أخبار عاجلةدراسات ومقالات

زكريا صبح يكتب الألوهية فلسفة روائية 

ربما كان التطرف الحاد هو النتيجة الطبيعية للتجاهل التام، انطباع أولي يتشكل فى نفس القارئ وربما صار نهائيًا بعد الانتهاء من رواية مثل رواية الانتظار. فالبطل أديب متمرس، تنبض كل حروف كلماته باختلاف وتميّز، لكنه يضطر للعمل مدققًا لغويًا ومصممًا للكلمات المتقاطعة، وليس انتقاصًا من شأن المدقق اللغوى الذى لولاه ما استقامت جملة فى مقال أو قصة أو رواية، ولكنّ الأمر أشد وطأة على نفوس المبدعين، فالمبدع يرى نفسه أكبر من أن يكون مدققًا لغويًا يعمل بآلية مثل جهاز الكمبيوتر، لأنه يرى نفسه – أى المبدع – حالة من حالات الخلق التى تخص الإله الأعظم، خالق الارض والسموات والبشر وكل من وكل ما فى الكون، ولذا لم يكن غرببًا أن يتخذ كاتبنا هذه التيمة وسيلة لانجاز روايته. 

اختار لبطله الذى شعر بانتقاص قدره أن يجعل منه إلها خالقا لنصوصه مسيطرًا على شخوصه، فكرة وتيمة ربما كانت مستهلكة إذ لجأ إليها كتاب سابقين، ولكن تبقى طزاجة التناول هى الفيصل فى المتعة، وليست تيمة الكاتب الإله فقط هى تيمة هذه الرواية بل هناك تيمة اخرى وهى الحوار الذى يدور بين الكاتب وشخصياته بل ربما وصل الامر الى تمرد هذه الشخصيات على خالقها. 

لعبة فنية غاية فى المتعة إذ الفن ليس الا لعبة يلعبها الكاتب مع قارئه، وقد كان كاتبنا لاعبًا ماهرًا عليمًا بقوانين لعبته، متمرسًا على المراوغة وإبهار المشاهدين بخفة حركته وروعة مفاجآته. 

نحن أمام راوٍ عليم ينقل لنا الصراع الوجودى الأبدي الأزلي بين الخالق ومخلوقاته، ربما صنع من هذه التيمة معادلًا موضوعيًا للوجود الاكبر الذى نحيا فيه جميعًا، وجعل من الكاتب الخالق لشخوصه والمسيطر على مصائرهم معادلًا موضوعيًا للإله الأعظم خالق البشر والمقدّر لأقدارهم. 

يلجأ الكاتب إلى هذه الحيل الفنية لمناقشة فكرة لم تزل تؤرق المخلوقات البشرية، هل نحن مخيرون ام مسيرون؟؟

كل شخصيات العمل تقرّ بألوهية مستحضرها وخالقها من العدم مقرة بما يحدده لها من مصائر، راضية بهذه الصورة وتلك الهيئة التى رسمها لها خالقها وناشئها من العدم، والحديث هنا مجازى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فلا الكاتب خالق ولا الشخوص بشر، لكنّها اللعبة الفنية وحسب، وكطبيعة البشر سنجد بعض الشخوص تتمرّد على خالقها بل وربما سخرت منه.

عودة الى فكرة التطرف نقول : إن كاتب الرواية اختار هذه التيمة ليصوّر البطل إلها كرد فعل طبيعى لتجاهل الناس لقدره ككاتب يفوق من يدقق مقالاتهم وقصصهم، فيجعل منه إلها يرسم لهؤلاء الذين يزدريهم مسارات الحياة، فيخلع على هذه صفة ما أو يختار لأخرى اسمًا ما أو يصور ثالثة فى وضع ما. 

هذا ما فعله مصطفى راشد البطل الاول فى الرواية بأبطاله، ولأن من صفات الإله الأعظم أنّه منتقم جبار، فقد خلع الكاتب على بطله – بعد الالوهية – صفة المنتقم الجبار، وهل بعد فضيحة هذه الشخوص على رؤوس الأشهاد من انتقام؟

لم يشأ البطل (الإله) أن يرحم ضعفهم بل تلذذ بفضح سرائرهم، فها هى سميرة التى قتلت زوجها لأنه لم يعد قادرًا على إشباعها يفتضح امرها، ونيفين التى كانت تظن نفسها سيدة أمرها تدعوه الى بيتها، هى إذن طريقة انتقام ناعمة يرد بها صاحب القلم والحرف على كل من يتجاهله. 

إن استنطاق الشخصيات واستدعائها بأمر الهى من صاحب النهي والامر فى مملكته (الورق والقلم) هي حيلة بالغة الجمال تجعل القارئ مستمتعًا بالحكاية مهما كانت بسيطة، وفكرة اشتراك الابطال فى سرد الحكاية هى فكرة نابهة يلجأ إليها أولو العزم من الكتاب. 

ثم إلى جانب هذا، هناك تيمة رئيسية فى العمل جعلت منه متعة خالصة، تلك هى النص الإطار، إننا أمام قصة قصيرة صنع منها الكاتب رواية طويلة، قصة كتبها بطل العمل وبدأ فى سردها ومناقشتها مع امه وأبطاله فأنتج الرواية، إذن نحن أمام لعب مركبة، كأن الكاتب (حسين بكرى) أراد أن يقول أنا الليلة صاحب العرض والبطل الأول فوق خشبة المسرح فراح يستعرض لنا حيله الفنية وألعابه الإبداعية لكى ينتزع منّا كلمات الثناء وتصفيق الايدى ومتعة القلوب والعقول.

لقد كان بارعًا فى صناعة عالم يقف على الأطراف بين الحقيقة والخيال، تمامًا كما يتشكك البعض فى الحياة الدنيا، هل هى حقيقة أم خيال؟ هل نحن موتى أم أحياء؟ وهل الموتى موتى على الحقيقة أم أنهم احياء ولكننا عجزنا عن الإحاطة بأخبارهم؟؟ هذا هو العالم ذاته الذى صنعه حسين بكرى فى روايته فإلى جانب مراوغاته الفنية استحسن أن يلبس على قارئه الأمر، هل هذه الشخصيات حقيقية ام خيالية ؟ هل هذه الوقائع حدثت أم لم تحدث قط؟ هل البطل عاقل أأم يعاني من اضطراب نفسى جعله يستحضر شخصيات من خياله ليعيش بها ويعيش معها، ليرحمها أم لينتقم منها؟ ليغفر لها ما كان منها أم ليفضحها أمام الجميع؟

إننا أمام كاتب لا يكف عن دهشتنا فنراه ينحى السرد جانبًا ليقيم بنيان روايته على الحوار وهذا لعمري أمر صعب وليس هيّنًا، لأن الرواية في أساسها سرد ووصف وتصوير وتقرير، لكنه اختار الحوار الذى اختار له اللغة الفصحى ولم يستسلم لسهولة اللهجة العامية، حتى أطفال الشوارع لم يتورع عن إجراء الحوار معهم بلغة فصيحة.

 والأن!! الآن تعني الزمن، والقصة القصيرة التى هى متن روايته لا تحتاج الى زمن طويل بيد أن الرواية تحتاج لهذا الزمن الطويل، وهذه لعبة أخرى نجح الكاتب فيها أن يتجاوز حدود الزمن التقليدي فى الرواية التقليدية، فلسنا نعرف المدة التى دارت فيها الأحداث، ولا التاريخ الذى وقعت فيه الوقائع، فهل كنا أمام رواية النفس الواحد التى أراد أن يعبر فيها الكاتب المؤلف عن الكاتب البطل بما يعانيه نفسيًا وشعوريًا واجتماعيًا؟؟

هل كان مصطفى راشد هو الزوج العاجز؟ هل كانت سميرة خادمة البيت هى التى صارت زوجته؟ هل كانت طموحاته أكبر من سميرة حتى وصلت لنيفين وعلا الصحفيتين اللتين تناسبانه من حيث الفكر فراح يتخيلهن فى جسد سميرة زوجته؟ أو يتخيّل سميرة زوجته وقد تحلّت بروح كليهما؟ هل مصطفى هو الزوج المقتول؟ أم أنه لم يُقتل أصلًا؟ 

كل هذه الأسئلة وأكثر هى استجابة للتمهيد الذى مهد به حسين بكرى لروايته عندما قال: “أنا لست هنا لأفكر، أنت هنا لتفكر. 

ثمة أمر اخير وددت لو همست به فى اذن الكاتب الكبير حسين بكرى وارجو ان يتسع صدره لهمستى يا عزيزى لم يكن النص فى حاجة لقصة (رقعة شطرنج وحيدة ليلًا) لعدة اسباب: (1) أانها انتزعت القارئ من العالم الضبابي الذى اعتدناه بأبطاله واحداثه إلى عالم مظلم لم نتبين فيه خطانا، (2) أان الفكرة الرمزية التي أردت إحالتنا إليها هى الفكرة التى تسربت إلينا وترسبت فى عقولنا من خلال الرواية، فلم يكن بنا حاجة لتأكيد المؤكد، نعم العالم مثل رقعة الشطرنج أو مثل مربع الكلمات المتقاطعة، والناس بيادق أو فيلة أو أحصنة أو ملوك، والخالق هو الملك الذى يحرك كل ذلك ولا حيلة لنا من امرنا. هذا المعنى وصلنا بوضوح ونحن مشغولون بالشخوص التى رسمتها لنا من دم ولحم، (3) أاثبتّ براعة اللاعب المحترف بمراوغاتك الفنية فلماذا أردت لنا أن نشاهد مباراة الشطرنج التى ربما لا يعرف بعضنا كيف يلعبها فضلًا عن آخرين لم يسمعوا بها قط؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى