أخبار ثقافيةأخبار عاجلة

د. عصام البرّام أزمة ثقافة أم أزمة أخلاق ..؟ رؤية في واقع معاصر

القاهرة

في زمن العولمة المتسارع، والتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العميقة، وغيرها من المتغيرات الكثيرة، يتساءل الكثيرون حول طبيعة الازمات التي تواجه البشرية، هل نحن أمام أزمة ثقافة تعبّر عن تراجع القيم والمعايير الانسانية حقاً، أم أن الأزمة الاساسية هي أزمة أخلاق تعكس انحلال القيم الانسانية والمبادئ الاخلاقية ..؟

تشير أكثر الدراسات في عصرنا الراهن بتزايد التحديات عن العصور السابقة، وتتسائل هل نعيش حقا هاتين الأزمتين؟ وهل هناك علاقة وتأثير بين هذين المفهومين؟ هذا التساؤل يقودنا للغوص في عمق التغيرات الثقافية والاخلاقية التي تسيطر على عالمنا اليوم.

مفهوم الثقافة والاخلاق

يتفق اكثر علماء الانثروبولوجيا؛ بأن الثقافة هي مجموعة القيم والعادات والمعتقدات والفنون والمعارف التي تتناقلها الاجيال، والتي تشكل هوية الأفراد والجماعات، والتي تلعب دوراً محورياً  في تشكيل الوعي عند الأفراد وسلوكهم داخل المجتمع.

فيما يتفقوا على إن الأخلاق؛ هي مجموعة المبادئ والمعايير التي تحكم سلوك الأفراد وتحدد ما هو صحيح وما هو خاطئ، فالأخلاق تمثل الضمير الجماعي الذي يرشد الأفراد نحو التصرف بطريقة ومسؤولة وإنسانية تجاه الذات وأمام الآخرين.

ففي العقود الاخيرة شهد العالم تحولات ثقافية جذرية بفعل العولمة وتطور التكنولوجيا، هذه التغيرات أثرت على القيم التقليدية وأتت بمفاهيم جديدة تتناقض أحيانا مع القيم والتراث الثقافي للعديد من الشعوب، فالأزمة الثقافية تتجلى في عدة مظاهر، ففقدان الهوية التي يعاني منها الكثير من الأفراد، وبما يسمى أزمة الهوية، هي نتيجة لتداخل الثقافات للأمم والشعوب من جهة، والعولمة التي غزت العالم من جهة أخرى، مما أدى الى ضعف الانتماء الثقافي للشعوب من خلال الانصهار فيها. كذلك الحال الاستلاب الثقافي، حيث تُبنى ثقافات غربية طارئة على الشعوب، وتتجاهل الثقافة المحلية والأرث الثقافي وتراث هذه الأمم، مما يؤدي الى تآكل الهوية الثقافية  للمجتمع، وبالتالي سيسمح الى ظهور السطحية، أي أنتشار الثقافة السطحية والمعرفة السطحية بدلاً من  الثقافة العميقة والمعرفة الجادة التي توارثتها الأمم الحية عبر تأريخ أُمتها القديم وما نتجت عنه من حضارة لاحقة. وتقف وراء هذه أسباب عدة؛ نوجز منها  بما يسمح في هذا المقام من المقال.

 فقد لعبت العولمة دوراً كبيراً في نشر القيم والثقافات الغربية في مجتمعات كثيرة حول العالم، وأصبحت القيم المحلية تكاد مهددة بالانقراض أمام غزو القيم العالمية الجديدة، مما أثار تساؤلات حول مصير التراث الثقافي للأمة، فتأثير العولمة على الثقافات المحلية يؤدي الى تداخل الثقافات ببعضها من خلال اختراقها قسراً تارة أو رغبة ملحة تارة أخرى، وبالتالي ينعكس ذلك شيئاً فشيء الى فقدان الهوية الغالبة للأمة، وتجدها ساعيةً مبهورة أمام الانبهار الذي يأخذها في عالم التطور التكنولوجي.

وهنا يأتي دور التكنولوجيا  بتأثيرها المتشعب في كل مفاصل الحياة، ومنها تأتي سيطرة وسائل الإعلام الحديثة والشبكات الاجتماعية على تشكيل وعي الأفراد ونشر ثقافات سطحية؛ وقد تكون جادة أحياناً، ولكن في أبعاد ومغزى عميق يؤثر في السلوك والوعي لاحقاً. (مثالها لا الحصر، وصلت الحوارات باللهجة العامية وشبه ضياع اللغة الأم).

فضلاً عن ذلك، ضعف المناهج التعليمية التي لا تواكب حركة التطور في تعزز الهوية الثقافية الوطنية وتعميق القيم ومراقبة تردي حالة المجتمع، والأخذ بدراستها من حيث الاسباب بغية الوصول للنتائج الموجبة.

في حين تتجلى الأزمة الاخلاقية في عدة مظاهر منها، يتجسد في القيم التي تتمثل بالأمانة والإخلاص والعدالة ونكران الذات والمرؤة ..الخ مما يؤدي الى تراجع القيم الانسانية والاخلاقية ،وانتشار الفساد وتزايد معدلاته في المجتمعات، سواء كان ذلك في القطاعين العام أو الخاص، وبالتالي يقود الى تدهور العلاقات الاجتماعية وانتشار الأنانية والفردية داخل المجتمع الواحد.

وهذه لها اسبابها هي الأخرى، منها؛ ضعف التربية الأسرية أولاً وهي تعد الخلية أو المجتمع الصغير والأهم الذي تقع على جانب الأسرة، والمدرسة ثانيا في غرس القيم الاخلاقية، أضافة الى تراجع دور المؤسسات الدينية والثقافية والمؤسسات الاجتماعية، ودور الإعلام  بكل وسائله،  في تعزيز الأخلاق وزرع روح الاحترام والمحبة والمودة بين أفراد الاسرة والمجتمع الواحد بكل شرائحه. 

ومما لاشك فيه يمكن ان نقول؛ فان للاقتصاد (النيوليبرالي) الذي يعصف بالعالم اليوم والذي يركز على الربح والفردية وقهر الآخر على حساب القيم الانسانية، يشكل عاملاً مهما لا يمكن الاستهانة به، لذا ان يأخذ بنظر الاعتبار في كيفية تجاوز المحن الاقتصادية والتضخم والجشع المادي على حساب الآخر بين الناس.

العلاقة بين الازمة الثقافية والاخلاقية ولكي نسعى جاهدين بما يمكن الوصول اليه من حيث الأخذ بالمجتمع نحو الصلاح والاصلاح ومواجهة ما يعصف به من تحديات، ينبغي على الجهة المسؤولة أن تسعى الى تعزيز التعليم  وأن يكون شاملاً، لا يقتصر على المعرفة الاكاديمية، بل يعزز القيم والأخلاق والتركيز على تطوير المناهج التعليمية بما ينسجم ويواكب التطورات الحضارية، وأن تغرس مبادئ المسؤولية، الاحترام، النزاهة، والتعاون في نفوس الاطفال والشباب منذ سن مبكرة، لأجل بناء الهوية الثقافية والاخلاقية للفرد داخل الاسرة، ومن ثم المجتمع،  وتربية جيل واعي قادر على مواجهة تحديات العصر، بعيداً عن الأثنية والطبقية وما يدور حول فلكها من طمس الهوية الوطنية.

ومما لا شك فيه فأن القادة السياسيين ورجال الدين والاجتماعيون، يلعبون دوراً مهماً في ترسيخ القيم من خلال القدوة، عندما يرى الناس قادتهم يتصرفون بنزاهة وحكمة، فأنهم يميلون الى تبني هذه القيم في حياتهم اليومية، فان بناء دولة قوية يتطلب مؤسسات فعالة ونزيهة، كما ينبغي ان تكون الحكومات شفافة وخاضعة للمساءلة، وتعمل على تحقيق العدالة للجميع، عندها يشعر الناس بأنهم يعيشون في دولة تحترم حقوقهم وتوفر لهم فرصاً متساوية، فإن هذا سيعزز شعورهم بالمسؤولية تجاه المجتمع.

إن الدول المتقدمة تركز على تحسين نوعية الحياة للمواطنين، وهذا يتضمن الاهتمام بنظام صحي وتعلمي قوي، وتوفير فرص عمل، وضمان حقوق الإنسان، وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية الذي يسهم في بناء أمة قوية ومستقرة.

كما يقع على الإعلام، أن يأخذ دوره الواسع والحقيقي، فوسائل الإعلام تحمل مسؤوليتها في نشر ثقافة عميقة وأخلاقية ومؤثرة، شرط الابتعاد عن السطحية والإثارة، والكف عن كل ما يثير شرائح المجتمع المختلفة من افكار سلبية، خاصة المجتمعات التي تتوزع فيها الأديان والطوائف والأثنيات، وأيضاً المجتمعات التي يتعايش معها، ونعني بوجود أناس أجانب من دول شتى تعيش مع ذلك المجتمع، فينبغي السعي والارتقاء الى الشفافية والتحلي بروح المواطنة والتسامح ونبذ العنف والدعوة الى السلام المجتمعي واحترام الأطراف المتعايشة معها، من أجل دولة واحدة للجميع.

أن زرع شعور الانتماء والولاء للوطن، يعزز من الوحدة والتضامن بين أفراد المجتمع، عندما يشعرون بأنهم جزء من مشروع أكبر، فأنهم يصبحون أكثر استعدادا للعمل من أجل تحسين بلادهم، لذا فالدول المتقدمة والمتطورة  غالباً ما نجدها تسعى للتعاون مع الدول الأخرى لتحقيق أهداف مشتركة، وبناء علاقات قوية والابتعاد عن الصراعات المسلحة التي تسهم في الاستقرار والازدهار، وبذلك تساعد على بناء مجتمع قوي ودولة متقدمة تستند الى القيّم والأخلاق ورقي ثقافاتها، وتعمل من أجل مصلحة الجميع في الدولة الواحدة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى