أخبار عاجلةدراسات ومقالات

منال رضوان تكتب بين الرصانة والتجريب قراءة في الحس الشعري وبينة اللغة في قصص الأديب واثق الجلبي

يُفاجئ واثق الجلبي قارئه من الصفحات الأولى لمجموعة الأعمال القصصية الكاملة بمستوى لغوي لا يُخفي شعريته، حتى في أكثر مشاهده واقعية أو سردًا مباشرًا، إننا بإزاء نصوص تنطوي على “حس شعري” داخلي لا يغادرها بحال، بل ينسرب في تركيبها من العنوان إلى الخاتمة؛ ليجعل من القصة القصيرة لحظة انخطافٍ وجداني، تُجاور الشعر بقدر ما تُجاور السرد، وبخاصة عنوانات القصص اللافتة والتي نجدها أميل لترميز الشعر مثل (قشرة الملح – أحاسيس السكائر- قيعان الرؤوس… ) فالتراكيب لدى الجلبي ليست محض أداة تعبير، بل كائن حيّ يحمل إيقاعًا داخليًّا خاصًّا، ويعكس ما يمكن تسميته بـ”حدس اللغة”، ذلك الحدس الذي يجعل الجملة تولد في غير موضعها المتوقع، لكنها تبلغ تمامها هناك.

يُحسن الجلبي تطويع اللغة؛ فتبدو لينة بين يديه دون تكلف، يخدم بها الفكرة دون أن يغتال دهشة التعبير، لا يحشو جمله بالزينة المجانية، لكنه يعرف متى يوظف المجاز، ومتى يُباغت القارئ بصورةٍ خاطفة تفتح أفقًا أوسع من الواقع، وبذلك يتجاور الشعر والفكرة في سلاسةٍ لا تفقد المعنى، ولا تُسرف في الترميز.
وفي ضوء هذه الخصائص الأسلوبية، تَظهر مجموعة الجلبي أشبه بذلك المختبر اللغوي والفكري المفتوح؛ حيث لا يستقر على شكل، ولا يتقيد بصرامة البنية السردية المتوقعة لدى القارىء سلفًا؛ فالقصص هنا ليست “قصصًا” بالمفهوم التقليدي، وإنما لحظات تأمل أو شذرات وعي، تختزن ما يشبه الومضة أو البرق، إذ لا يبدأ النص من نقطة سردية، بل من لحظة انفعال داخلي، تُستدعى فيها اللغة؛ لتُجسّد عمقًا وجدانيًّا لا يُقال بالتصريح.

ولعلّ من السمات الأكثر ملاحظة في تجربة الجلبي هي قدرته اللافتة على اختصار المشاعر في لحظة خاطفة، تتقاطع فيها الذات مع العالم، ويُختزَل التوتر الإنساني فيها، في جملة واحدة أو مشهدٍ رمزي دقيق، فهو لا يسترسل في الوصف، ولا يطنب في رسم الانفعالات، بل يكتفي بالتقاط لحظة انفجار داخلي أو ارتجاج شعوري، ثم يغلق النص، تاركًا القارئ في مواجهة أثرٍ لا ينتهي.ونستطيع أن نلمس ذلك في قصته دقائق رغم سلاسة الفكرة المتمحورة حول انتظار الحبيب لحبيبته غير أنه يمنحها بعدا فنتازيا أو ما ورائيا فيصور البطل يأكل أصابع كفه، ويكتب اسم حبيبته على أوراق الصفير، فهذه الصورة العجائبية لا تعد مبالغة في وصف انتظار العاشق لمعشوقه وإنما هي البحث الدائم عن فكرة الأمل المنتظر بعيد المنال رغم ظنية وقوعه ذات لحظة، لكن فكرة الانتظار هي ما حاول الجلبي ترسيخها ليصنع منها لا اللحظة وإنما الإطار العام الذي تتحرك فيه عقارب الساعة.
إن هذه القدرة على “القبض على اللحظة” وتثبيتها في لغة مشحونة ومكثّفة، تذكّرنا بما يسعى إليه الشعراء الحقيقيون حين يتنازلون عن كل شيء إلا عن الدهشة.

في هذا التكثيف الشديد، يفتح الجلبي مساحةً تأويلية رحبة، تُفضي إلى قراءات متباينة، كلٌّ منها يُعيد ترتيب عناصر النص وفق زوايا التلقي الفردي، ووفق اتساع قوس تلقي النص؛ فهو لا يفرض معنى محددًا، بل يُراوغ القارئ، ويدعوه إلى أن يكون شريكًا في توليد الدلالة، لا مجرّد مستهلك لها، هذا الأسلوب لا ينتجه الكاتب من رغبة في الغموض، بل من إيمان عميق بأن المعنى في الأدب لا يُقال، بل يُومأ إليه، وأن الصمت بين الجمل قد يقول أحيانًا أكثر مما تفصح عنه الكلمات.

وتتجلى هذه النزعة بوضوح في قصة “أحاسيس السكائر”، التي تحفر في هشاشة الوجود الإنساني بعين شاعر يكتب لا عن القلم، بل عن ما تُثيره من وحشة، وما تُولده من شعور بالخسارات العابرة، والنهايات البتراء، وفي إحدى العبارات اللافتة في المجموعة، يقول الجلبي:
“لا وجود لقلمٍ يبكي قرونًا من الرمال والضياع”.
تبدو الجملة في ظاهرها استسلامًا لعجز التعبير، لكنّها في عمقها تقرّ بعقم اللغة عن الإمساك بكامل التجربة الإنسانية، وتُلقي بالمسؤولية على القارئ لملء الفراغ بما تبقّى من رمال ذاكرته هو، إن هذا التصريح ليس يأسًا من الأدب، بل وعي مأساوي بحدوده، ورغبة في تجاوزها بالحدس لا بالشرح.
وبالمجمل فإن
نصوص واثق الجلبي القصيرة تكتب نفسها في المسافة الحرجة بين الانفعال الخالص، والتأمل المصفّى، ليس مهمًا أن تنتهي القصة نهاية تقليدية، ولا أن تُبرّر سردها بمنطقٍ مألوف، بل المهم أن تترك في النفس ذبذبة ما، أو رعشة سؤال، أو أثرًا أشبه بما تتركه القصائد الحائرة، وهذا هو جوهر الأدب حين يُكتب بموهبة لا تهادن الواقع، ولا تستكين للغة على حساب الدهشة.
منال رضوان
ناقد أدبي – مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى