سليم النجار يكتب حكايات الذكريات في قلب السيرة الذاتية
يلجأ عادة الكاتب/ الكاتبة في منجزهما الروائي إلى آليات خاصّة يحرصان فيهما على محاولة كتابة سيرة الواقع بأي طريقة عن طريق التعبير، والمقصود بالسيرة هذه ليست كتابة السيرة الذاتية للكاتب أو الكاتبة بمعناها المعروف، ولكن من خلال تحويل الإرهاصات الأولى للنص الروائي في السياق العام للعمل إلى مقدمة تنطلق بالتمهيد العفوي لمرحلة البدايات وإدخال المتلقي إلى بؤرة المشهد الروائي، شبه السيرة الذاتية وجذبه إلى طريق الدهشة، ومواصلة القراءة، ما يجعله يتماهى في نسيج النّصّ وتلقّي العمل في وقائعه وأحداثه والتّوحّد مع أحداث الرواية، ورواية “امرأة القلق- سيرة ثقافية” للكاتبة ميرال الطحاوي الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب- ٢٠١٢، وقد كان لميرال طريقتها الخاصة في التغلغل في وعي المتلقّي، من خلال تقنيات خاصّة بها، واختيارات ذكية لمناخات نصّها.
بهذا المنولوج الداخلي تتماهى نظرة ورؤية ميرال الطحاوي إلى سيرتها الأولى في القراءة لكتب بعينها، ما هو إلّا شعور يولد مع التمرّد، لذا فقد أحست الطحاوي بشعور التمرّد يسري في خلاياها ووعيها، فبدأت في تقبّل التمرّد الواقعي والخروج من الحياة التقليدية، التي تحكمها التناقضات، وقبح السكون، فكانت خبراتها في قراءة كتب بعينها كما أشرنا سابقاً دعوة وإشارة لفتح مغاليق الحياة، “أتذكّر الكتب الأولى في حياتي بألوانها، وملمسها، وموضعها في دولاب الأغلفة المتراصّة، أوّل قصّة حبّ قرأتها كانت رواية “ماجدولين” أو “تحت ظلال الزيزفون” ص٩”.
ولأنّ حكاية الطحاوي المملؤة بأحداثٍ وأموٍر ووقائعَ تتبي عن رؤية ودلالات وتأويلات تمنح من وقائعَ شديدة التركيز والبساطة، لكنها تفصح عن معنى كبير يكاد يختفي وراء السطور ويظهر من خلال الكلمات البسيطة والأحداث الموحية والرؤية النافذة المطلةّ من حكي تتعلّق فيه الرؤية إلى حدّ الإفصاح، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم، وتقع في براثن “الندّاهة” ليوسف إدريس، “أتابع الفتاة القروية التي تحلم بالتحليق فتضيع في مدينة القاهرة الكبيرة المغوية ص١١”.
كما أنّ القارئ لهذه الحكايات يجد نفسه أمام طاقة فنية نابعة من وقائع اجتماعية قلقة، ونماذج نصية تحكي عن رؤية المرأة ونظرتها الأولى في مراحلها المبكرة، “بدأت المنافسة بقراءة “هاملت” ولا “عطيل” ولا “ديدمونة” تعيرني مسرحيات “شكسبير” المعربَّة” بلغة فخمة فتطلق لي لأحلم بأنْ أكتب مسرحية ص١٣”.
لقد باتت الحدود الفاصلة “بين السيرة الذاتية والرواية” شكل من أشكال الخطاب الفنّي وأشكال الخطاب الخاصّ بالعام كما فعلت الطحاوي في سيرتها الثقافية. وبخاصّة التاريخ الأوّل لحياتها ومن ثمّ عبورها للوصف الجمالي للمكان الذي تناولته في عبورها الأوّل لسنين شبابها، إذاً، بات ذا طبيعة تشاركية علينا التفكير أيضاً في أسئلة ما تزال موضوع سجال في الحساسية المعاصرة: ما هي العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية؟ هشاشة الحدود بين السيرة واللا سيرة واللا الرواية؟ من أين تبدأ السيرة، وأين تنتهي؟
لكن في ظلّ جدلية كهذه، هل في استطاعة الجمالية أن تحتفظ بموهبة الإبداع لجميع الأجناس الأدبية.
إنّ ما فعلته الطحاوي في سيرتها الثقافية، قراءة مجمعنا المعاصر، من خلال تقديم مشاهد روائية جوهرها تنوّعها في عرض الكتب التي قرأتها، التي أشّرت أيضاً إلى تفاوت مستوياتها الإبداعية، هذه الالتقاطة الذكية تشير إلى تطوّر وعيها بشكل تدرّجي. وإنْ كانت هذه الكتب في أبعادها: السياسي والفكري والثقافي، تمضي إلى دمج وتوحيد أشكال العيش والمعارف والثقافات في العالم، متجاوزة الخصوصيات وكافّة الفروق في سبيل جعلها مكاناً واحداً، وعبر عملية غير نمطية، فكانت غرفتها نافذة على العالم، أي مختبراً لأفكارها التي كانت جسرًا للعالم، وبالمناسبة التي فتحت مغاليقه ليس افتراضياً، إنّ حساسية الطحاوي الجمالية والذوقية ضمن مجال غرفتها واجتها عقبات مفترضة ومنطقية، خاصّة عندما تجاوزت حدود العرف، وأبدعت عندما وصفت الاعتراض على قراءة روايات الحب.
يعيدنا الحديث عن السيرورة إلى علاقة الرواية بالمرأة والواقع. هل أن ّالرواية مطالبة بنقد الواقع للمرأة وتجذيره أو تغييره كما يُراد لها؟ أم أنّ عليها أنْ توفِّر مجالا تشتغل عليه مباحث أخرى، هي الكفيلة بالتغيير والتجذير والنقد، على غرار استفادة العلوم النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجيا من الرواية الغربية؟
على الرغم من أن كلمة (التغيير) كبيرة جدا على الرواية أو الأدب والفن بعامة٠ غير أن الرواية أو القصيدة أو اللوحة يمكن لها أن شاءت أن تعري من الواقع ما تعرّي، “”لا يوجد من المهام ما يمثل عذاب “سيزيف” من العمل المنزلي بتكراره الذي لا ينتهي، فالنظيف يتّسخ، والمتّسخ يتمّ تنظيفه مرات ومرات عديدة، ويومًا بعد يوم تنهك ربة المنزل نفسها وهي تحسب الزمن ص٥٢”.
هناك اشتغال على الدوائر الحكائية وعلى دمج مستويات السرد في اعتمال غير مألوف في رواية “امرأة الأرق- سيرة ثقافية”، حكاية تفضي إلى أخرى، “كانت أمّي دائما تواجه أرقها كأمّ بأعمال البيت الشاقة، تواجه لحظات المرض التي كنّا نمّر بها صغاراً، انتظار النتائج الدراسية، لحظات النتائج الدراسية، لحظات الصدام في البيوت المغلقة، ص٥٥”.
كما أنّ القارئ لهذه الحكايات يجد نفسه أمام طاقة فنية نابعة من وقائع اجتماعية شبه أسطورية محدّدة، ونماذج نصية تحكي جوانب من اعترافات الكاتبة السيريّة في مرحلة صباها، “في ساحة الفناء كان ثمّة ساحر يروِّض كوبرا ضخمة لا أعرف لماذا أحسست بأنّها أنثى مثلي! ص١١٦”. خاصّة تلك النظرة الأولية للمرأة في مراحلها المبكرة، حين كانت سنين التفتح والمراهقة والرؤية والتفاعل في هذه المرحلة على سبيل المثال، “الحنين إلى البيوت القديمة عتبات الطفولة هو الذي يلقى بسؤال الحرية في وجهها مرّة أخرى فتتساءل: “والآن كيف ينهض شخص إلى الرّقص ويحلّ ضفائر طفولته في الماء الجاري، ويشمّ التّفاحة التي قطفها في النهاية ويدوسها بأقدامه؟” تكتب ديوانها الأخير ” لنؤمن ببداية فصل بارد” ص٨٢-٨٣”.
هذه الحكايات تتداخل فيه عوامل الواقع، له صفة التأريخ لحارة الطحاوي، والبعض الآخر له صفة التخييل ذي البعد الإنساني الممتلئ بممارسات الشخصية الشعبية بتلقائيتها وعفويتها، والحكايات في بنائها الفنّي تستمدّ شكلها من الحكي القصصي المتواتر المتّسم بالقصر الشديد.
رواية “امرأة الأرق” لميرال الطحاوي كما تبدو أبعاد الفكرة والرؤية المستمدّة في نسيج كلّ حكاية وكأن هناك بعداً سيريّاً واعترافيّاً يكمن داخل بعض هذه الحكايات لارتباطه بمرحلة سنيّة مبكرة عند الرّوائية.
رواية تحاور زمنا قد مضى، لكن كان له مفاعيله الاجتماعية، فكانت “امرأة من أرق.”