أمينة الزغبي تكتب مجموعة طقوس نزع الزينة تجلي المشهدية في القصة القصيرة

المشهدية في القصة القصيرة تعني (تقسيم النص إلى وحدات سردية منفصلة أي (مشاهد) ذات مضمون متصل، كل منها يحمل جزءا من الفعل والفكرة، ويشبه هذا التقسيم المشاهد في السينما، حيث تتنقل الكاميرا بين نقط مختلفة، وهذا ما يمنح القصة ديناميكية وحيوية).
والقارئ لمجموعة (طقوس نزع الزينة) للكاتب الأستاذ كرم الصباغ، سوف يدرك أن المشهدية هي الثيمة التي اتسمت بها هذه المجموعة، حيث نلاحظ ذلك في القصص التالية:
في القصة الأولي عرائس العتمة:
القصة مكونة من سبعةٍ مشاهد، كل مشهد يمثل لحظة من ليلةٍ يسودها الظلام المنبعث من ظلمٍ لا يدرك الراوي المشارك في القصة مداه، فهو ليل ليس له أخر، يبسط شراعه فوق سماء قطاع بأكمله؛ ليحجب عن أهلهِ ضياء القمر، والكواكب السيارة، إنه قطاع غزة، ذلك القطاع الذي حاول القاص الأستاذ “كرم الصباغ” أن يضع أمام القارئ بعضًا من قسوةِ اللحظات التي يمر بها ساكنيه، من خلال سبعة مشاهد متتالية، جاءت كلها على لسان الراوي المشارك، الذي رصد للمتلقي في المشهد الأول “حالة بصرية” للقطاع تحت ظلمةِ الليل، عقب أحدي الغارات، وعودة من نجوا من الموت إلي منازلهم، كي ينتظروا ما يؤول اليه مصيرهم في الغارة القادمة، ثم ينقل للمتلقي في المشهد الثاني ما تتلقاه “حواس” أهل القطاع من أصوات سمعية، مثل قوله (صفير الصمت) و (هزيم الريح) في الوقت الذي لم يغفل فيه “حاسة الشم” حيث رائحة البارود التي خلفتها الغارات، والتي اختلطت بروائح شواء الأجساد، وما زالت عالقة في الهواء، لكن هناك دائمًا إزاحة لهذه الحواس من المشهد البصري، الذي يسيطر علي كل شيء، بما يحمله من دلالات رمزية أبدع فيها القاص، حيث يقول علي لسان الراوي المشارك (ص ٦)

(بينما اكتظت سيارات الإسعاف، وسيارات الأهالي، وعربات الكارو بالأشلاءِ الممزقة، وسرعان ما أفرغت حمولتها في جوف ثلاجات، باتت تضج بالقتلى، ثم عادت من جديد، لتحمل جثثًا أخرى).
هذا المشهد البصري الذي جسده القاص، يدل على حجم القتل والدمار الذي خلفته تلك الغارات، فالموتى ليسوا بجثثٍ، لكنهم أشلاء، وهي دلالة أيضًا على بشاعة الأسلحة المستخدمة ضد أهل قطاع غزة، وتعدد أنواع السيارات، وعودتها مسرعة مرة أخري بعد إفراغ حمولتها، لهو دلالة أيضًا على الأعداد الهائلة من القتلى في هذا العدوان الغير آدمي، الجميل أن الراوي المشارك هنا لم يفصح عن شخصه إلا في المشهد الثالث؛ بالرغم من أن القارئ سوف يكتشف هول ما تعرضت له أسرته، من فقدِ زوجته، وابنته (فرح) في أحدي الغارات، حينما خرج ليشارك إخوانه، وجيرانه بالبحث عن الجثث، والنبش بين الأنقاض لاستخراج العالقون تحتها؛ أملا في أن يكون بينهم ناجٍ، وهذا الموقف مع قسوته؛ إلا أنه يحمل من الِدلالات ما يشير إلي صفةِ (الإثار) التي يتسم بها أهل قطاع غزة؛ بالرغمِ مما يعانوه من ويلات.
في عرائسِ العتمة، لم يأت القاص بأسماء للشخوص، إلا لاسم واحد فقط، وهو اسم الابنة الصغيرة التي حلقت روحها إلى بارئها هي ووالدتها أمام عيني والدها، بعد قصف منزلهم إثر أحدي الغارات، وهو الراوي المشارك بالقصة، والذي أظلم الكون أمام عينيه، وغاب الفرح من حياته، بعد غياب ابنته (فرح) حيث يقول مناجيًا روح زوجته الشهيدة في (ص ١٠)
(أرنو ببصري إلى السماءِ؛ فأراكما أنت وفرح بصحبةِ عدد لا نهائي من العرائسِ، تحلقان في سماءِ غزة التي تبددت عتمتها للتو).
قصة مسك الرمل:
القصة الثانية بالمجموعةِ، وهي قصة تعيد القارئ إلى مشهديةٍ محببة إلى النفس، ذكريات ترسخ في الذاكرة، تحمل معها نوستالجيا من نوعٍ خاص، حيث الشهر الكريم (شهر رمضان) بما يحمله من عبق روحاني، يملأ الروح والنفس، ويشحنهما بجرعات ربانية آسرة، لكن القاص يباغت القارئ حينما يسترسل في قراءة النص، ليدرك أن هناك نوستالجيا من نوعٍ آخر، تحمل بين جنباتها أوجاع الفقد، والحرمان، لأبٍ، وأمٍ، تخضبت رمال سيناء بدمِ وحيدهما ورفاقه.
أما ياسمين:
فهي تلك القصة القديمة الجديدة، التي تشير إلي الموروثِ الثقافي في قري، ونجوع ريف مصر، والذي نكذب على أنفسنا إذا ما قلنا أنه انتهي، وليس له وجود، فما زال الولد يُنظر إليه على أنه السند، الذي يشتد به ظهر أمهِ قبل أبيهِ، كما يقولون في الموروث الشعبي الريفي(لما قالوا ده ولد؛ انشد ظهري وانسند، ولما قالوا دي بنية؛ مالت الحيطان عليه) وهذا ما عبر عنه القاص في نصه القصصي، لكن الحيطان هذه المرة كتمت أنفاس الأم، وتركتها جثة هامدة دون حراك؛ بالرغمِ من إنجابها (الذكر) المنشود، لكن بعد ولادات متعددة؛ أودت بحياتها.

مخاض:
في قصة مخاض، يحاول القاص التقاط الأنفاس مما نعانيه من واقعنا المؤلم، ويترك العنان لخياله كي يسبح في عالم الغرائبية، ليبدع لنا قصة تجعل القارئ يتوقف معه أمامها، لا ليلتقط أنفاسه، ولكن كي يدرك الرؤية الفلسفية التي يطرحها الكاتب من خلال هذا النص، فمن يكون الشيخ الذي تسقط الطيور بين يديه، فيدفنها حية، وما دلالة الكثبان الرملية التي أحاطت بالراوي المشارك في الحفرة التي سقط بها، ودلالة عين الماء التي تفجرت تحت كفه المدرج بالدم، أعتقد أنها قصة تحمل من الدلالات الرمزية التي تشير إلى واقع مؤلم يعيشه من يقعون تحت وطأة أي ظالم، يقتل، ويدمر؛ بينما العالم من حوله يقف في وضع المتفرج؛ لذلك أقول أن القصة ليست استراحة محارب من واقعه، لكنها رؤية ورصد لهذا الواقع، بمنظور فلسفي خاص جدًا.
وعلي هذا المنوال، يسترسل القاص الأستاذ (كرم الصباغ) في رصد بعض مشاهد الواقع من حولنا، متكئ تارة على الأسلوب الواقعي، وتارة أخري على تضافر الواقعي بالفنتازيا، حيثُ نجد الواقعية تمثلت في قصص مثل:
رقصة وجع لفراشة وحيدة ــ أعراس الجبانة ــ وهي مأساة أخري لبعض الموروثات الاجتماعية ــ ودم اللذة، وما تحمله من لذة الانتقام ــ وقصة ضفائر الأنين، التي ترصد مأساة المرأة الشابة الجميلة التي تفقد زوجها في مجتمع قروي، وتطاردها الموروثات الاجتماعية والثقافية من القريب قبل الغريب ــ وقصة قرابين، التي تشير إلي ولع البحث عن الآثار المصرية القديمة، وما تحمله من دِلالات توحي بلعنة الفراعنة ــ أما قصة غزل الجوع، فقد تضافر فيها الواقعي بالفنتازيا؛ حيث الوعود الرنانة من مرشح المجلس، لأهل القرية وصغارهم ذو الوجوه الشاحبة، والبطون الخاوية، وذبحهم لصورة جمله علي الحائط، ثم انكبابهم على لحمه بأعينهم الجائعة، دون أن يلتفت إليهم صاحب الموكب والمصلحة، ولا إلي من دفعتهم الحاجة بأن يستروا عوراتهم بأقمشة طبع عليها رمز الجمل الذي كانت صورته تتأفف من رائحة أجسادهم ــ وقصة أغنية الماء، والفتاة التي قتلها العشق ــ أما قصة تابوت السوس، فقد تجلت بها ضريبة الغربة والشراهة في جمع المال ــ وقصة جمل الروح ــ وصبابات الطير ايضا ترصد وجع الغربة، والحنين للجذور ــ أما قصة في القلب غنت جنة، فهي من القصص التي ترسم الأمل أمام الشباب، وتفتح آفاق السعادة أمامهم، والحل في استصلاح الأراضي الصحراوية ــ أما قصة ترانيم الوجع، فهي مأخوذة عن قصة النعمان بن المنذر وكيف تم قتله تحت أقدام الفيلة؛ لرفضه زواج أحدي بناته من كسري الثاني الملقب (برويز) وأدي ذلك لاشتعال الحرب بين العرب والفرس في معركة ذي قار التي انتصر فيها العرب انتصارا كبيرا ــ ونأتي إلي القصة الأخيرة في المجموعة، وهي بعنوان (نشيد الشمس) فهي بالفعل نشيد، أو دعونا نقل قصيدة تفعيلة؛ حيث تتميز بلغة شاعرية، نُظمت لتلخص تاريخ شعراء العرب القدامى برؤية مبدع من العصر الحديث، وتبعث الأمل في النفوس بعودة “عنترة” الظافر؛ ليدخل سوق “عكاظ” بصحبة الأطفال، ويقف أمام شيوخ الكلمة، وينهمك في ارتجال “معلقةٍ جديدةٍ” نُسجت من شعر حرّ التفعيلة، يشبه قرص الشمس الصابح، كما ذكر السارد.
ولا يفوتنا أن نذكر براعة الكاتب في السرد القصصي الغرائبي، وذلك في قصتي:
طلاسم… وقصة صهريج.
لقد أبدع الكاتب الأستاذ كرم الصباغ مجموعة من القصص القصيرة، التي تعتمد عل المشاهد المتقطعة، المتتالية، كي يبرز مواقف بعينها في كل مشهد، وقد تميزت هذه المشاهد بالتكثيف، والجمل المتسارعة، والمشهدية السينمائية العالية، متكئ في ذلك على لغةٍ فصحي بليغة، محملة بالمجاز، والدلالات اللغوية، شملت جل قصص المجموعة، التي تحمل الكثير، والكثير من الرسائل المضمرة بين طيات سطورها، منها على سبيل المثال:
أننا لابد أن نقف في وجه الكثير من الموروثات الثقافية والاجتماعية التي تسيطر على عقول البسطاء من أهل القري، والنجوع، وتدمر حياة الكثيرين منهم.
كما يجب علينا كعرب، ألا نغض الطرف عما يحدث لأهل غزة، وألا نيأس من السعي وراء رفع المعاناة عمن تبقي منهم على قيد الحياة.
أمينة الزغبي
كاتبة وناقدة
عضو اتحاد كتاب مصر عن القصة والرواية والمسرح
سكرتير عام فرع نادي القصة بالإسكندرية