من رحيق العشق إلى نداء المعنى: دراسة أسلوبية–نفسية–رمزية–هيرمينوطيقية لقصيدة “مرميةُ براري الروح” لسليمان يوسف:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

عماد خالد رحمة _ برلين.
مقدمة في نصِّه “مرميةُ براري الروح من وقتها”، يرسم الشاعر السوري سليمان يوسف لوحةً شعرية تنبض بتوترات الوجد، ورهافة الغياب، وأسطرة الحضور الأنثوي. تأتي هذه القصيدة لا بوصفها بياناً عاطفياً فقط، بل بوصفها طقساً تأويلياً صاعداً من براري الذات إلى فضاء الدلالة. تتداخل الأساليب وتتشابك الرموز، لتقيم القصيدة في منطقة متأرجحة بين الصوفي والعاشق، بين الجسد والروح، بين اللغة والصمت.
تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك الخطاب الشعري عبر أدوات التحليل الأسلوبي والنفسي والرمزي، وبمنهج هيرمينوطيقي يجعل من القصيدة فضاءً تأويلياً متجدداً، يتجاوز الظاهر نحو بنية الدلالة العميقة.
أولاً: الأسلوب الشعري وبنية الصورة.
يفتتح النص بجملةٍ حمّالةٍ للتأويل، يقول :
“مرميةُ براري الروح من وقتها”
الصيغة الاسمية تعلن عن استقرار الزمن في سكونٍ وجوديّ، والـ”براري” تُحيل إلى فضاء مفتوح، غامض، يتشابك فيه المدى الخارجي بالمدى الداخلي للذات. الشاعرة – أو المخاطبة – ليست سوى صدى لهذه البرية المهجورة داخل روح المتكلم.
ويتابع الشاعر سليمان يوسف مشهده بلغة مكثّفة، يقول :
“عنبُ الكلامِ تخّمرَ في القصيدةِ”
هذه الاستعارة تخبّئ دلالة الانفعال والانتشاء والتخثّر الزمني للقول الشعري، حيث يتحوّل الكلام إلى خمرٍ يُسكر الذاكرة والإدراك.
الأسلوب يغلب عليه الجمع بين اللغة اليومية وفتنة الصورة الشعرية الرؤيوية، حيثُ يقول :
“فناجينُ قهوتها تطوّقها أصابع الشوقِ”.
نجد التكثيف العاطفي يندمج مع مشهد مألوف ليمنحه طاقة رمزية: القهوة ليست مشروباً، بل هي قربانُ طقسي يتعلّق بالحضور، والغياب، والذكرى.
ثانياً: القراءة النفسية – العشق بوصفه معادلاً وجودياً.
يتموضع الصوت الشعري ضمن خطاب عاطفي مجروح، تستبطنه طاقة الحنين والاعتراف الوجودي بالعجز أمام الحب، يقول:
“أنا لا أريدُ أن أتوبَ من آثام عشقكِ يا امرأةَ الحضورِ”
إنها اعترافٌ غير معلن بتلاشي الهوية في حضرة الآخر، حيث تتحوّل الخطيئة من مفهوم ديني إلى ميتافيزيقا الحبّ.
في ضوء التحليل النفسي، نجد أن الذات الشعرية تبحث عن موضوعها الغائب من خلال التداعي الحسي واللغوي، وتحاول عبر الزمن والصورة استعادة فقدٍ مستحيل، يقول:
“فكيفَ نتفارقُ في الغيابِ؟”
هذا السؤال يشير إلى مأزقٍ وجوديٍّ: كيف للفراق أن يحدث ضمن غيابٍ أصلي؟
ثالثًا: الرمزية وتوليد المعنى.
تغصُّ القصيدة بالرموز التي تتحرك في شبكة من المعاني العاطفية والكونية:
العنب المتخمر: رمز للزمن، النضج، والحكمة المتحوّلة إلى سُكر.
البراري: فضاء النفس الموحش، حيث الضياع والحرية.
النرجس: رمز النرجسية والحب المستحيل، ومركز اللقاء الصعب.
البنفسج: الحزن الجميل، ورقة الصباح الذي لا يكتمل.
يقول الشاعر سليمان يوسف:
“أن نلتقي عند حجر النرجسِ. كي نوقفَ الغناءَ”.
النرجس هنا موضع تأملي، وربما قبريّ، حيث يتداخل الحسي بالميتافيزيقي، ويتحوّل اللقاء إلى محاولة للإمساك بالمستحيل.
رابعًا: التأويل الهيرمينوطيقي – الشعر ككثافة وجودية.
وفق الهيرمينوطيقا، فإن كل بيت شعري يحمل طبقات متعدّدة من المعنى، يحقّق القارئ عبرها فعل التأويل بوصفه تأسيساً لفهم الذات والآخر. في هذا النص، تنشأ علاقة جدلية بين الذات القارئة والذات الشاعرة عبر المفارقة، والانزياح، يقول :
“فهلْ تبرّئني طريق من نار المعنى؟”.
هنا يتحول المعنى نفسه إلى امتحان وجودي. المعنى ليس بديهيًا، بل مؤلم، يحتكُّ بالنار كعنصر تطهير وصراع.
القصيدة تتكوّن على شكل تراتيل مناجاة لا تنحاز إلى خطاب مباشر، بل تتخفّى في الشفرات الشعرية، مما يعزّز قابليتها للتأويل المتعدد، ويدعم المقاربة الوجودية لمعنى الحبّ، الغياب، والانخطاف الشعري.
خاتمة: البراري كصدى وجودي – الشعر بوصفه مجازاً للحب والغياب.
في هذه القصيدة، لا يكتفي سليمان يوسف بتصوير لحظة عشق، بل يؤسّس لنصّ وجودي يجمع بين اللغة والانفعال، بين الصورة والرؤية. القصيدة، رغم قِصرها، تنطوي على كثافة رمزية تجعل منها نصّاً تأويليّاً بامتياز.
هو نصٌّ يُكتب ليُعاد تأويله، ليس لأنه غامض، بل لأنه خصب، ينهض من مساحات الظل نحو إمكانات الكشف. وبين فناجين القهوة، وأصابع الشوق، ونرجس اللقاء، تتشكّل طقوس القول الشعري بوصفه بوحاً يعيد تشكيل الروح كل مرة.
نص القصيدة :
مرميةُ براري الروح من وقتها
عنبُ الكلامِ تخّمرَ في القصيدةِ
مفاتنُ لها ملامحُ من رقدةِ الفجرِ
فناجينُ قهوتها تطوّقها أصابع الشوقِ
لم يكنْ في مرمى نشوتها
كأنهُ شريدُ النظرِ نحو قمرٍ مخبوءْ.
متى نستعيدُ غيمةً من حضن الريحِ
نمسكْ شعرها الأزرق خصلةً خصلة
أنا لاأريدُ أن أتوبَ من آثام عشقكِ ياامرأةَ الحضورِ
فكيفَ نتفارقُ في الغيابِ
قد اقمتُ في الوضوء دهراً
ناديتُ خيلَ البراري في اكتحال الليلِ
فهلْ تبرّئني طريق من نار المعنى
ولمَ ترشحُ كماءٍ يكتملُ في الجدارِ
كمْ نحاولُ في الضوء أن نرى
أن نلتقي عند حجر النرجسِ
كي نوقفَ الغناءَ
نتعانقُ في الحزن كبنفسجِ الصباحْ .