دراسات ومقالات

أ. د. نجيب أيوب يكتب بنية الاستلاب النِسْوِي في خطاب نجيب محفوظ الروائي

(المرأة في ثرثرة فوق النيل نموذجًا)

جاءت صورة المرأة في عوامة نجيب محفوظ -وخلال الثرثرة على ظهرها- رمزًا أنطولوجيًا للانحدار القِيَمي الذي ملأ أجواء هذا العمل الروائي، فكانت المرأةُ رمزًا للضياع وضحية للفساد وهيمنة الذكورة المسيطرة، دون أن يُسمعَ لها صوتٌ نقديٌ يشيرُ إلى بصيص من الاستقلال من هيمنة الذكر الفاسد الضائع مثلها، لتتحمل عبء إخفاقات المجتمع وتصير ضحيةً يُغَيَّب دورُها الفعلي على ظهر العوامة، تابعة في ذلك الرجال في غيبوبتهم الوجودية.
فجاءت الشخصيات النِسْوِية في الرواية كالآتي:

سنية ألماظية:
الاستلاب الاستعاري بتوصيفه الثقافي كــ(آلية هيمنة) قد تَحَقَقَ بامتياز في هذه الشخصية، حيث عكست بنية فكرية ثقافية تمثل الآخر المُهَيْمن والسلطة والهوية والتهميش، فلم تأت سنية بوصفها شخصية عادية من شخوص العمل الروائي، بل كانت استعارة ثقافية جسدت أشياء كثير _ وفق ذائقة المتلقي وقدراته التحليلية_ تجدر الإشارة إلى أنها تلخصُ حال المرأة وجسدها والمتعة الكامنة فيه، وحال المجتمع المُنتهك وحال الطبقة المثقفة فيه، بل حال الوطن برُمَتِه.
ومنها أنها كانت نتاجا لخطاب سلطوي ذكوري، جعل منها أداةً لإنتاج المتعة العابثة، لكشف الاختزال الذكوري (الباترياركي) للبنية الأنثوية، وطيها في بنيته لتكون رهن إرادته، والتي لخص وظيفتها على العوامة في الدور الترفيهي فحسب.
ومنها أنها كانت تمثيلا للوطن المُسْتَلَب بل المُسْتَهْلَك فكريًا ونفسيا، والمفعول به بشكل رمزي وجسدي، لتصير المرأة مرآةً خاملةً تعكس حال الانهيار والتردي، لكيان خامل لا يفعل شيئًا إلا أن يُفعل فيه.
ومنها أنها صورت في مواقفها أزمة مجتمع يعاني هشاشة وعيٍ وانهيار قيم، ويُحَيِّرُهُ قلقٌ ثقافيٌ واجتماعي عميق، ومتوار في ثنايا خطاب نجيب محفوظ الروائي الذي يبدي جمالا اسطاطيقيا من حيث الظاهر، ويضمر رسائله الثقافي المتوارية خلف الجمالي في جوهره.
كل ذلك وقد كانت (سنية ألماظية) تتوهم أنها تفعل ذلك بإرادتها، بل كانت في حقيقتها إرادة زوجا الذي كان يخونها مع خادمتهم، والتي جعلتها تبحث عن رجل تخون زوجها الخائن معه، انتقاما منه وإمعانا في عقوبتها لنفسها بديلا استعاريا لصورة زوجها الذي يُجرمٌ في حقها وحق علاقته بها الأخلاقي.

ليلى زيدان:
تُعدُّ شخصية (ليلة زيدان) من وجهة التحليل الثقافي رمزًا روائيًا للاستعارة الثقافية الحية التي تُجسِّدُ لنا حالة الاختناق العامة والانهيار النفسي والأخلاقي في ثنايا المجتمع الذي هيمنت عليه المظاهر على حساب الجوهر، والتي أراد الكاتب كشفها آنذاك، فبتعمق تفاصيل هذه الشخصية سنضع أيدينا على ما أضمره هذا العمل من الفراغ الثقافي المُمَوَّه خارجيا بالبهرجة الشكلية الكاذبة، في الفضاء الروائي الذي يلف جو العوامة المثرثرة.
حيث ليلى، جعلت من نفسها سلعة استهلاكية مُتشيِّئَة بين يدي روَّاد العوامة مقابل ابتزازاتها المالية، تماما كالسلع الفضولية والمظهرية التي تطمح في التمظهر والتباهي بها، وتغرق في حال الهروب والإنكار وتنخرط نحو طقوس الاستهلاك والترف الوهمي، لتدفع أغلى ما لديها بين يدي (خالد عزوز) الكاتب القصصي فاقد العقيدة المتجرد من المبادئ، في أداء استعاري يُجَسِّد ثقافة الاستهلاك التي استشرت في طبقات المجتمع وهيمنت على الوعي العام، لتمثل شخصيتها ذات البنية الاستعارية، التي تُشير إلى ما يريد محفوظ الإشارة إليه من بُعد ثقافيٍ وهو ما أستطيع تسميته بـــ(حالة الفراغ المُقنَّع) أمام سلطة السوق الاستهلاكية وإغراءاتها.
فكانت ليلى وشخصيتها، بنية استعارية باهرة في مظهرها لكنها فارغة في جوهرها، تُساهم في كشف ثقافة التزييف والاستهلاك العبثي وغواية السطح، واللامبالاة النخبوية التي انسحبت جماعيا من ساحة الواقع إلى ساحة الاختناق الرامز والتردي الأخلاقي، الذي أراد الكاتب التلميح إليه كرمزٍ مضمرٍ وراء هذا التشكيل الجمالي للثرثرة.

ثناء:
تٌعدُّ ثناء رمزا ثقافيًا مُضمرًا، استعاره نجيب محفوظ ليدلل به على أزمة المجتمع المصري إبان فترة الستينيات من القرن الماضي، لأنها تمثل مدخلًا متخما بالرموز الاستعارية الكثيفة لثقافة التحرر الظاهري المتمرد على الأصول المؤسسة لهوية المجتمع، وبحثًا عن ذات مفقودة في غياهب اللذة الكاذبة والعبث واللامبالاة لدى جيلها بأكمله.
– فكانت ثقافتها ثقافةً وهمية، فهي فتاة جامعية متحررة تَدَّعي الثقافة والإلمام بالفلسفة ونظريات النقد الحديثة، التي لامستها بشكلٍ سطحيٍ في مقررات كلية الآداب الأولية، لتبالغ في ادعاء ذلك بغرور زائد مع (رجب القاضي)، الذي يستغل ذلك بإيهامها بأنه سيُحقق لها ما تتطلع إليه من تعليمها التمثيل وتدريبها لتصير نجمة سينمائية، ويبتزها في أغلى ما تمتلكه فتاة عذراء، لتنفلت معه في إدمان شرب الخمر وتدخين الشيشة والحشيش في دنيا الثرثرة.
– وكانت أنوثتها مجرد قناع ثقافي، صنعه الكاتب ليجسد حال الانهيار القيمي والتفسخ الأخلاقي، والغرق لا البايولوجي بجُستها في ماء النهر، بل الغرق النفسي والروحي بالانغماس في الملذات والوهم العاطفي، لتصير أسيرة ارتباط خادع مع (رجب القاضي)، وتصبح كيانًا ديكوريًا على ظهر العوامة، لا يُعَبِّر عن تفرد شخصي يعكس نِسْوِيَتَهَا (أنوثتها)، بل سرعان ما ينصرف عنها رجب منشغلا بالصحافية الجادة (سمارة بهجت) التي اقتحمت عليها العوامة، وتعاني بذلك ثناء من غَيْرَة قاتلة منها على رجب القاضي الذي انخدعت بارتباطه الوهمي بها.
– هشاشة الأنوثة لدى ثناء، قدمها محفوظ في أداء استعاري ثقافي، ليرمز بها إلى اختلال الموازين، فلم تتملك (ثناء) زمام الأمر باستخدام أنوثتها الطاغية، بل استدرجها (رجب القاضي) لتنصاع لسطوة الذكورة المسيطرة على المشهد العام للرواية.
– الحرية المزعومة، والتي جسدها محفوظ بأدائه الاستعاري الثقافي في شخصية (ثناء) التي تظهر وكأنها متحررة، وهي في الحقيقة كانت فريسة لنظام هجين مرتبك حائر، ما بين الوافد والموروث أو الأصيل والحداثي أو المحلي والمستورد، وهذا ترميز استعاري يُضمر به الكاتب ما أراد التلميح به من المأزق الثقافي القائم في المجتمعات الشرقية -وبخاصة في مصر وبلاد الشام وبلاد المغرب- الأقاليم الثقافية التي كانت تتأرجح في اهتزازات مزدوجة بين التحمس للأصيل والتطلع للوافد، وكانت ثناء نموذجًا استعاريًا لهذا التمزق الثقافي بين جنبات مجتمع المثقفين، ليتجلى المشهد الثقافي العام حائرا متذبذبًا، لا إلى أولئك ولا إلى هؤلاء.

لما سبق تعُدُّ الدراسةُ شخصيةَ (ثناء) مدخلا واسعا لقراءة ثقافية مشبعة بالرموز العميقة، بأداء استعاري ثقافي جدير بالوقوف مليًا أمامها، بل وأمام سائر شخصيات الثرثرة، مما يفتح أبوابًا لإعادة قراءة روائع نجيب محفوظ الروائية الأخرى، لنستكشف أغواره الثقافية ومفاتيح الرمز لدى أديبنا العالمي.
الفلاحة:
وردت صورة (الفلاحة المصرية) التي أوردها محفوظ بغير اسم لها لمغزى رمزي، فهي قتيلة السيارة الطائشة التي تُقلُّ شلة المثقفين المتحللة المُرَفَّهة المُغَيَّبة عن واقعها، لتعبر تعبيرًا رمزيًا عما يجنيه الوطن والمواطنين من عبث القطيعة بين طبقة المثقفين وروح بلادهم.
ـ فموتها ضحية لعبث شلة الثرثرة المتهورة العابثة، كان استعارة ثقافية ترمز لما يحدق بمصير الشعب المصري البسيط من جراء المغامرات الثقافية الطائشة، دون أن يكترث بموتها أحد، ولم يُعرف مصيرها، في دلالة صارخة على القطيعة بين المثقف ومجتمعه من جهة، والمثقف وذاته ومحركات ضميره الداخلية من جهة أخرى.
ـ كما كانت صورتها إشارة رامزة للتجاور الواضح لآثار سقارة بقيمتها التاريخية (كمضمون مصري قديم) ودلالاتها، مع مناسبة رأس السنة الهجرية (كمضمون إسلامي) من ناحية ثانية، وبين هذا الأداء الثرثري العابث من هذه الشلة التي تمثل طبقة المثقفين، التي انفصلت انفصالا جماعيا عن واقعهم للتفسخ ثقافيًا ونفسيًا، وتدهس جذورها المؤسسة لشخصيتها المصرية المتجسدة في شخصية الفلاحة الضحية، بلا اكتراس بحياتها ومصير ذويها، من ناحية ثانية.
ليعكس محفوظ بهذه الاستعارة الثقافية للصدام بين حضارتين: حضار الأصل الموروث والمؤسس للهوية، وحضارة الآخر التي عبرت لنا من جهة الغرب.
كان الهروب من مسرح الجريمة بشكل جماعي، بدعوى الخوف من مواجهة أهل قريتها ولم ينتظر حتى واحد منهم، مما ينم عن تَبَلُّد الضمير الجمعي لديهم وينفي إحساسهم بالمجتمع المصري الذي يمثلون بؤرته المركزية، مع استمرار صمتهم فيما بعد الحادث ورجوعهم إلى دنيا الثرثرة، عكس هذا أداءً رمزيًا واستعاريًا من القطيعة بين هؤلاء المثقفين ومجتمعهم.
اللهم إلا صورة رمزية حاول الكاتب أن يضعها بمثابة ذر الرماد في العين، وهي شخصية (سمارة بهجت) الصحافية الواعية والمهمومة.

وبتحليل بنيوي ثقافي للنص – دون عزل لمجريات هذا السرد الروائي عن البنية الثقافية والاجتماعية للمصرين، خلال الزمن الروائي المشار إليه- يتبين مقصود الكاتب من الإشارة الفنية إلى البنية الثقافية لتهميش المرأة، وعزمه على تعرية خطاب السلطة ومدى التأسيس السلطوي لهذه البنية التهميشية للمرأة، بجوار خطاب الرجل المثقف المُهَمَّش نفسه سواءً بسواء، بذلك يُجلِّي محفوظ ويُسفر عن وجه الاستلاب المقصود في روايته، بمفهومه الثقافي الدال على النزع القصري للإنسان من ذاتيته الإنسانية التي منحه الله إياها، بفعل قوى خارجية عنه، سواءً كانت قوى سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، سواءً كان هذا الإنسان رجلا أو امرأة، فلم يُقدِّم محفوظ المرأة في ثرثرته بوصفها ذات مستقلة بل كانت رمزًا لانهيار المجتمع بكامله في هذه الحقب وانكساره.

أ.د/ نجيب عثمان أيوب.
أستاذ الأدب والنقد بجامعة حلوان بالقاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى