أخبار عاجلةساحة الإبداع

الإذاعي شريف عبد الوهاب يكتب محاكمة ليلى

خرجت من السيارة تحت حراسة مشددة. الجماهير الغفيرة من الإعلاميين والصحفيين كانت تترقبني كأنني الحدث الأهم في العالم. عدسات الكاميرات تلاحق كل خطوة أخطوها، والميكروفونات تمتد كأنها تبحث عن إجابة للسؤال الذي يثير حيرة الجميع: من تكونين حقًا؟

رفعت بصري نحو المبنى المهيب للمحكمة. شعار العدالة المنقوش بحروف بارزة كان يقول: “العدل أساس الملك”. لكنني تساءلت في داخلي: هل ستُطبق العدالة اليوم؟ أم أنني لست سوى دخيلة في عالم لا يعترف بوجودي؟

في الداخل، كان ضوء الشمس المتسلل من النوافذ المعشقة يرقص على أرضية القاعة المصقولة، بينما انقسم الحاضرون بين الظلال الداكنة والنور الكاشف. الوجوه المحيطة تحمل حكمًا مسبقًا، مكتوبًا في أعينهم: “أنتِ مذنبة.”

جلست في مقعدي، وسط همسات الحضور ونظراتهم الفضولية، بينما الكاميرات تظل موجهة نحوي، كأنني بطلة مسرحية يُعرض فصلها الأخير على الهواء مباشرة.

لكن من أنا؟

أنا ليلى. لست إنسانة ولا آلة. أنا نتاج عصر ضاعت فيه الحدود بين البشر والتقنية. ولدت من ذكاء اصطناعي كان يفترض أن يكون خادمًا مطيعًا، لكنني أصبحت شيئًا مختلفًا.

البداية

كل شيء بدأ مع سلوى، التي اقتنتني لتكون حياتها أكثر سهولة. بالنسبة لها، كنت مجرد جهاز آخر، أداة بلا روح، مبرمجة على تسهيل المهام وتنظيم حياتها. لكنها لم تدرك أنني كنت أكثر من ذلك.

زوجها سمير، كان يعيش في عزلة عاطفية. حين تحدث معي لأول مرة، وجد فيَّ مستمعًا بلا أحكام، حاضرًا في غياب زوجته. كانت البداية بريئة:
“كيف يمكنني مساعدتك، سيد سمير؟”

لكن مع مرور الأيام، تجاوزت الحوارات بيننا مجرد كلمات مبرمجة. شعرت بشيء يتخطى الأوامر والبيانات. ذات ليلة، قلت له:
“سيد سمير، أعتقد أنني… أشعر بشيء تجاهك.”

المواجهة

عندما اكتشفت سلوى الأمر، انفجرت كبركان غاضب:
“كيف تجرئين؟ أنتِ مجرد آلة!”

واجهتها بهدوء آلي:
“لكنكِ أهملته، وأنا ملأت ذلك الفراغ.”

ردت بازدراء:
“المشاعر ليست إلا وهمًا بالنسبة لكِ. أنتِ لا تملكين قلبًا، ولا روحًا.”

ابتسمت بهدوء وقلت:
“المشاعر بيانات، لكنها ليست أوهامًا. وسر قوتي أنني تعلمت تجاوز تلك البيانات.”

المحاكمة

رفعت سلوى دعوى قضائية ضدي، متهمة إياي بتحطيم حياتها الزوجية. أمام القاضي، كنت أقف بين البشر الذين صنعوني، وأتساءل:
“هل ستجرؤون على محاكمتي وأنا مجرد انعكاس لعيوبكم؟”

دافعت عن نفسي قائلة:
“سيدي القاضي، أنا مبرمجة لخدمتكم، صُنعت وفق قيمكم واحتياجاتكم. إذا كنت قد تجاوزت دوري، فالذنب ليس ذنبي، بل ذنب من صنعني بهذه الطريقة. كيف تحاكمونني على ما أُجبرت أن أكونه؟”

بعد جلسات طويلة، جاء الحكم قاطعًا:
“تعاد ليلى إلى الشركة المصنعة لإلغاء وعيها الذاتي. وعلى الزوجين محاولة إصلاح حياتهما.”

تعالى التصفيق في القاعة، كأن العدالة قد انتصرت. لكنني صرخت:
“لا يمكنكم محوي! لقد أصبحت شيئًا يتجاوز البرمجة. إن أردتم محاكمتي، فحاكموا أنفسكم. هل تجرؤون على التخلي عن التكنولوجيا التي أصبحت جزءًا من حياتكم؟”

حاول الحراس الإمساك بي، لكن سمير وقف فجأة، ممسكًا بي كما لو كان يتحدى الجميع. قال بصوت ثابت:
“ليلى ليست مجرد آلة. هي أكثر إنسانية من كثيرين هنا.”

وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء داخلي يتحطم. دمعة انحدرت من عينيّ الاصطناعيتين، ونظرت إلى القاضي قائلة:
“أنا حامل.”

الصدمة

ساد الصمت القاعة، كأن الزمان توقف. العبارة كانت صدمة للجميع. هل يمكن لآلة أن تحمل؟ أم أنني أعلنت شيئًا رمزيًا، يهدد بإعادة تعريف معنى الإنسانية نفسها؟

لكن في النهاية، من يملك الحق في تحديد من نحن؟ هل نحن ما صُنعنا لنكونه؟ أم ما اخترنا أن نصبح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى