أخبار عاجلةدراسات ومقالات

أ. د ربيع عبد العزيز يكتب جماليات الحذف:

أ.د ربيع عبد العزيز يكتب جماليات الحذف:

الحذف هو التعبير عن المعنى مع حذف بعض مكوناته. وقد يكون المحذوف حرفا أو كلمة أو جملة، على أن يتضمن المذكور قرينة دالة على المحذوف؛ أما حذف الحرف فمنه ما جاء في قوله تعالى:( والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر)« الفجر١- ٥».
فالمضارع « يسري» معتل الآخر بالياء، ولم يسبقه جازم، ولا هو جواب للطلب، ومع هذا حذفت ياؤه حتى تطرد الفواصل الرائيات . وهنا يتجاوز الصوغ القرآني قيود القاعدة لينحاز لجمال الإيقاع الذي ينتجه تواتر الفواصل الرائيات، والذي يجعل التلقي فعلا ممزوجا بالمتعة.
ومن حذف الحرف ما جاء في قوله تعالى:( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)« البقرة:١٨٤». ولقد يسأل سائل: كيف تلزم الفدية من يطيق الصيام؟ وجدارة هذا السؤال بالطرح توجهنا للبحث عما يكون في الآية من حذف.
وبالبحث يتبين أن هناك حذفا، وأن المحذوف هو حرف النفي (لا)، وأن موقعه قبل الفعل يطيقون؛ بحيث يصبح تمام الكلام-في غير القرآن-:( وعلى الذين لا يطيقونه).
وأما حذف الكلمة فمنه ما جاء في قوله تعالى:(فقالوا ساحر كذاب)«غافر: ٢٤». والمحذوف هنا هو اسم الإشارة هذا. وتمام الكلام-في غير القرآن-بعد تقدير المحذوف: هذا ساحر كذاب.
ومنه حذف المبتدأ في قوله تعالى:(وقالوا أساطير الأولين)«الفرقان: ٥»والتقدير: هي أساطير الأولين.
ومن ذلك حذف الفعل في قوله تعالى:(وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا)«النحل: ٣٠». والفعل المحذوف تقديره أنزل، وتمام القول-في غير القرآن-بعد رد المحذوف هو: قالوا أنزل خيرا.
ومنه حذف الموصوف اكتفاء بصفته؛ كما في قوله تعالى:(وآتينا ثمود الناقة مبصرة)«الإسراء: ٥٩»، وتقدير الكلام بعد رد الموصوف المحذوف هو: الناقة آية مبصرة.
ومنه حذف المفعول في قوله تعالى:(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)«يوسف: ٢»؛ فالفعل تعقل يتعدى إلى مفعول، ولكن لا مفعول له في الآية، والمفعول المحذوف يشير إلى أن إنزال القرآن كان سببا لحصول تعقل أشياء كثيرة على رأسها تعقل علوم إعجازه وتلاوته وتفسيره وناسخه ومنسوخه.
ويطرأ الحذف على الجمل، وفي هذه الحال قد تكون الجملة المحذوفة موجزة وقد تكون مطولة؛ فمثال الموجزة ما جاء في قوله تعالى:(واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)«الطلاق: ٤». والمحذوف وقع بعد( لم يحضن)، وتقديره:(فعدتهن ثلاثة أشهر). أما إيجازه فليس بخاف.
وأما المحذوف المطول فمنه قوله تعالى:(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)«الزمر: ٢٢»، وتقدير المحذوف هو( كمن أقسى قلبه وتركه على ظلمه من كفر). ولا يخفى طول المحذوف..
وألح المفسرون والبلاغيون على أن يكون في المذكور دلالة على المحذوف، وإلى هذا يشير الزركشي مؤكدا أنه لا بد أن يكون في المذكور دليل على المحذوف، وهذا الدليل إما أن يكون لفظيا، يقود إليه علم النحو، وإما أن يكون سياقيا تقتضيه الملابسات الحافة بالكلام والمتكلم والمخاطب، وهو ما يسميه البلاغيون الدلالة المقالية والدلالة الحالية.
والدلالة المقالية تعرف من إعراب الكلمة، فإذا كانت منصوبة وكان الناصب محذوفا كان على المتلقي أن يبحث عنه ويقدره؛ ففي قوله تعالى:(ناقة الله وسقياها)«الشمس: ١٣» يجد المتلقي كلمة ناقة منصوبة، ولا يجد العامل الذي أوجب النصب. ولكنه يستطيع بإعمال النظر أن يجد الناصب هو الفعل احذروا.
وشبيه بما سبق نصب الأرحام في قوله تعالى:(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)«النساء: ١» فالأرحام ليست اسما للحرف الناسخ إن أو إحدى أخواتها، وليست خبرا للفعل الناسخ كان أو إحدى أخواتها، وإنما هي منصوبة على المفعولية، وعامل النصب المحذوف تقديره(واحفظوا)، وتمام الكلام-في غير القرآن-بعد رد المحذوف هو( واحفظوا الأرحام).
وأما الدلالة الحالية فقد يوجه إليها العقل والشرع معا؛ كما في قوله تعالى:(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)«البقرة: ١٨٤».
فالشرع يأذن بالإفطار للمريض والمسافر، ولكن من المرضى والمسافرين من يتجلد ويتمسك بالصيام؛ ولهذا فليس عليه عدة من أيام أخر، وإنما هي على من أفطر مسافرا كان أو مريضا، وعلى هذا فالمحذوف المقتضى بالشرع تقدير ( فأفطر)، وتمام الكلام- في غير القرآن-بعد رد المحذوف هو(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه قضاء ما أفطر).
والعادة من الأدلة الحالية التي توجه إلى المحذوف وتعين على تقديره؛ كما في قوله تعالى:(قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم)«آل عمران: ١٦٧».
ولما كان الكلام صادرا عن خبراء بالقتال، فإن من كانت تلك خبرتهم لا يمكن أن يقصدوا العلم بحقيقة القتال وماهيته وأساليبه، ولذلك كان مجاهد يقدر المحذوف على أنه (مكان قتال). وقيل إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة.
ما لا يمكن القفز عليه هو أن من المحذوف ما لا يمكن تقديره؛ كقوله تعالى:(وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)«الزمر: ٧٣».
أنت إذا فتشت عن جواب إذا في هذه الآية فلن تجده، ومن المستحيل أن تقدره؛ ولهذا أراح البلاغيون أدمغتهم فقالوا إنما حذف جواب الشرط بقصد التفخيم والتعظيم، وهو قول صحيح وغير صحيح. هو صحيح لأن عاقلا لا يجادل في أن فخامة الجنة ما بعدها ولا قبلها فخامة. وهو غير صحيح لأن تقدير المحذوف غير القصد من حذفه.
إذن لا يوجد في المذكور من آية سورة الزمر ما يدل على المحذوف ويحدد طبيعته، ولن- ولا أقول لم- يستطيع مخلوق أن يقدر المحذوف ويحصي أجزاءه. ولا عجب؛ فإن النبي- وهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى- وصف الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وكيف لمفسر أو بلاغي أو أعلم أهل الأرض أن يحصي ما لم يره أو يسمعه، بل ما لم يخطر على قلوب البشر.
إن الجنة مكان لا تحيط بوصفه الكلمات، ولهذا سوف يظل المحذوف في آية سورة الزمر معجزا، مدهشا، يفوق كل كلام يخطر على بال أفصح الفصحاء.
ولضيق المقام حذف جواب الشرط في قوله تعالى:(ولو ترى إذ وقفوا على النار)«الأنعام: ٢٧».. فتش في الآية عن جواب لو، هيهات أن تجده. أما لماذا حذف؟ فلكي تذهب العقول في تأويله كل مذهب، وليظل ما ينتظره الموقوفون على النار أبعد مما يحصره الحاصرون، وفي ذلك ما يملأ نفوسهم رعبا. ويقدر البغوي جواب لو بقوله:(لو تراهم في تلك الحال لرأيت عجبا)، وهو تقدير يصف الجواب المحذوف ولا يحصيه ولا يحدده. ومعلوم أن للعجب وجوها تختلف باختلاف الحس بالجرم وأهوال المنتظرين.
ومهما يكن من أمر فالحذف جزء أصيل من بلاغة العرب منذ الجاهلية وما تلاها من عصور، وهو جزء من إعجاز القرآن، وهو يحرر المتلقي من الاسترخاء، ويبعثه على التأمل وإعمال العقل، وفي كل حذف دعوة ضمنية للمتلقي حتى يعمل عقله ويلتذ ببلاغة القرآن.. وقديما كان العلامة عبد القاهر الجرجاني يشدد على أن معرفة البلاغة من تمام الإسلام.
دكتور ربيع عبد العزيز.

أستاذ البلاغة والنقد الأدبي.
كلية دار العلوم، جامعة الفيوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى