripping
each bayt of this poem seems even for Heaven
worn out, discolored,
made of words slatternly walking down
the poem named Bagdad
breathes hatred and smoke
death and hatred
but it still has clothes patched with memories
named
Khalil
Sibawaih
Mubarrad
Thalab
Ibn Hanbal
Ibn Muqaffa’,
Al-Horezmi – whose thoughts were wandering between stars
Abū Nuwās
Al-Kindi
Dawūd al-Isfahāni
Ibn Kutayba
Al-Buhturi
Abū Hanīfa
and so many others
now
their shadows
are trembling shedding tearing in the ash of this day
when children die
in bomb-cars attacks…
instead of
al-Madrasa al-Nizamīyya
or Al-Madrasa al-Mustansirīya
today the street is The School
where children learn to survive
in a war they don’t understand
their parents
are hanged on the cross of life
from words with fake meanings
in Bagdad
angels are crying
and their tears
can not wash the blood flowing towards the sky
from the roof of Marjan Mosque
Bagdad
A poem crying with children-tears
With men-tears, with women-tears
Bagdad
today
a word prisoner in a tear
hung on the necklace of Ares
near Hiroshima, Stalingrad, Carthagena
and between the fingers of the unmerciful god
which
pity you!
resembles The Twin Towers
killed by hatred and with no sense at all
there is flowing on the river of futility
the life of those who could love
could read the poem named Bagdad
from the lips of love
with a lifelike scented body
On a path of the history
this day
which God folded as a handkerchief
woven out of with a bullets song
and kept it near the heart of a child
killed before knowing what poetry is
while in Heaven
Scheherazade is crushing
under her azure eyelashes the stories
(which are to be killed
as the soldier’s finger pulls the trigger
showing where death should build her fortress)
the war
that grinds
each day
each hour
each moment
the dream used to be named
Madīnat al-Salām
cannot fall asleep anymore
*
all around everything
is only noise and smoke
…..
the child
closes his eyes
threading his way along a path beyond reality
in the corner of the closed eye of that day from his dream
the merchant of smiles
offers him a story as a gift
raises his arms with a smile
on which white roses are in buds
he stretches them as far as the dawn
he goes for a walk
with his the fingers of his heart
between the deceased people in his family album
memories
wrapped in veils made from a bulbul fly
have a rest somewhere
in a moment hidden in a tear
……
everything around
is only cry and death
the car is crashing into the pavement
mangled bodies mix themselves forgetting hatred
this day is leaning against the shoulder of sadness
the child
can hardly open his eyes
his leg are dangling like a dirty piece of laundry
the moments
are sticking on his fingers
trying to stay
now
in this moment that lasts for a lifetime
the day gives off a maiden like perfume
the child
is drawing something unseen
with his blood-stained fingers
the horizon eyelashes
struggles for him for the last time
from the tree crushed by the bomb-car
a leaf with small blood veins
is sliding towards his lips
and covers his thirsty soul
for a single moment
as it remains on his tired eyelashes
he is soaring to the sky
on the same side of the thought with the merchant of dreams
that he forgot in a childhood scented evening –
yesterday evening
the twilight
is falling down upon the town like a coat in shreds
the passers by
watch the corpses spread along the pavement
they still have
the job of mortals
they inherit the day of tomorrow
still
*
on the sidewalk
at the door of the mosque
a blood spot
and a dry rose stay together
two steps away
tow young soldiers
watching the sunset
wait for
another bomb-car
somewhere
maybe in the States
a mother with her eyes towards the Heaven
wondering why are all these
trembles before switching on the TV
– her son hasn’t written to her since yesterday
On a path of the history
one day
that God folded it as if it were a handkerchief
embroidered it with a bulbul song thread
and kept it near the heart of the poetry
among cries
bombs and hatred
the poem-flower named Bagdad
– “Garden of God” –
is crying and blossoming
in the dust of the history .
////
قصيدة (بغداد)
من الشعر الروماني الحديث
شعر :
ماريو كلاريوس / رومانيا
ترجمة :
حسن حجازي/ مصر
//////
بغداد
مهداة :
لذكرى هؤلاء الذين ماتوا ويموتون في كل لحظة في بغداد، في مدريد، في لندن، في ترانسنيستريا، في الشيشان وفي كل مكان في العالم ,
يُقتلون بسبب الكره، بسبب البغض، بسبب التعصب، بسبب الإرهاب ,وبسبب سياسات الحروب والمصالح التي ليس لها علاقة بحياتنا.
/////
بغداد
كانت تسمى بحديقة المسرات وفى وسطها يقف قصر الأعاجيب شامخاً والذي يحكمه هارون الرشيد ,
القصر بالكامل كان عبارة عن صالة ضخمة هائلة الحجم لها أربع وعشرون نافذة تُفتح فقط عند وصول هارون الرشيد !
