د. محمد عبد الله الخولي يكتب قصدية النص واشتغال العلامة السيميائية
قراءة تأويلية لنماذج شعرية للشاعر محمد الشهاوي
قسم تشارلز بيرس علامته السيميائية إلى ثلاثة مكونات رئيسة ، هي: الموضوع- الممثل- المؤول، وتتوزع هذه العلامة في علاقاتها على عدد من المستويات المهمة، فهي من جهة لا بد من أن ترتبط معا، عبر السيميوزس بوصفه المسؤول عن سيرورة اشتغال العلامة وإنتاج الدلالة وحركة الإحالة ليست وحيدة الاتجاه، فثمة إحالة -وهي الإحالة الأهم- من الممثل إلى موضوعه، حيث تعمل على أداء إحدى وظيفتين أساسيتين: الأولى ربط الممثل بموضوعه (الموضوع المباشر) والثانية فتح العلامة (الممثل) على الكون/ المرجع الخارجي، أو ما يمكن أن نسميه بالمحتمل الدلالي، والذي يمثله الموضوع الدينامي وهو الذي يشتغل المؤول الدينامي على أساسه بتحرير النص (الممثل) من مباشرته، ونقله من مستواه السطحي إلى مستوى آخر عميق لا يمكن التوصل إليه إلا عبر التأويل. وثمة إحالة أخرى؛ لكنها تتجه هذه المرة من موضوع العلامة إلى الممثل، وإذا كان موضوع العلامة يقبع في الخارج، قبل تمثيله النصي، فإن المرسل هو المسئول عن عملية استدعائه، أو استدعاء بعض منه؛ حيث لا يمكن أبدا استدعاء الموضوع بالكلية إلا في النص الأدبي الذي يضمنه المرسل عددا من التقنيات الجمالية التي تسمح باستدعاء هذا الموضوع الخارجي استدعاء غير متحقق إلا عبر الاحتمال، والاحتمال يجعل كل مفردات الموضوع جاهزة للاستدعاء متى تطلب النص ذلك، أو تطلبته حركة التأويل. هذه الإحالة من الموضوع إلى الممثل هي إحالة تأسيسية، تؤسس من جهة لوجود العلامة الفعلي، سواء كان هذا الوجود ذهنيا لدى المرسل، والذي ينتج ما سماه بيرس بالعلامة المفردة التي تُنتج لحظة إدراك العلامة النوعية، أي إدخالها في تحيين زماني أو مكاني؛ حيث وظيفة هذا التحيين نقل العلامة من إبهامها الناتج عن نوعيتها الموغلة في العمومية إلى واقعة ذهنية ليست هي بالطبع الواقعة التمثيلية الفعلية في النص، ولكنها الأساس الذي ينتخب منه المرسل ركائزه النصية. والركيزة تنتمي بطبيعتها إلى كل من الموضوع والممثل، وكلاهما يفرض، أو يحاول فرض، طبيعته عليها، الأمر الذي يجعلها دوما موضع توتر وقلق، حيث يحاول الموضوع الهيمنة عليها بتوسيع أكبر مساحة لاشتغال ما يسمى بذاكرة العلامة، وهي ذاكرة فيلولوجية قابعة في التاريخ، بينما النص تزامني يحاول هو الآخر فرض هيمنته على الركيزة وإفراغها من حمولتها الدلالية التاريخية، الأمر الذي يجعلها دوما متوترة بين عمليتي الضغط من الجهتين المختلفتين.
المؤلف وتأسيس العلامة
إن التأسيس الذي تؤديه حركة الإحالة من الموضوع إلى الممثل لا يقتصر على الموضوع وحده، فالموضوع، بوصفه مغرقا في النوعيات والعموميات، لا يمكن الإمساك به إلا بتحيينه في واقعة، وأول درجات التحيين هي التحيين الذهني، وهو تحيين مرتبط وجوديا بذات فاعلة تمتلك هذا الموضوع المحيّن، الأمر الذي يدخل المؤلف/ المرسل بالقوة داخل عملية التواصل، وليس منطقيا أبدا مهما ادعى البنيويون من لدن رولان بارت أن يموت المؤلف وأن تكون اللغة (النص) هي الكاتبة، وأن يكون دخول المؤلف خرافة وسخرية، على اعتبار أن “نسبة النص إلى مؤلف معناه إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولا نهائيا. إنها إغلاق الكتابة. وهذا التصور يلائم النقد أشد ملاءمة؛ إذ إن النقد يأخذ على عاتقه حينئذ الكشف عن المؤلف (أو حوامله من مجتمع وتاريخ ونفس وحرية) من وراء العمل الأدبي: بالعثور على المؤلف يكون النص قد وجد تفسيره، والناقد ضالته، فلا غرابة إذن أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة الناقد، كما لا غرابة أن يصبح النقد اليوم، حتى ولو كان جديدا، موضع خلخلة مثل المؤلف؛ ذلك أن الكتابة المتعددة لا تتطلب إلا الفرز والتوضيح، وليس فيها تنقيب عن الأسرار”. فرولان بارت يسير، هنا، في اتجاه واحد إما المؤلف وإما النص، وأن انشغال النقد بالمؤلف تضييع لأسرار النص النابعة منه وحده، ولم يسأل بارت نفسه عن مسئولية تضييع السياق المنتج للنص، وهو سياق مسؤول أيضا عن النص بناءً وتأويلا، وبارت هنا-على الرغم من كونه بنيويا- يسائل البنية لإنجاز التأويل، ولم يلتفت إلى مساءلة كيفية إنجاز البنية نفسها، حتى وإن تفلتت هذه البنية من يد منتجها (المؤلف) فباتت لها الهيمنة عليه، لكن هذه الهيمنة لا تلغي أبدا فاعلية المؤلف في إنتاج النص، وإن اقتصرت هذه الفاعلية على مرحلة بعينها نسميها هنا بمرحلة التأسيس، والتي هي مسئولية تقع بالكلية على المؤلف، ولا يمنع أبدا بعد إنجازها أن يتطور النص تطورا قد يخالف الأسس أو يوافقها، أو يطور بعضها، أو ينقض بعضها الآخر؛ لكنه يظل دوما على علاقة ما بعملية التأسيس الأولى؛ ومن ثم فإن موت المؤلف هو بالتأكيد موت للعلامة نفسها، بوصفه أولا هو موجدها الفعلي، وثانيا هو المسئول الأول عن تقليص الموضوع بتحيينه في ذهنه، ونقله من كونه علامة نوعيةإلى علامة مفردة يمكن على أساسها التخطيط لإنتاج علامة نصية (ممثلات) قد تتحرر –تحرر نفسها- من سلطة المؤلف، لا سيما بدخول عنصر جديد في عملية بناء النص هو القارئ أو الناقد المثقل بإيديولوجيات -والإيديولوجيا بنيات ثقافية- فاعلة في بناء النص بناء تشاركيا، “والعمل الأدبي لا يرتبط بالإيدولوجيا عن طريق ما يقوله، فنحن لا نشعر بوجود الإيديولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه الصامتة الدالة”. وبوصف الناقد واحدا من القراء أو المتلقين، فليست وظيفته كما يقول بارت هي ربط النص بالأسس التاريخية والاجتماعية (ومن ثم يرفض بارت المؤلف باعتباره علامة وجود هذه الأسس)، وإنما الكشف عن أسرار النص، أو ما سماه بارت بقصدية النص، وكأنه يحاول التفريق بين نوعين من القصدية؛ واحدة داخلية تخص النص، والثانية خارجة عنه هي مقصديات المبدع، فكما يقول: “ليست وحدة النص في منبعه وأصله، وإنما في مقصده واتجاهه”، وإن صح ما يقوله بارت صرنا أمام نوع من العلامات -حسب تصنيف إيكو- هو العلامة الطبيعية، والعلامة الطبيعية التي تتطور ذاتيا، كما يرى إيكو، ليست هي العلامة السيميائية المحملة بالدلالة؛ لأن الفارق الجوهري بينها وبين العلامة الأخرى التي اختارها إيكو لتكون علامة سيميائية هو القصد الناتج عن صنعة القاصد، والذي يقسمه إيكو إلى نوعين من القصد: القصد الدلالي والقصد الوظيفي، والعلاقة بينهما هي علاقة عام وخاص، فالوظيفة (الخاص) تعمل على إنتاج الدلالة (العام)، بخلاف العلامات الطبيعية التي يقتصر دورها على التماهي مع أشياء وأحداث طبيعية، وتصدر بشكل طبيعي عن كائن بشري. والجدير بالأهمية هنا، أنه حتى العلامة الطبيعية، لم ينفِ عنها إيكو وجود الكائن البشري، وكأنه ليس هناك مجال لزحزحة الفاعل البشري (المؤلف في النص) عن موقعه في إنتاج العلامة.
والعلامة السيميائية هي نتاج مشترك، تتحد فيه القوى الفاعلة في النص، وتفتح كوات النص/ لغته؛ لتنفذ لغة النص عبر هذه الكوات؛ لتلتقي بفضاء النص الخارجي، ليلتقي ما هو ذهني بما هو حسي. “إن المعرفة السيميائية هي معرفة فلسفية بامتياز سواء ركزت نظرها في الكيفية التي تولد فيها العلامة داخل الذهن أو درست أصل العلامات ومنشأها في العالم الموضوعي/ الخارجي أو الداخلي للإنسان بحكم التلازم الحقيقي بين إنتاج الدلالة في المعرفة العامة والمعرفة الخاصة. وإذا أردنا أن نحدد معالم أو خصائص المعرفة السيميائية أو نعرفها فيمكن أن نقول: إنها معرفة نقدية؛ ليست حسية فقط، ولا عقلية أو ذهنية فقط، ولا ذاتية أو موضوعية؛ إنها إنتاج مشترك لكل هذه المصادر والقوى أو القدرات أو المعاني معا، إنتاج يمضي وفق رؤية فلسفية متساوقة هدفها التفكير في الوجود الشيئي أو الحسي أو الذهني أو الذاتي أو الافتراضي بوصفه علامة”، ولكون العلامة مدرَكَة في ذهن المتلقي وفق حمولاتها الدلالية، فهي في الأساس عملية ذهنية – أيضا- في ذهن المرسل، ولذا فغياب العنصر البشري/ الإنساني عنها، بفقدها قيمتها، كعلامة يشترك في إنتاجها طرفا المرسلة اللغوية، فالجانب الإنساني في العلامة إبداعا و تأويلا هو الذي يدخل العلامة في غمار التأويل، ما بين قصدتين مختلفتين( المرسل- المرسل إليه)، والقصدية الأولى/ المرسل هي المرتكز و حجر الأساس في عملية خلق العلامة، وبعثها من عالم الذهن، إلى الواقع المؤطر نصا عبر اللغة، “إن الإنسان المدرك بما لديه من قدرة إدراك معرفية لا يمكن للعلامة أن توجد من دونه. ويتضح هنا دور الجانب البشري والإنساني في وجود كينونة العلامة، وهو الجانب الذي أكد عليه “توماس” باكرا ليكون أساسا جوهريا من أساسات وجود العلامة لديه بغض النظر عن طبيعة هذا الوجود سواءً كان وجودا صوريا/ شكليا أم طبيعيا أم عرفيا أم ثانويا/ مساندا/ أدواتيا؛ ذلك أن العلامة، وفي نهاية ظهورها وتجليها، هي بناء ذهني بشري.” فإغفال الجانب البشري عند النظر إلى العلامة يفقدها قيمتها التواصلية، – المنشودة لهذه الدراسة-، ولا سيما المرسل، فالتواصل يستلزم وجود الطرفين( المرسل- المرسل إليه)، فلا القراءة البنيوية بموت مؤلفها قادرة على التواصل، وليست التأويلية المحضة بتوجهها إلى القارئ فقط تحدث تواصلا، فالتواصل الإنساني عبر منظومة العلامة يستدعي الطرفين.
ولقد كان كل من كارل بوهلر وجاكبسون على وعي بوظيفة المرسل في عملية التواصل؛ حيث منحه كلاهما وظيفة تعبيرية، ومعنى أن للمؤلف وظيفة أنه فاعل في إنتاج المعنى، لأنه الفاعل الأول في إنتاج الرسالة، وقد تكون له الهيمنة على النص، كما يقول جاكبسون، بالقدر نفسه الذي يمكن أن تمنح فيه الهيمنة لسائر عناصر نموذجه التواصلي:
قناة التواصل
سياق
مرسل المرسلة مستقبل/ متلق
السنن
يظهر نموذج جاكبسون أن ثمة ستة عناصر تدخل معا في علاقات بنائية تكون المرسلة، وهي واحدة من هذه العناصر، حصيلتها. وكما هو موضح في الترسيمة، فإن المؤلف أولا واحد من هذه العناصر، وثانيا مؤسس لوجود المرسلة؛ حيث يتحرك السهم من جهة المرسل ناحية المرسل إليه مرورا بالمرسلة؛ بخلاف المتلقي الذي تتحرك الإحالة بينه وبين المرسلة في الاتجاهين معا، الأمر الذي جعله عنصرا بانيا للرسالة تماما كما المؤلف، ولعل في اتجاه حركة الإحالة من المرسل إلى المتلقي عبر الرسالة ما يؤكد كونها مقصودة لإنجاز التواصل.
وإذا كان السياق وقناة التواصل فاعلين، أيضا، في إتمام عملية التواصل، وهما بدورهما على علاقة وثيقة بالمرسل؛ حيث يتوزع السياق، من جهة، بين سياق لغوي وسياق مرجعي خارجي، ومن جهة ثانية بين سياق كائن (الواقعي) وسياق ممكن (الخيالي)، ومن جهة ثالثة بين سياق إرسالي وسياق تلق، وبالنسبة للمرسلة فهي تتوزع -في الأدب- بين قناة شفاهية تشترط وجود طرفي الإرسال: المرسل والمتلقي، وقناة كتابية تشترط غياب أحد هذين الطرفين بالضرورة، وإن كان حاضرا ضمنيا في وعي الآخر، فإن كل ما سبق يؤكد أهمية الدور الوظيفي للمرسل، ليس فقط لإنجاز التواصل، والذي تحققه أدنى درجات اللغة، وإنما لإنجاز تواصل شعري ينزاح باللغة عن وظيفتها التواصلية المحضة إلى وظائف أخرى ترتبط بقصدية المرسل، والتي تتقدمها في الأدب بالضرورة القصدية الجمالية.
غير أن الجمالية، أو ما سماه جاكبسون بالشعرية، ليس مقصورا فقط على اللغة، حيث يرى جاكبسون أن الوظيفة الشعرية هي وظيفة للمرسلة اللغوية، فـ “بدون الوظيفة الشعرية تصبح اللغة ميتة وسكونية تماما، فالوظيفة الشعرية تدخل دينامية في حياة اللغة”، وإذا كان جاكبسون جعل الوظيفة الشعرية هي الوظيفة المهيمنة، وإذا كان كذلك منحها للغة، الأمر الذي جعل المرسلة اللغوية هي محل اشتغال هذه الوظيفة، فإن انتقال الهيمنة من اللغة إلى غيرها من عناصر التواصل الستة يؤدي معه إلى انتقال الوظيفة الشعرية إلى حيث الهيمنة، فليست الوظيفة الشعرية مرتبطة باللغة فقط، وإنما مرتبطة بالهيمنة كذلك، لأنها هي المسئولة عن نقل العنصر من مواته إلى ديناميته، ولذلك فإن انتقال الهيمنة إلى المؤلف تجعله فاعلا في إنتاج شعرية الرسالة، وليست شعرية الرسالة وليدة اللغة فحسب، وإنما وليدة تدامج هيمنتين معا، هيمنة المؤلف وهيمنة اللغة، الأمر الذي يجعل من الممكن أن يكون دخول المؤلف في تأويل الرسالة كاشفا عن شعريتها. ودخول المؤلف هنا ليس حياته الخارجية، فهي لا تعنينا في ذاتها من قريب أو بعيد في تحليل النص الشعري، وإنما يعنينا منها الظرف السياقي الذي أنشئت فيه القصيدة من ناحية، ومن الناحية الثانية تعنينا من المؤلف قصدياته. وإذا كنا لا نستطيع الوصول إلى قصديات المؤلف إلا افتراضيا، فإن الافتراض لا يثبت جدواه إلا بما يحتمله النص من أدلة عليه، الأمر الذي يعيد الهيمنة مرة أخرى للغة، أو للنص؛ حيث اللغة هي العنصر الجوهري في النص الشعري، والذي لا يمكن أن يستغني عنه، بخلاف العناصر الأخرى كالصورة (البصرية)، أو السرد، أو الوزن، فكلها عناصر تحضر وتغيب، إما داخل النص بالتناوب، أو تغيب كليا عن النص، أما اللغة فلا يمكن تصور نص شعري بغيابها الكامل. إنها تغيب في لحظات ثم تعود مرة أخرى، ولا يمكن أبدا أن تغيب مطلقا.
ودخول المؤلف في إنتاج شعرية الرسالة يرجع إلى مسئوليته عن اختيار العناصر المكونة لها، وعملية الاختيار تنبني على القصدية، بصرف النظر عن كونها قصدية واعية أو غير واعية، كائنة أو ممكنة، واقعية أو خيالية، حيث يتوجه الشاعر إلى الموضوع العام ليختار منه موضوعا خاصا يتبلور في ذهنه كعلامة مفردة قبل أن تتجسد نصيا كعلامة، أيا كانت صورة هذه العلامة أيقونا أو مؤشرا أو رمزا، فتجسد العلامة المفردة نصيا، أي تحققها في واقعة لغوية، أو نصية، يتصرف فيه الجمال الشعري أكثر من تصرف المؤلف نفسه، بحيث نجد الشعرية تهيمن على المؤلف واللغة معا، لكنها لا تتجلى إلا في إطار ما يسمح به كلاهما: المؤلف واللغة، أما الاختيار الأول، وهو المسئول عن تحجيم الموضوع العام في وقائع محينة داخل الذهن، فتقع مسئوليته بكاملها على المؤلف. ويمكن التمثيل على هذا باختيار علامة نوعية، ثم كشف تمثيلاتها الذهنية “القصدية”، ثم بعد ذلك بحث تشكلاتها الجمالية نصيا، ونمثل على هذا بعلامة الحرية. فالحرية موضوع إنساني عام؛ لكن تختلف أنماطها في الواقع، وقصد الشاعر إلى واحد من هذه الأنماط دون غيره هو الذي يحول العلامة من كونها علامة نوعية عامة إلى واقعة ذهنية، أي علامة مفردة قبل تجسيدها في نص شعري.
العلامة من النوعية إلى الإفراد
قلنا، إن العلامة النوعية لا وجود لها إلا نظريا؛ حيث إنه بمجرد تحيينها في واقعة يحولها إلى علامة مفردة، ويمكن التمثيل على ذلك بالحرية، فالحرية، بوصفها موضوعا إنسانيا عاما، هي علامة نوعية، وتتحدد تمثيلاتها الذهنية عند المستقبل (الشاعر الذي سيعمل لاحقا على تحويلها إلى تمثيل شعري)، والتي تتشكل -من خلال عملية التحيين الذهني- لديه في موضوعات أكثر تحديدا من هذا الموضوع العام. وتعد عملية اختيار الشاعر لبعض نماذج الحرية في الواقع أو المجتمع بمثابة تقليص أو تحديد للعمومية الشديدة التي يتصف به موضوع الحرية. ونجد في ديوان “الشهاوي” عددا من النماذج التي مثل بها على موضوع الحرية، يقول:
يقيني
أنني العشق،
وأن العشق ليس سوايْ
وأن الوجد أنحلني
فصرت النايْ
يقيني أنني قلبٌ –بحجم الكون-
يأخذ سمت إنسانٍ
وأن الكون ما هو غير وجداني
وأن الشعر كان
-ومنذ كنت بعالم الغيب-
تفاصيلي
وجيناتي
وكل دمايْ
وأني حينما قد جئت دنيا الناس
لم تك “ذاتي العليا”
سوى ذاتي التي أبصرتِ يا دنيايْ
يقيني أنني الحلاج مصلوبا بلا ذنب
سوى الحب
وما قد سطرته رؤايْ
يقيني
أنني مجذوب أحلامي
وأن يراعتي
-أبدا-
لها بحران من وحي وإلهامِ
وأني “السهروردي”
“النفري”
“ابن جبير”
“الحسن”
“الحسين”
“الأسود النخعي”
“جلال الدين”
“ميمون بن مروان”
“أبو الحسن”
“الجنيد”
“العز”
“طاووس”
وكل وليّ
وأن بداخلي مذ كنت:
روح نبيّ
..
..
يقيني أنني
-ميتا-
سأبقى الحيّ!
سيميائيا، تتحول العلامة من كونها علامة نوعية إلى علامة مفردة، عندما تتحين داخل الذهن، أي تتم عملية خلق، أو تشكيل لها محدد الملامح، أو شبه محدد الملامح، وبالمعنى الفلسفي يتم تحويلها من المطلق إلى الموجود. ونجد جذر “وجد” حاضرا؛ بل فاعلا في نص الشهاوي السابق، وكأن في مأساة صلب الحلاج، والتي تحول -في الواقع- على أثرها من كائن حي متحرك الأعضاء إلى جثة هامدة؛ لكن “الحلاج”، كالشهاوي، يرون في مثل هذا التحول حقيقة الوجود. إنه تخليص الذات مما يلتبس به في مطلق العموميات، لتظل ذاتا عليا غير مشوبة بشيء. لقد علل الشهاوي لضمور جسده حيا، وفنائه ميتا، بأنه عملية وجد، حيث سعيه إلى الوجد -والوجد مرادف للعشق، والعشق متطور عن الحب الخالص- هو الذي أبقاه، تماما كما يبقى أثر الناي في النفس فيحي الروح، أما الشهاوي فهو الناي ذاته، بما يفيد أن رجع الصوت باق أبدا ما بقي الناي موجودا.
إن المطلق والعمومي يوقع الأشياء دائما في لبس التحديد، فلا يمكن أن نتبين شيئا من آخر ما دامت كل الأشياء مخلوطة معا في المطلق؛ لذا يصل بيرس إلى حقيقة كون العلامة النوعية لا وجود لها في الحقيقة، إنها فقط موجودة نظريا، أما عندما نتلمس وجودها تتحول فورا إلى علامة مفردة، يمجرد تحيينها الزماني أو المكاني. وبهذا، فإن الشهاوي في سعيه لتخليص نفسه مما يلتبس معها في العموم، أي تنقيتها عن الشوائب، والترقي بها إلى درجة تفرقه عن سائر الأشياء، بجعل ذاته ذاتا (علامة) نوعية لها وجودها الخاص، يعمل على نبذ كل أسباب الالتباس، ومن ثم يتخذ من اليقين مفردته الرئيسة التي يجعلها بمثابة محطات ارتكاز في سفر الترقي ينتقل من خلالها إلى الحياة، أو الوجود الحقيقي، فنجده يجعل المفردة “يقيني” المعرفة بإسنادها الإضافي إلى ياء المتكلم، ليصح الابتداء بها، مفردة مكررة. وإذا كنا نعرف أنه لا وجود لتكرار على الحقيقة، حيث تبقى لكل شيء خصوصيته، وإن كان مكررا، فهذا يعني أننا أمام مراحل للترقي، أو مراحل للوجود الحقيقي، تبدأ هذه المراحل بالعشق، ولا يكون العشق عشقا حقيقيا ما لم يمارس وجوده حرّا؛ أي إن العشق لا يوجد في عالم مكبل بالقيود. إنه العشق وليد الحرية، إنه حرية نوعية. أما خصوصية الشهاوي كمتصوف، فهي لكون عشقه لا ينبع من ذاته، بل إن العشق يتماهى مع هذه الذات فـ “العشق ليس سواي”، ومتى تتحقق هذه العلاقة (علاقة التماهي) يجد الشهاوي ذاته المخلّصة قد وجدت، تماما كما يتخلص حنين صوت الناي الحر من جسده بالغ الضيق. وفكرة الخلاص فكرة محورية في النص، وكأن الشهاوي هنا ينتقل من خصوصية الحلاج الدينية إلى الخلاص المسيحي، فكلاهما خلاص تحقق بالصلب؛ لذا لم يشغل الشهاوي من تجربة الحلاج -في هذا النص- سوى صلبه، على الرغم من كون متن القصيدة لم يشتمل على الحلاج وحده؛ بل ربما اشتمل على من هم أقرب منه منزلة، وأكثر مأساة، كالحسين رضي الله عنه، إلا أن الصلب لم يتوفر في الأسماء التي ذكرها الشهاوي كنماذج للحرية سوى للحلاج وحده. ويختلف صلب الحلاج عن الصلب في الثقافة المسيحية، في نقطة جوهرية وجودية، فصلب المسيح هو”تضحية”، والتضحية لون من الفناء، لأجل البشر؛ أي فناء جسد المسيح لأجل وجود واستمرار البشر استمرارا مخلصا من الذنب، أما صلب الحلاج فليس من أجل البشر، وإنما من أجل إيجاد الذات الملتبسة –قبل صلبها- بذنوب الدنيا؛ ومن ثم فمتى تصلب ترتق لتكون ذاتا عليا. صلب المسيح، كان لأجل تطهير البشر من خطيئة أبي البشر آدم، بينما صلب الحلاج فذنبه الحب الخاص للذات العلية، الأمر الذي كوفئ لأجله بأن ترقت ذاته لتكون ذاتا عليا، أو ذاتا كونية، امتلك صاحبها قلبا يسع الكون، ويتماهي معه تماهيا وجوديا، بحيث أصبح “الكون ما هو غير وجداني”، وإن تجلى هذا الوجدان (الوجود) في “سمت إنسان”، وهي حالة لا يمكن إدراكها بالعقل، ومن حاول تطبيق قوانين العقل عليها اتهم الحلاج بما اتهموه به، ذلك أن “تعطيل حركية العقل أو وضعه في منطقة الصمت كان عاملا حاسما لدى الصوفية في تحريك آلية أخرى ظلت ساكنة وهي القلب. فبلوغ الحقيقة وعبور الظاهر لا يمكنه أن يتم باعتماده العقل وحده، أو اتخاذه سلطة للمعرفة والحقيقة”. أما التفاصيل والجينات والدماء، فلا يسعها هذا السمت؛ لذا نجد الشهاوي، كالحلاج، يلوذ بالشعر؛ لأن الشعر وحده القادر على الفرار من قيد جسد الإنسان، إلى عوالم الغيب، والتي تتجمع كلها في “قلب الصوفي”. والقلب -كما هو معروف- بئر العشق العميقة، كلما أرسل وارده أتاه بالمعنى الدقيق الذي ربما لم يفطن له الناس المنغمسون في الدنيا، الأمر الذي اتهم لأجله الحلاج بالكفر، فاستبيح دمه على الصليب. الحقيقة أن الحلاج لم يُبِح الناس دمه على الصليب الخشبي، إلا بعدما أراقه هو بنفسه على صليب اللغة؛ ومن ثم لم يجد الشهاوي إلا الصليب نفسه (الشعر) ليجد ذاته عليه.
رؤيا العالم (اشتغال القصدية)
تتأسس رؤيا العالم، بوصفها نابعة عن قصدية الرائي (الشاعر)، على إيديولوجياته، وذكرنا أن الصوفية تشكل إحدى مرجعيات الشاعر الكبرى. وقد تتهم الدراسة بانخراطها في منحى موضوعي يتلمس مظاهر التصوف في شعر الشهاوي، وهو أمر ليس صحيحا؛ حيث تنبع الدراسة من منهجيتها التي تعتبر المرجعيات موزعة بين الموضوع والمؤول، وإن بطريقة مغايرة يشتغل النص كخط وصل بينهما. وبوصف النص الشعري، لغة، والشعر مرتبط وجوديا برؤيا العالم كما هو التصوف منظور لهذه الرؤية، فإن صليب اللغة (الشعر) تبنيه الرؤى المغايرة للعالم، وكأن الشهاوي يحدث مماهاة بينه وبين الشعر، فكلاهما لا يوجد إلا من خلال الرؤى، كما أن الرؤى هي المسئولة عن نقل العلامة من عموميتها إلى تجسدها في علامة أخرى مفردة، وإذا كانت الرؤى هي بطبيعتها صادرة عن راءٍ، فهي إذن نتاج طبيعي لقصدية الرائي. والحقيقة أن الإنسان عموما لا يوجد إلا في أفعال تجسد رؤى نوعية، ويضرب الشهاوي على هذا الإنسان الذي يتفق في سمت واحد (جسد واحد من حيث الخلقة)، نماذج متعددة سرد بعضها في آخر النص السابق، وكلها لاقت الموت بسيف الآخر الذي عمل –من خلال رؤاه الدنيوية المغلوطة المحكومة بنظام العقل- على إزهاق أرواحها، فمنحها ديمومة الحياة من حيث لا يدري. يتجلى هذا في الشخوص (الحلاج- السهروردي- النفري- ابن جبير- الحسن- الحسين- الأسود النخعي- جلال الدين – ميمون بن مروان- أبو الحسن- الجنيد- العز- طاووس –وكل ولي). وبعض هذه الأسماء لم يمت بفعل الآخرين، كالجنيد والعز بن عبد السلام، إلا أن سلوكهم الإنساني كان صادرا عن رؤى خاصة ميزتهم عن غيرهم من الناس. والشهاوي لم يكتف بذكر هذه الأسماء في متن قصيدة تصدر الحلاج وحده عنوانها، وإنما تناثرت الأسماء في عناوين قصائده، فنجد منها:
أسماء عربية ذكورية، ومنها: (الحسين أبدا- السهروردي وديمومة التجدد- النفّري مازال يقول- محاكمة الحلاج- من بكائيات عنترة بن شداد- من أوراق جميل بن معمر- خليل حاوي والقرار الأخير- ما في الجبة غير الحلاج- يهوذا- إلى روح الشيخ أحمد ياسين- الحسين شهيدا- البياتي والسفر الأخير- أبو العلاء- في ميدان عابدين: من عرابي إلى الخديوي- الشابي واعترافه الأخير- عن الزهاوي- مع أبي ذر الغفاري ثائرا- أغنية لجيفارا- الشهيد: إلى روح الشهيد هاشم الرفاعي).
أسماء عربية نسوية، ومنها: (فيروز وزهرة المدائن- رابعة العدوية- سالومي- وجميلة بوحريد).
أسماء غير عربية، ومنها: (تنتالوس وأسطورة العذاب الأبدي- حتى لا تنكسر الأبواب: إلى جراثيا لوركا).
ويلاحظ على هذه الأسماء كونها جميعا، باستثناء (سالومي- يهوذا)، على الرغم من اختلاف توجهاتها، نماذج حاولت تمثيل الحرية في مجالها، وكأنها جميعا علامات نوعية للموضوع الإنساني العام: الحرية. ويختلف، بالطبع، تمثيل كل منها شعريا، لكنها جميعا تتفق كعلامة نوعية في ذهن الشهاوي، فكلها نماذج طلبت الحرية، على طريقتها، وفيما يخصها، سواء حظيت بالموت في سبيلها إلى الحرية، أم لم تحظ، وحتى تلك التي لم تحظ بالموت كأمثال: عنترة بن شداد- جميلة بوحريد، تحديدا، كان الموت محيطا بحياتهم، فعنترة قضى عمره يقتل الأعداء دفاعا عن قبيلته التي لم تمنحه حريته أملا في أن ينال حريته، بينما جميلة فقاومت المعتدي الفرنسي الذي أذاق روحها الموت تعذيبا، بينما ظل جسدها مستمسكا ببقايا الروح، قابضا عليها بداخلها حتى زوال الاستعمار. أما أبو ذر الغفاري، فقد أعلن ثورته، نائيا بنفسه بعيدا حتى مات وحيدا في الربذة، مصدقا لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن في موت أبي ذر وحده علامة لها قيمتها. ويبقى أسماء لم تحظ بالموت، لكنها مع ذلك كابدته. وتكشف الأسماء السابقة عن كونية علامة الشهاوي، فهي لا تقف فقط عند أسماء تاريخية أو عربية، وإنما تتجاوزها إلى أسماء أجنبية كابدت المشقة نفسها. وإذا كانت العلامة بنيويا لا تتجلى إلا باختلافها عن غيرها، فإن الشهاوي يستحضر ضمن الأسماء التي عنون بها قصائده أسماء تسببت في هذا الموت، فيهوذا هو صاحب فخ صلب المسيح، وسالومي المشيرة بقتل يحيى ابن خالته عليهما السلام.
الأسماء السابقة، أكثرها ثائر، وأكثرها ذاق الموت، غير أن وحده الحلاج الذي صُلب، ووحده “يهوذا” هو الذي تسبب في صلب المسيح، كما يقولون، بل في ثقافتنا نحن، أن يهوذا هو الذي صلب بدل المسيح؛ لذا سنختار القصيدتين، في هذا الموضع، لبحث تمثيل علامة الحرية. وأولا، إن جمع النقيضين معا يكشف عن رؤيا قاصدة للجمع، فلم يكتف الشهاوي بذكر المصلوبين معا، وإنما يصوغ، من خلال الجمع بينهما، المأساة التي تفرق بينهما، فمأساة الحلاج راجعة إلى إجماع البشر عليه، وإصدارهم حكما بكفره، بخلاف يهوذا الذي صلب ليس صلبا قصديا، وإنما على اعتبار كونه المسيح، فلم يكن يهوذا هو المعني بالصلب، بخلاف الحلاج المعني بالصلب والذي صدر الحكم عليه؛ فنجد مفردة المحاكمة تتصدر عنوان قصيدته: محاكمة الحلاج، يقول الشهاوي:
(1)
تحاصرني صلصلات الهواجس
أقفز داخل نفسي
أقرئها سورة الحسم:
يا..
أنتِ أرفع من هامة الخصم
أنت حصان البراعة
هل تملك اللافتات المقامة
في سكة المقلتين احتجاز خطى الوجد
حين يجوب البلاد
يبيع البشارة للذائبين هوى وانتظارا
لمقدم فلك الولاية؟
تتطلب المحاكمة المسرح كنوع أدبي تتجلى من خلاله، ولعل أهم ما يمتاز به المسرح كجنس عن الأجناس الأخرى هو أسلوبية الحوار، وكأننا منذ قرأنا العنوان نتوقع حوارا يمثل الحلاج وحده أحد طرفيه، بينما يقف البشر جميعا أعلى منصة القضاء يفصّلون حكمهم عليه. إلا أن الحلاج لم يعطِ واحدا منهم فرصته، وإنما يسوق حجة براءته مما نسب إليه، ليبقى صوت الحلاج وحيدا حرا طول مدة المحاكمة، لم يقطعه صوت، وكأن الشاعر يختزل المحاكمة في مشهد واحد من مشاهدها، فيتحول من المحاكمة إلى المرافعة، والمرافعة انحياز وإيمان بالبراءة، وكل انحياز وإيمان قصدية. إن الحلاج تنازعه في نفسه صلصلات أقوى من محاصرة محاكميه الزائلة، فهواجسه تدفع به ناحية مصيره المحتوم الذي لا يجد مسارا غيره. وكأن الشاعر هنا يعلن عن نبوته، والشعر نبوة، وأول مظاهر النبوة الوحي، والوحي يتأتى في شكل صلصلات جرس تُقذف بداخله لتتلاقى مع “روح النبي التي تسكنه”، كما يصرح في القصيدة السابقة “ما في الجبة غير الحلاج”. وتتجلى في مفردات النص، هنا، مظاهر نبوته، (صلصلات- سورة- البشارة- الولاية)، وعالميتها (تجوب البلاد)، وكأن مرافعة الحلاج هنا محاولة منه لتوثيق التهمة وإثباتها عليه، فهي سبيله للوجد، أو للوجود، وبضاعته التي يبيعها للذائبين هوى وانتظارا لمثل هذا الوجود، وجودِ الولاية، والذي لا تستطيع اللغةُ أن تعبر عنه؛ لذا نجد في النص السابق المنادى محذوفا تعبر عنه نقطتان، والنقطتان ليستا علامة حذف، وكأنه يصر على وجوده، ولا يلغيه؛ لكنه وجود خاص. والنقطتان، مع هذا، علامة بصرية، لا يكافئها الصمت، وإنما تقف بشموخها “في سكة المقلتين” تحتجز خطى الوجد احتجاز لا يعيقه، وإنما ينبه على وجودها، الأمر الذي دفع الشهاوي، متماهيا مع الحلاج في جبة واحدة كما يدل عنوان القصيدة الأخرى التي سبق التمثيل بها، إلى بناء نص شعري يشغل الترقيم (3) في تسلسل القصيدة المكونة من ستة مقاطع، وهامش يحمل الهامش رقم (3)، الأمر الذي يعني أن الرقم (3) مكون من متن وهامش، ولا نجد في المتن أي حضور لغوي على الإطلاق، وإنما يشحذ البصر وحده، ويقوم بمهمة التلقي والتأويل:
(3)
…… …… ……
…… …… ……
…… …… ……!
إن إصرار الشهاوي على أن تشغل هذه النقط ترقيما وحدها يؤكد قصديته في قول ما لا تبلغه اللغة، وليس الأمر هنا مجرد مساحة صمت، بدليل وجود هامش على هذا المتن البصري، حضرت فيه اللغة؛ لكن حضورها لا لتقول، وإنما لتصف، ومعروف أن الوصف مهما بلغ من الإحكام لا يتطابق مع الموصوف، إنه شيء مغاير، يقول الشهاوي في الهامش:
ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) ليعلمْ جميع الخوارج
(في غلظة قالها أحد الجالسين
وأحسبه فوقهم رتبة)
أن كل هراءاتهم
(قالها في تحد وسخرية
مسندا ظهره فوق كرسيّه).
سوف تلقى من الردع ما يتطلبه الأمن
والأمن لن يستقر وأمثالكم خارج السجن
يستثمرون معاناة شعب يمر
ببعض الظروف.
ولسنا بأول شعب يعاني،
ولكنكم عصبة تستغل الظروف لصالحها،
تستثير الجماهير ضد النظام
وضد الحكومة.
لكننا سنري بأسنا كل من يدّعي!
في هذا الهامش، يحاول الشهاوي مزج واقعه الخاص بمحاكمة الحلاج، وكأن التهمتين الموجهتين واحدة، وكليهما محتجز في قفص واحد، الأمر الذي يكشف غايات المحاكِمين الدنيوية،فلم يكن صلب الحلاج انتصارا للدين كما زعموا بأن الحلاج يتماهى مع الذات العلية، مدعيا نبوته، وإنما هو في الحقيقة محافظة على سلطانهم الدنيوي، لذا نصّ الشهاوي في العنوان على مفردة (محاكمة) بدلا من (مرافعة)؛ لأن المحاكمة تتطلب جمهورا أشبه بجمهور المسرح الذي يشترط وجوده لتؤدى المسرحية على الخشبة؛ لكن الخشبة عند الحلاج لم تكن خشبة مسرح، وإنما خشبة صليب علّق جسده النازف عليها، لتقطر منه الدماء تماما كما هي النقط السوداء في متن التسلسل رقم (3)، أما الجمهور فيخشى النظام والحكومة أن يستميلهم الحلاج أو الشهاوي إلى جانبهم فيتبدد بذلك سلطانهم، غير أن السلطة لا تملك سوى القوة والبطش، بينما يملك الحلاج والشهاوي سلاحا أمضى وأقوى، إنه سلاح اللغة؛ لذا بقي من فعل السلطة موت الحلاج، ومن الحلاج كلماته، الأمر الذي حول القصيدة من المحاكمة إلى المرافعة، فالسلطة لم تقل، وإنما فعلت، حتى أقوالها أوردها الشهاوي على لسان الحلاج بين قوسين، وكأنه وحده الحلاج هو المتكلم في النص، وفي هذا بقاء له وحياة يستمدها أبدا ما بقي النص.
إن ما بين القوسين في هذا الهامش يشي بوصف بسيط، والوصف عنصر من عناصر السرد، وركن أصيل في الرواية، خصوصا عندما تتصاعد حدته، فيأتي الوصف لتخفيفها، وكأن لحظات الوصف في هذه القصيدة، وهي اللحظات المسجونة بين القوسين، هي وحدها محطات الإراحة بالنسبة للحلاج في محاكمته، خصوصا وهو يتحدث عن وصف السلطة له بأنه خارجي، فالهامش كله يخص طرف السلطة، وإن كان على لسان الحلاج، أو الشهاوي)، أما متن القصيدة، والذي فرّغه الشهاوي لصوت الحلاج وحده، فلا تحضر فيه السلطة إلا في التسلسل رقم (2)، يقول:
تعوّدت ألا أرقع بالآهة الكدمات،
تعودت أن أجعل الجرح أول خيط
يؤلف نسج شراعك
(كان زمان الأكاذيب
يكتب كشف الخوارج
يرصد قائمة الرافضين..
يزج بهم في غيابة جب العصاة..
يؤلب ضدهم الكلمات الأجيرة،
والنشرات المكيدة
والمقعدين الضحية)
ما كنت حين عشقتكِ إلا مجاديفك المخلصات
فلا تقنعي بالأضاليل
لا تقنعي!
يستبق الشهاوي، في هذا المتن المرقم بالتسلسل (2)، هامش التسلس (3) الحاضر آخر القصيدة، مكانيا، والاستباق عنصر زمني روائي، فنحن هنا أمام عملية تداخل أجناسي، استعار الشهاوي من الرواية عنصري الاستباق الزمني والوصف ليرسم صورة المحاكمة، والتنهمة الموجهة إليه، ليستميل الحرية إليه، وكأنه في مخاطبته لذاته الحرة يخاطب الجمهور المسرحي ألا يقنع بالأضاليل التي تتهمه بها الحكومة، والتي سيفرد لها الهامش. وإفراد الهامش لها دون المتن علامة على عدم اعترافه بها، فهي لا تدخل ضمن سياقه المتصل، ولا تعوق تسلسله، حتى وإن فعل الموت فعلته به كما يمثل عليه في التسلسل رقم (3)، فليس الموت سوى قول أبلغ من اللغة، ومن ثم فهو ليس خارجا عن متنه النصي.
وإذا كان الشهاوي قد آثر ضمير المتكلم كضمير وحيد بنى عليه قصيدة محاكمة الحلاج المصلوب مختارا، فإن المغايرة تقتضي مذلك مغايرة بنائية، فنجد المصلوب مكرها، كـ (يهوذا) الواشي بالمسيح عليه السلام، واللاقي جزاء وشايته المصير نفسه، يخاطبه الشهاوي بضمير الأنت، مصرا على الافتراق بينهما، وعلى حقيقة التضاد، فلا يمكن أن يكون الـ” أنت” أنا، و الـ ” أنا” أنت؛ ومن ثم فالمصلوب على الحق ليس كالمصلوب على غيره، يقول:
أهوِن برزئك جرحا يفجأ البدنا!
لكنما الصعب:
جرح يفجع الوطنا
هي الهموم وقلبي في حبائلها
قميصة تتلظى الهم والشجنا
لو لم يكن غير بعضي من يثير على
بعضي اللظى
لظننت الحظ والزمنا
لكن قومي -وهم قومي-
غدو فرقا
يحلو بها أن تساقي بعضها المحنا
في كل ذاتٍ “يهوذا” ليس يخجله
ما قد جناه من الآثام مضطغنا
يخاطب الشهاوي ذاته بضمير الأنت، مجردا من نفسه ذاتا أخرى مكلومة بفعل مكيدة الآخر، حتى هيمن هذا الآخر عليها، فألغى ضميره ضميرها، تماما كما ألغى يهوذا وجود المسيح الفعلي بين قومه، فغدو من بعدها فرقا متشرذمة. والفارق بين ما عبر عنه الشهاوي في قصيدة “محاكمة الحلاج”، وقصيدة “يهوذا”، يرجع إلى كون الحلاج كان يسعى إلى لملمة المشتت في واحد، عبر التوحد مع الآخر، بخلاف يهوذا الذي شتت الموحد، فتحول بعد وشايته الحواريون، ومن ثم النصارى بعده، إلى فرق دينية، أرثوذكس، وكاثوليك، وبروتستانت، وقد كانوا في وجود المسيح كيانا واحدا. أما الاختلاف البنائي بين القصيدتين، فيرجع إلى نوعية كلا القصيدتين، فقصيدة الحلاج مسرحية وإن غاب عنها عنصر الحوار، فتتجلى مظاهر مسرحتها في التسلسل الرقمي الذي تمتاز به المسرحيات المقسمة على فصول، وكذلك دخول عنصر الوصف، بالإضافة إلى التلقين المسرحي، والتشكيل البصري. أما قصيدة يهوذا فهي قصيدة عمودية من البسيط، إلا أن الشاعر لم يكتبها على نظام الشطرين، على الرغم من كون أعماله مليئة بقصائد من هذا النوع، ولعله لم يفعل ذلك رغبة منه في تفكيك الكل المتماسك الثابت ليحاكي به التفتت الذي أصاب الكيان المسيحي الواحد بعد صلب المسيح إثر وشاية “يهوذا”. نحن بذلك أمام نتيجتين مختلفتين لفعلي صلب، الأولى صلب الحلاج، ونتيجتها توحده مع الذات العلية، أو صلبه لقوله بالتوحد، أما صلب يهوذا عوضا عن المسيح، ففتتت الموحد إلى أشلاء متشرذمة، الأمر الذي أثر بنائيا في القصيدتين.
تجليات القصدية في النص
إن أبرز تجليات حضور الأنا المرسلة في لغة النص هو ظهور ظمائر المخاطِب (الكتكلم)، والتي تحيل عليه مباشرة، سواء أكان مؤلفا فعليا أو ضمنيا، فحضور ضمير المتكلم في النص علامة على وجوده الفعلي، وليس فقط وجوده الضمني، فإذا كنا نفترض وجودا ضمنيا للمؤلف، فإن دلالات ضمائر المتكلم، أو ما ينوب عنها، تؤكد حضور المؤلف فعليا، يقول الشهاوي:
يا أيها الطيف الذي كان المغنّي..
إني انقسمت بسيف دهري ألف جارحة..
ولم يتبق لي مني سوى البعض الوجيع!
من يستطيع إعادتي لي ثانيا؟
أعطيك عمري كله يا أيّ قلب يستطيعْ
إني انتثرت على جبال الهم أشلاء
وقد رحل “الخليل”!
من لي بمعجزة:
تجمعني..
ترتبني..
تصححني..
ترد لمهجتي العمر الجميلْ؟
أعطيك عمري كله يا من ترد إليّ:
أوتاري..
وأفكاري..
وإصراري..
وذاكرتي..
وعافيتي..
وأيامي التي ضاعت
وما زالت تضيعْ
(بياض)
أعطيك عمري كله..
لكن عمري لا يساوي غير:
قافية..
ومكتبة..
وتقريرات أفاك –يطاردني..
وجوع!
في هذا الجزء المقتبس من النص المعنون بـ (انشطار)، وللعنوان وظيفته هنا، نجد أن الشاعر وظّف ما يدل على الذات الفاعلة المرسلة ثمانية وعشرين مرة في ستة وعشرين سطرا، وكأنه ليس هناك سطر لم تحضر فيه الذات حضورا فعليا؛ بل ربما تعددت أشكال ومواضع حضور الذات. واللافت في هذا النص، كما يشير العنوان، هو انشطار الذات بين الفاعلية والمفعولية، بين الامتلاك والتملك، فنجد من الضمائر الدالة على الفاعلية: (انقسمت- انتثرت- أعطيك مرتين- ) حتى الأفعال التي أسندت إلى ضمائر الفاعل تكشف عن هذا ( الانقسام/ الانشطار- الانتثار/ الانشطار) والفعل أعطيك يعني انتقال حالة من ملكية الذات إلى ملكية الآخر، وكأنها هي الأخرى تنشطر بين امتلاكين. وتدل لغة النص على نوعية هذين الامتلاكين، فالأول أن تمتلك الذات وجودها، والثاني أن يمتلكها النص، ويكشف الواقع الشعري، والسياق اللغوي، عن عدم استطاعة أحد العنصرين احتواء الآخر بالكلية، ومعنى هذا أن ثمة منطقة اشتراك يتلاقيان فيها، بينما ينفرد كل عنصر بوجوده المستقل من جهة ثانية، وهو في محاولته إثبات وجوده المستقل، والسيطرة/ الهيمنة على الآخر يدخل عملية صراع، ومعروف أن الصراع أساس إنتاج المعنى الأدبي، ومن ثم كان الجزء الخاص بالمرسل (الوجود الخالص للذات) فاعلا في وجود النص، وإن كان النص له سلطة الهيمنة الأكبر عليه؛ حيث النص يضع الذات موضع المفعولية كثيرا: (تجمعني- ترتبني- تصححني- يطاردني). واللافت في الأفعال جميعها، لا سيما الثلاثة الأولى منها، أن الذات منشطرة، بينما القصيدة أو النص هي المسئولة عن إعادة التجميع/ الترتيب/ التصحيح، ومعنى هذا سيميائيا أن الذات كالموضوع تماما، أو هي الموضوع، موغلة في العموميات، بينما النص بوصفه الممثل هو الذي ينقلها من تشظيها/ انشطارها إلى كيان نصي، أي الانتقال من بعد الموضوع إلى بعد الممثل. وليس معنى هذا أن النص فاعل في تشكيل/ ترتيب/ تجميع الذات المرسلة، الأمر الذي قد يوهم باستقلالية النص وهيمنته على الذات المؤلف هيمنة وصلت مع البنيوية حد الإلغاء “موت المؤلف”، غير أن الفعل الأخير “تطاردني” –وللنهاية كموقعة مكانية دورها الدلالي الحاسم- يكشف بما لا يدع مجالا للبس عن تملص الذات المرسلة من ربقة النص، ومحاولتها الفرار منه، وكأن فعل المطاردة ليس فقط من جهة القصيدة للذات؛ بل هو من الذات إلى القصيدة تماما. وهو ما سمي في شعرية الحداثة بمراوغة النص والمعنى. ولأجل ألا يتوهم متوهم هيمنة النص وحده على الذات، نجد لياء المتكلم حضورها الطاغي في النص: (إني- دهري- لي- مني- إعادتي- لي- عمري- إني- لي- لمهجتي- عمري- إليّ- أوتاري- أفكاري- إصراري- ذاكرتي- عافيتي- أيامي- عمري مرتين).
إن للنص وظيفة تمثيلية تتجاوز موضوع العلامة المعين إلى موضوعات أخرى تشتمل على إيديولوجيا المؤلف، فإذا كنا نقنع بأن إيديولوجيا المؤلف فاعلة في إنتناج النص، فإننا لا يمكننا إيجاد، أو التماس، هذه الإيديولوجيا إلا من خلال تحليل النص نفسه، وكأن حركة القصدية من الشاعر إلى النص هي حركة إنتاجية يولد من خلالها النص، بالقدر نفسه الذي تتحرك فيه الإحالة من النص إلى الذات المرسلة ليعيد النص إنتاج المؤلف، الأمر الذي جعل المؤلف متوزعا بين وجود فعلي، أو ما نسميه المؤلف الفعلي، ووجود نصي، أو ما نسميه المؤلف النصي، والفارق بين المؤلفين مهم جدا، ويرجع إلى كون المؤلف الفعلي له حياته الخاصة التي قد لا تعنينا في تحليل النص الأدبي، وإن كان جزء منها يعنينا بالضرورة، أما المؤلف الضمني فهو في الحقيقة نتاج النص، أي إنه يعنينا بالكلية. ومادام المؤلف الفعلي قد لا يعنيني في كثير من الأحيان صحّ أن يغيب عن النص دون أن يتأثر النص، أما المؤلف الضمني فهو حاضر دوما في النص حضورا متخفيا، وقد يظهر في بعض الأحيان، فيتطابق مع جزء من المؤلف الفعلي. وهو ما عبر عنه الشهاوي بعبارته: “أعطيك عمري كله يا أي قلب يستطيع”، فالقلب هنا -وللقلب مرجعيته الصوفية بوصفه محل الباطن- هو القصيدة التي تشتمل على المؤلف الضمني الذي يمنحه المؤلف الفعلي (الشهاوي) ويبثه في قصيدته، إن واعيا أو غير واعٍ، وليس أحد يستطيع أداء هذه المهمة أفضل من النص الأدبي، لا سيما إن كان نصا صوفيا.
إن إغلاق النص على نفسه يجعل نسقية التشكيل اللغوي وحدها المسيطرة على النص، والمحددة لمسارات دلالته المعزولة عن عوالمه الخارجية، سواء كانت نفسية أو تاريخية أو اجتماعية؛ بما يؤدي إلى القطيعة التواصلية الأدبية التي تعتمد على الجمال ما بين مبدع وفق قصديته، ومتلق- من المفترض- أنه يعيد بناء النص وفق علاماته التي أسس لها المرسل، ليعبر من خلالها إلى المتلقي، فأول ما يتلقى المرسل في النص بعد العنوان، العلامات التي تحيل إلى خارج النص، أو العلامات المرجعية/ المؤشرات، فالمؤلف لا يتوسل بالعلامات المرجعية مختارا؛ بل محكوما برؤيته للعالم من جهة، وقصديته نصه من جهة أخرى، وعليه فثمة علاقات سيميائية فيما بين هذه العلامات المرجعية جميعها، وبناء هذه العلاقات يوسع من طموح القارئ، ويدخله مطمئنا إلى العلامات الشعرية الخالصة، فالتغاضي عن تلك العلامات وتحليلها تحليلا سيميائيا، يضع المرسلة/ النص في سياج يجمع ما بين مرسل النص ومتلقيه وفق رؤيتهما للعالم، حتى يتسنى للمتلقي أن يقبض على تلك المعاني، ويدخل بها عبر مسارات التأويل. ولقد أورد كل من الدكتور( عبدالله إبراهيم، سعيد الغانمي، عوادا علي) نقلا عن جوليا كريستيفا – في لقاء لها- قولها: “إن السيميولوجيا تخطت جدار اللغة وانطلقت منها باتجاه نظرية علم الأدب. محور النظرية، ليس الآثار الأدبية بكل ارتباطاتها وانعكاساتها التاريخية- الاجتماعية- الأيدلوجية، بقدر ما هو رصد للكتابة، ودخول إلى العصر ومطاردة الخيال في لقطاته الواقعية. فالتحليل السيميائي” السيمولوجي” الذي أنادي به لا ينتهي إلى الشعر. يبقى علما شموليا، متسلحا بأدوات صارمة لاستبطان ملامح الفكر وحميمياته، والمؤثرات التي تخضع لها. إذا كانت ثمة طوباوية في الجسد- اللغة- المعرفة، فإن أبحاثي تتحول إلى فينومنولوجيا معرفية انطلاقا من إشارات اللغة. هكذا إذا، فإن كريستيفا تهدف إلى مسك كثافة النص، دون أن تعني بوظائفه، وتضيف: أرفض قراءة النص قراءة ساذجةً، لكن هل النص هو ذاته؟ هنا انعطافي عن البنيوية، هذا المصطلح الغامض الذي أتردد في تحديده بشكل نهائي، متوكئة على إضافات ( لاكان- وليفي شتراوس- وميشال فوكو) الذين هم عوالم متغيرة؛ ليفي شتراوس محور نشاطاته حول تأويلات اجتماعية- اقتصادية، غير أنه لم يصل إلى حد استكشاف الكهوف البلورية في النص حيث يتداخل ما يهبط من السقف مع ما ينبت من الأرض.” فالنص كمرسلة لغوية تتوسط بين طرفيها: (مرسل- مستقبل) لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال علاقاتها بتلك العوالم المشتركة بين مرسل النص ومتلقيه، تلك العوالم التي تتشابك والنص، و تكوّن جسرا تواصليا، فالقصد أو القصدية هي التي أراد المرسل أن يرسلها نصا إلى المستقبل، و جعلت المرسل يضع المتلقي نصب عينيه، إزاء تأليف تلك المرسلة، وبهذا يكون القارئ مشاركا في النص، بل عند تلقيه يعيد إنتاجية النص مرة أخرى، وفق قصديته هو. فلابد من قصد أولي من أجله أنتجت المرسلة اللغوية، وبغير هذا القصد يتيه المرسل إليه في مسارات المعنى، وتخوم الدلالة، وتنتقل الوظيفة التواصلية إلى الوظيفية الدلالية، فقد جعل “برييتو” القصد أساسا لعملية الاتصال، فلا تواصل إلا بالقصدية الصادرة عن الباث عبر مرسلته، وهذا ما يسمى بسيمياء التواصل؛ حيث “يذهب أنصار هذا الاتجاه (بويسنس، برييتو، مونان، كرايس، أوستين، فتجنشتاين، مارتيتيه) إلى أن العلامة تتكون من وحدة ثلاثية المبنى: الدال، والمدلول، والقصد. وهم يركزون في أبحاثهم على الوظيفة التواصلية، أو الاتصالية، ولا تختص هذه الوظيفة بالرسالة اللسانية، وإنما توجد، أيضا في البنيات السيميائية التي تشكلها الحقول غير اللسانية، غير أن هذا التواصل مشروط بالقصدية، وإرادة المرسل في التأثير على الغير، إذ لا يمكن للعلامة أن تكون أداة التواصلية القصدية ما لم تشترط القصدية التواصلية الواعية.”