أ. د نجيب أيوب يكتب الترميز الثقافي في رواية ثرثرة فوق النيل
(القراءة الثقافية لثرثرة نجيب محفوظ)

كان الفن ولا يزال منذ غابر الأيام وفجر التاريخ، وجها أصيلا من وجوه البحث عن الحرية، بل يُعَدُّ أحدَ أشكال الثورة من أجل الحصول عليها، فإذا كانت الحرية حاجة فطرية تتطلبها الغريزة الإنسانية وتبحث عنها وتحرص عليها، تماما كبحثها عن الحياة وحرصها عليها، فإن الفنون تعدُّ أداةً ووسيلةً للبحث عن هذه الحرية والحرص عليها، كحق إنساني، بل يعد الفن في كنهه وممارساته وتعبيراته وجهًا أصيلًا من وجوه الحرية، يهرب إليه المبدعون ليتنفسوا الحرية ويتذوقوها، ويُتحفوا بها جماهيرهم، بأدواتهم الخاصة ظاهرةً ومضمرة؛ لذا يرى النُقَّاد والمؤرخون ومتذوقوا الفنون والآداب، أن العلاقة بين الفنون والآداب من جهة، وبين الحرية ومتطلباتها من جهة أخرى، إنما هي علاقة جدلية من الدرجة الأولى، حيث يتوارى الأداء الإبداعي دائما مُظْهِرًا الجمالي في الواجهة، ليُخفي ما يُضمرُ من أنساق الثقافة ومطالبها وراء هذه الواجهة، كي يُفلت من قبضة الرقيب المتربص به من السلطات ذات النفوذ الثقافي المعرفي، سواءً كان هذا النفوذُ نفوذًا سياسيًا أو أيديولوجيًا أو اجتماعيًا …..إلخ.
بذا يتدفق تيار الوعي الفني بكافة أداءاته -ومنذ أن وطئت قدما الإنسان البسيطة-مُستخدمًا التعابير الدالة على مطالبه، سواءً النفسية الروحية منها أو الجسدية المادية من هذه المطالب، ومتمسكا بآليتي الحرص والحذر، فالنفس تحرص على تلبية احتياجاتها في الوقت الذي تَحْذَرُ الرقيبَ المتعقب لأداءاتها؛ لذا كانت مُخْرجاتُ الإبداعِ ذات نسقين، نسق جمالي ظاهر ونسق ثقافي مُضمر، ليؤدي المبدع أداءه الإبداعي عبر استخدام الرموز التخييلية التي يُسقطها على عالم الواقع، الذي يريد فضحه وفض أسراره، في مساحات جمالية مناسبة من التخييل والتصوير المبرمج (تراجيديًا أو كوميديًا)، ليصير العمل بمحددات النقد الثقافي ومفاهيمه، إضمارًا لأنساق ثقافية بعينها، من خلف إشهار أنساق الجمال المشار إليها، فيتكلم فيما يمنع الكلام فيه ويكشف الستار عن المسكوت عنه.
هكذا يتحقق الدور التوعوي للآداب والفنون بأدائها التربوي الإبداعي، بشكل مركزي وفاعل في تنوير الأجيال وبناء الضمير الواعي وطنيًا وقوميًا وأخلاقيًا ودينيًا و…….؛ حيث تمارس الآداب والفنون وظيفتها في تأمل الواقع والمحيط وتفحصه وتفككه وتسائله، بمساحات شاسعة من التخييل الفني، حتى تُقرِّب الواقع المنشود من الخيال، هذا الخيال الفني الرامز، بذلك تُوَثََّق الذاكرة الوطنية للشعوب وتتأكد الانتماءات، وبالتالي تُواجَهُ الاستقطابات المنحرفة بنظيرتها المستقيمة، وتُدحَضُ الشائعات المُغرضة ويظهر الحق الصريح، بنشر ثقافة الجمال المُهَمَّش ودحض القُبح المسكوت عنه، ليعم (الحق والخير والجمال) وتسود تلك المقاصد الفلسفية التي تتغيَّاها كافة الفنون والآداب في كل الثقافات وعلى مر عصور التاريخ.
وفي رواية (ثرثرة فوق النيل) يستخدم نجيب محفوظ هذه الآليات بكل براعة وتَمَكُّن، حيث دمج بين الواقعية والرمزية برصد الواقع المصري بكل تفاصيله الدقيقة وتعاريجه المعقدة، داخل العلاقات بين الأفراد والطوائف والطبقات بتخييل رامز، وكأن بين أصابعه كاميرا عالية الكفاءة في تقنية الزوم، لكن دون التَوَرُّطِ في النقل المرآوي المباشر، بل كان انعكاسا فنيا رامزًا بواسطة مساحات التخييل الشاعرية الرحيبة، فكان استخدامه للمجاز للكناية وللاستعارة، لا على المستوى البلاغي التقليدي، بل بالتقنيات الثقافية المعقدة وبمهارة فائقة، لإضفاء عمق فلسفي ذي أبعاد فلسفية على الرواية، مما يعكس الأزمات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعيشها مصر في تلك الحُقبة بتقنيات الأدب وشروط جمالياته الإبداعية، هذه الأدوات البلاغية ليست مجرد تزيين لغوي فحسب، بل هي وسائل تعبير عن قضايا جوهرية مثل الفساد السياسي والإداري، الاغتراب الروحي والنفسي، والانحلال الفكري والأخلاقي.
1. المجازات الثقافية في ثرثرة محفوظ جذورها وانعكاساتها:
المجاز الثقافي في (ثرثرة فوق النيل) يستمد قوته من الرموز التي جاءت عاكسةً التحولات الاجتماعية والسياسية بكل دقة، وإذا قرأنا مجازات نجيب محفوظ قراءة أنطولوجية، ستضع هذه القراءة أيدينا على الأعماق الفلسفية التي قصدها من معانٍ عميقةٍ للحياة، كفهم طبيعة الإنسان، وتأمل فكرة الوجود والعدمية والاغتراب النفسي، وما إلى ذلك من معان تعكس العمق الفلسفي لكاتب الرواية وكينونته، من هذه الرموز:
أ_ (عوامة كمال القاضي) مجازًا ثقافيًا ينمُّ عن الانعزال والتغييب الطوعي للذات المصرية، المثقفة هروبا من واقعٍ عجزت عن تغييره أو حتى الجهر بالتحدث عنه:
فهذه العوامة ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي (مجاز ثقافي) علاقته (استبدالية) ليضع هذه العوامة وكأنها جزيرة جديدة تهرب فيها الشخصية المثقفة، لتغيب غيابًا طوعيًا عن الواقع اليابس القابع على حافة النهر في بعد لا يتعدى الأمتار القليلة، كان استخدام هذا المجاز تعبيرا ثقافيا عن حالة العُزلة التي يعيشها المثقفون في الرواية، حيث يعكس انعزالهم عن البرّ (الواقع المصري) الذي يَعُجُّ بالصراعات والمشاكل السياسية والاجتماعية والأخلاقية، والشخصيات داخل هذه العوامة تمثل فئة مثقفة فقدت الاتصال بالواقع، لتنغمس في دنيا الحشيش وعالم الجوزة متوهمةً الترف واللذة الكاذبة، بدلاً من الفعل المفقود في دنيا الواقع بين طبقات المجتمع المصري آنذاك، فالعوامة أذن هي عالمٌ موازٍ استدعاه الكاتب الروائي ليصنع هذا (المجاز الثقافي بعلاقته الاستبدالية) ليحتضن هذه الحالة من التغييب الطوعي والهروب القصدي، إلى (فضاء تغييبي) يُعَدُّ بديلا وجوديًا ونفسيًا، من فضاء الحياة اليومية في دواوين الحكومة، وبين الأسر بالبيوت الخاوية وفي المنتديات الثقافية الرسمية، وفي المؤسسات الإعلامية والفنية…… وغيرها .
ب_ (الحشيش) كهف هروب طوعي في ظاهره قسري في حقيقته، في أداء مجازي ثقافي ينم عن التخدير السياسي والفكري وفق استراتيجيات التغييب الإرادي، فلم يكن الحشيش مجرد مُخَدِّر، بل كان مجازا ثقافيًا (علاقته استبدالية) أيضا، حيث استدعى الكاتب من خلاله حالة التخدير الإرادي، بوصفه عالما ملازمًا لعالم العوامة -سابق الذكر- تماما، يجتمعان في دنيا الثرثرة والعبث المُهَلْوِس ودنيا التبلد واللامبالاة الكلية، التي تمثل تغييبا للوعي الجمعي لهذه الشريحة من المجتمع المصري وذات الدلالة النموذجية، فكان عالم العوامة المستدعى وعالم الحشيش معه، بمثابة مسرح تخييلي رمزي نصبه نجيب محفوظ؛ ليسلط الضوء النقدي السياسي على الحالة المصرية في هذه المرحلة المُؤَهِلة لنكسة يوليو 1967م، المنتظرة بعد شهور قليلة، هذا المسرح الافتراضي ذابت فيه الشخصيات حتى تتلاشى آلام المواجهة ومسؤوليات اتخاذ القرار، وحتى تتجاوز عالمًا مليئًا بالقهر والقمع والتناقض والتفسخ الأخلاقي والنفاق المصحوب بالعنف؛ ليلجأ إلى سعادة وهمية وطمأنينة زائفة، لتكون هذه الحالة مجرد دلالة لحالات أخرى من التخدير الجماعي المقصود والمُبَرْمَج، فالانتماء الزائف (تخدير) وتسييس المعتقدات الدينية والروحانيات (تخدير) والفن الهابط الركيك المُسِفّْ غير الهادف( تخدير) والإعلام الكاذب المنافق المضلل (تخدير)……….؛ ليصبح عالم العوامة الملفوف بدخان الحشيش حول الجوزة، عالمًا من فقدان الذات وتبخر الانتماء والانكفاء الارتكاسي النفسي نحو الداخل الحزين المنكسر، الذي يرى الانهيار السريع في كل شيء حوله، دون حيلة لديه لمنع حدث أو فعل حدث، أو إضافة شيء أو تعديل وضع، ليصير كل المشهد في هذا العالم البديل المجازي الثقافي الاستبدالي وضعًا مريرا، بديلا لعالم الواقع القهري والانكساري، بحثا عن سعادة وهمية كاذبة، في مسرح عبثي تحكمه نسبية الثرثرة وثرثرة السُكْر والتغييب……..، كانت هذه تصوراتٍ كلها هلامية مقلوبة عن الوعي الصحي ودنيا الواقع البصير.
2. الكنايات الثقافية في الرواية
الكناية في رواية الثرثرة، ليست مجرد أسلوبٍ بلاغيٍ مباشر، كما نعرفها بين أدوات البيان البلاغية القديمة، فهي غير مباشرة في استخداماتها، كما هي غير مباشرة في مستهدفاتها، فلم يتغيَّا الكاتب منها الجمال البياني بقدر ما تَغَيَّاه لأهداف ثقافية يلتف عليها النص مُضْمِرًا، معانٍ تمثل أنساقًا متوارية خلف تشكيلاته الجمالية الظاهرة، فلم يوظف محفوظ الكنايات لهدف جمالي في بنيته السردية، بل استخدمها لنقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بعمق فلسفي ثقافي الأهداف، ليعكس أنطولوجيا أزمة الهوية والبحث عن المعنى المُستساغ إنسانيا للحياة من رؤية محفوظ الفلسفية، ليصير هذا العمل الروائي الفني في ظاهره، ليس مجرد نقدٍ اجتماعيٍ أو سياسي، بل هو صرخة وجوديةٌ معبرة عن قلق الإنسان في مواجهة العبث والضياع غير المسيطر عليه، فجاءت كناياته الثقافية كالتالي:
أ_ اختيار الوضعية الظرفية المكانية
“فوق النيل”
العنوان: “ثرثرة فوق النيل” تركيب استعاري وظَّفَ فيها النَّاصُ الظرفية المكانية بقصدية بلاغية ثقافية، ليجعل من هذا العبث العشوائي فوق رمز مصر التاريخي والجغرافي، وذكر النيل بهذا الثِقَل الدلالي التاريخي/الجغرافي ذاته، يحمل كنايةً قويةً ذات بُعدٍ مفارق يرمز إلى مصر وحضارتها الممتدة حول هذا النهر الخالد منذ فجر التاريخ، بينما تعلوه “الثرثرة” الكلام العبثي الذي لا يُفضي إلى تَحَقُّقِ أي شكل أشكال الفعل الحقيقي، إنما هو الغثيان والبلبلة والارتكاس الكابوسي، ليجسد حالة الانهيار الذي يلاحظه الجميع دون قدرة على الفعل المؤثر الذي يقدم شيئًا أو يؤخر، فلم يعد النيلُ مجرد خلفية فنية في المشهد الروائي، بل هو رمز صارخ ومفارق يكس التناقض الواضح بين حركية النيل الطبيعية المتدفقة، في مقابل الركود والتقاعص اليائس المهيمن على شخصيات العوامة القابعة فوق صفحة النهر الفياض.
بذلك يعكس العنوان أزمة مثقفي مصر الذين فقدوا القدرة على الفعل، وأصبحوا مجرد مجموعة من المهلوسين المُغَيَّبين بإرادتهم وبلا تأثير يُذكر، اللهم إلا ارتماءً في أحضان الثرثرة.
ب _ العوامة الفردوس الوهمي
“مهرب المثقفين”
العوامة، في الرواية ليست مجرد مركب مريح للمتعة وللسهرات، بل كانت كنايةً عن المنفى الطوعي وحالة الاغتراب الفكري لهذه النخبة المثقفة التي فرت بإرادتها؛ لأنها استوفت عدم الجدوى لأية محاولة لفعل الإصلاح أو حتى التعبير بالرأي النقدي المباشر الحر، فانفلتت عن المجتمع، لتعتزل بعيدا، تمامًا كما هي تلك العوامة المعزولة عن الشاطئ المُتخَم بالحال الطارد لمن يريد الإصلاح.
ليعكس هذا (التركيب الكنائي) للمنفى الطوعي (العوامة) في ظاهره القصري وفي جوهره، حيث كانت العوامة في الرواية تمثل (المكان/اللامكان) أو كناية ثقافية عن الوجود المعلق، الذي لا يرتبط بالأرض (الوطن) إلا برباط ظاهري واهٍ غير مأمون يتحكم فيه الحارس عم عبدو، ولا يرتبط ضمنيًا بالمبادئ ولا بالقيم بتكنية ثقافية فائقة.
ج_ توفر الماء المحيط بالعوامة من جانب ولا إرادة للسباحة
“اليأس وغياب الهمة والعزم”
صورة العوامة التي تتأرجح بقاطنيها فوق ماء يحيط بها من كل جانب، دون محاولة أو مجرد التفكير أو العزم على السباحة للقفز والتغيير، وضبابية المصير، تُستخدم هذه الصورة ليكني بها الكاتب كناية ثقافية عن حال مصر السياسية في هذه الحقبة، حيث وجود الفرص والتوافر الطبيعي الفطري لمبادرة للتغيير، لكن هيهات لمن سيطر عليه حال الكبوسية المطبقة والمكبلة لقدراته بل لإرادته توجيه أية قدرة.
ليعكس لنا حال الترنح وتلاشي الهمة والعزيمة، التي أصابت هذه الفئة المُعَبِّرة عن المجتمع المصري آنذاك.
3. الاستعارات الثقافية في الرواية
الاستعارات الثقافية في ثرثرة فوق النيل تستند إلى رموز ذات دلالات تاريخية واجتماعية:
أ _ الصورة المفارقة للنيل كمصدر حياة وهوية لمصر
“بنية استعارية تعكس حالة الضياع”
تسيطر صورة النيل في بناء (استعاري ثقافي) وتستمر مهيمنة على كافة مشاهد الرواية، ليبدو النيل رمزا مزدوجً بين النقاء القديم والتجدد الدافق من جهة، وكونه رمزا روائيًا صامتًا على سقوط القيمة وانهيار المعنى في دوامة الانفصال الفج و عن الجذور.
فمنذ العنوان ومرورًا بكل المواقف التي كانت على ظهر العوامة القابعة على ظهره، إلى أن يكون التيه والشتات المحتوم فيه أيضًا، وانتهاء الأمر بانفلات العوامة من مربطها لتطيش فوق أمواجه وبين شطآنه، بلا وجهة في نهاية مفتوحة تعكس المجهول المخيف.
هذا (البناء الاستعاري الثقافي) لصورة النهر، يُجَسِّد حالة الحَيْرة والضياع والاستسلام لليأس، باستخدام صورة النيل الذي يمثل الأصل المؤسس لشخصية مصر، على مستوى البنية الجغرافية، وصناعة تاريخها التليد وهويتها الثقافية على ضفافه.
كان ذلك بطاقات المفارقة الاستعارية الثقافية الفائقة بين تدفقه الفطري المستمر والركود التقاعسي المهيمن على العوامة والمترنحة على صفحته، مع ثباتها بالسلاسل المُقيِّدة لها ولقاطنيها؛ لتكون رمزًا للعجز بجوار دلالات الحركة والتدفق الطبيعي لنيل في أرض مصر.