كتاب ألف ليلة وليلة
*
على أحد دروب التاريخ
في يوم ٍ ما
طوى الله سبحانه وتعالى هذا اليوم
كما لو كانَ منديلا ً طرزه بأغنية ٍ للبلبل
واحتفظ َ بهِ قرب قلب الشعر
ذاك اليوم
كانت شهرزاد التي لم تكن قد وُلِدَتْ أو احترقت بعد
تستعدُ بقصة ) في اللحظة التي كان من المفروض أن تبدأ على مسافةٍ من اللحظة التي كان يجب أن يحدد فيها
(الخليفة المنصور مكان بناء القلعة )
مفادها أن الحرب تقريبا ً قد خمدت
مثلَ ضربة ِ جفن أو كهمسةِ قلب ,
ذلك َ اليومِ
كان هناك حلم سيُولد
يُسمى :
“مدينة السلام “
كساعةِ الرضاعة عندما ترفس
ذلك المحتضر بوحشية
في وقت القضم
أفترس الزمن
بأسنان ٍ مصنوعة من دم
ساحقةً القصائد بسيوفٍ خشنةٍ
من كثرةِ الحروب
محولة ً أحجارَ قصر الخلد
إلى ركام
تتحركُ اليوم بمضارب
تقتلُ مراراً وتكراراً
وفى طيرانها الهمجي كانت طيورُ الموت
تدك ُ الأرضَ والملاجئ
والظلَ الحزين
لهارون الرشيد
بعيونٍ من دم ورموشٍ من كراهية
تمسحُ النمورُ المائية السماء
التي كانت فيما مضى تبتسم ُ للفاتنات
من حديقة ِ المسرات –
منذ زمانٍ بعيد
واللاتي يشبهن لحدٍ كبير حور الجنة
اليوم يمرقُ الرصاص
ليدمر حياة ملوك بابليون
حاصداً معهُ كل أحلام القصائد
التي كُتبت وحلمنا بكاتبتها
اليوم تموت مراراً ومراراً
اليوم يصرخُ الشعر بالدموع على الجثث :
جثث الشباب الأمريكي وجثث العرب
الموتى لقضيةٍ من المستحيل
أن نفكَ طلاسمها أو نجد لها حلاً
في جانب من جوانب الزمن
في مدينة تيراز القديمة
حيث توجد قصاصات من الورق
وبقايا من خرق قديمة عليها
نقشٌ لقصيدة ٍ خربة مشوهة
ترقد مهملة ً
في جانب ينتمي لملابس الخليفة
حيث تنسجُ القنابل لها الأكفان
وصرخاتُ الجنودِ، في كل مكان،
الذين يفرون من الموت
في شوارع مرصوفة بالذكريات
التي تخطو عليها الكلمات مشلولة
تتعلق ُ بملابس الريح
المنسوجة من الدم من الرصاص
خارجة ً من صرخاتِ الأمهات للقتلى من الشباب
خارجة ً من الغبار المحمول عبر القرون-
إلى بقايا من صفحات الكتب
التي كانت تنشر الضياء والحكمة
من دار الحكمة
والآن من شفاهِ الحروف
لتلكَ القصيدة المسماة
“بغداد “
كلُ بيتٍ يقطرُ دماً
من تلك القصيدة التي تبدو للسماء
متأكلة ً مشوهة ً بصورةٍ مقززة
تتمشى فيها الكلماتُ بصورةٍ منفرة
هذه القصيدة المسماة :
“بغداد “
التي ما زالت تتنفسُ الكره
ودخانَ الموت والبغضاء
والتي لا تزال بها الملابس المرقعة
بعبق ِ الذكريات
بأسماء :
الخليل
سيبويه
المبرد
الثعلبى
ابن حنبل
ابن المقفع
الخوارزمي-الذي ما زالت أفكاره تحلق ُ بين النجوم
أبو نواس
الكندي
داود الأصفهاني
أبن قتيبة
البحتري
أبو حنيفة
والكثير الكثير
والآن
ترتعشُ ظلالهم تذرفُ الدموع
على غبار هذا اليوم
عندما يموتُ الأطفال
بهجماتٍ العرباتِ المصفحة
وبدلا ً من الذهابِ للمدرسة النظامية
أو المدرسة المستنصرية
اليوم الشارع هو المدرسة
حيث يتعلمُ الأطفال
كيفَ يعيشون في حربٍ
لا يفهمونها
وآبائهم المشنوقين على صليبِ الحياة
بكلماتٍ تحملُ معان ٍ جوفاء
يغلفها الزيف ُ والبهتان
في “بغداد” تصرخ الملائكة
بدموعٍ لا تغسل بحورَ الدم
المندفعة نحو السماء
من سقف مسجد المرجان
بغداد قصيدة ٌ تبكى بدموع الأطفال
بدموع الرجال بدموع النساء
“بغداد ” اليوم كلمة سجينة في دمعة
معلقة في عقد “آريس “
قرب هيروشيما، ستالينجراد، كارزاجينا
وبين أصابع إلهٍ لا يرحم
ويشفق عليك !
يشبه البرجان التوأمان
اللذان قُتلا بالكره بالحقد
بلا أي شعورٍ من رحمة
هناك تتدفق على نهر العبث
حياة هؤلاء الذين كان من الممكن
أن يقرأوا القصيدة المسماة :”بغداد “
بشفاهٍ من حب
وأجسامٍ تنبض ُ بالحياة
في احد دروب التاريخ
هذا اليوم الذي طواه الله كمنديل
منسوجاً من أغنية مشبعة بالرصاص
واحتفظ َ بهِ قرب قلب طفل مقتول
قبل أن يعرف معنى الشعر
بينما “شهرزاد ” تسحق تحت رموشها اللازوردية
القصص ( التي من المفروض أن تُقتَل عندما يجذب الجندي الزناد
مشيراً للمكان المفروض أن يبنى فيه الموت ُ قلعتها)
الحرب التي تطحن كل يوم
كل ساعة
كل لحظة
الحلم َ الذي اعتدنا أن نسميه
“مدينة السلام “
والذي لم يعد من الممكن
أن يخمد أبداً بعد الآن
*
كل شيء حولهُ هنا
لا يوجد إلا الضوضاء والدخان
*
أغلق الطفل عينيه
يغزل طريقه فيما وراء الحقيقة
في جانب من عينه المغلقة
في ذاك اليوم من حلمهِ
قدم له تاجر الابتسامات هدية
رافعاً زراعهُ في ابتسامة
بها الزهور البيضاء في أكمامها
مد ذراعيه بقدر ما يستطيع الفجر أن يصل
خرج في جولة وأصابعُ قلبه
تمر بين الموتى من عائلته
في ألبوم ذكرياته
ملفوفة ً في أحجبةٍ مصنوعةٍ
من بلبلٍ محلق
يأخذُ قسطاً من راحة
في مكان ما
في لحظة ٍ
مختبئة في دمعة
…………
كل ما حوله هنا
فقط صراخ وموت
تندفعُ السيارة نحو الرصيف
الجثث المشوهة التي تمزجُ نفسها معاً
ناسية ً للكره , نابذة ً للحقد ,
هذا اليوم الذي يميلُ نحو كتف الحزن
بالكاد يستطيع الطفل
أن يفتح عينيه
تتعلقُ رجلاه مثل قطعةِ قماش ٍ قذرة في مغسلة
تلتصقُ اللحظاتُ بأصابعهِ محاولة ً أن تبقى
والآن في هذه اللحظة التي تستمر بقدر عمره
هذا اليوم
بعث الزمن حورية عذراء مثل العطر
الآن
يرسمُ الطفل شيئاً لا ُيرى
بأصابعه الملطخة بالدم
ورموشُ الأفق ِ تناضلُ من أجلهِ لأخر مرة
من شجرةٍ سحقتها سيارة مصفحة
ورقة بعروق ٍ دموية صغيرة تنزلقُ نحو شفاهه
لتغطى روحه العطشى
للحظة وحيدة
لتبقى على رموش عينيه المنهكة
يرتفع نحو السماء في نفس جانب الفكرة
مع تاجر الأحلام
الذي نساه في رائحة المساء الطفولي-
مساء أمس
يتساقطُ الغسق على البلدة
مثل معطفٍ من القصاصات
يشاهدُ المارة الجثث منتشرة على الرصيف
ما زالت لديهم وظائف الفانين
والذين ما زالوا يتوارثون الغد
*
في الممشى الجانبي
عند باب المسجد
بقعة دم وزهرة جافة معاً
بقيت على بعد خطوتين
هناك جنديان يرقبان الغروب
ينتظران سيارة أخرى مصفحة
في مكان ما
ربما في الولايات المتحدة
وأم كانت هناك تتجه عيناها للسماء
تتساءل لمَ كل هذا
ترتعش يداها قبل أن تفتحَ التلفاز
لأن انبنها لم يكتب لها منذ مساء أمس !
في درب ما من دروب التاريخ
يوماً ماطواه الله كما لو كان
منديلاً مطرِزاً إياه
بخيطٍ من أغنيةٍ للبلبل
واحتفظ َ به قرب قلب الشعر
بين صرخاتِ القنابل والكره والبغضاء
تلك القصيدة- الوردة المسماة بغداد
“- حديقة الله “-
تصرخ وتتفتح في غبار التاريخ .