
في زقاق ضيق بين منازل حي شعبي، حيث تتراقص ظلال المساء مع أصوات الباعة المتجولين، كان سمير يجلس على عتبة بيته الصغير يراقب العالم وهو ينقلب رأسا على عقب. لم يكن انقلابا حقيقيا، بل كان سمير نفسه من انقلب – حرفيا.
منذ أسبوعين، بدأ سمير يرى العالم مقلوبا: الأرض في الأعلى، والسماء في الأسفل، والناس يمشون بأقدامهم المتدلية نحو الفضاء اللامتناهي. في البداية، ظن أنها مجرد دوخة عابرة من كثرة العمل في المصنع، لكن الأمر استمر وتطور حتى أصبح واقعا لا مفر منه.
“مريض أنا، بلا شك مريض، وأي مرض هذا ؟ !” همس لنفسه وهو يراقب جاره أبو محمد وهو “يسقط” من باب بيته نحو السماء، قبل أن “يهبط” مجددا ويستقر بطريقة ما على الأرض المعلقة في الأعلى.
مرت الأيام وسمير يتعلم كيف يعيش في عالمه المقلوب. اكتشف أن الأمر ليس مجرد خدعة بصرية، بل تحول في إدراكه للوجود ذاته. في المصنع، بينما كان زملاؤه يركزون على آلاتهم المعلقة في السماء، كان سمير يتأمل الأرض الممتدة فوق رؤوسهم كسقف لا متناهي.
“- أنت لست طبيعيا اليوم يا سمير. قال له مشرف العمل، أنت تعمل وكأنك في حلم.”
ابتسم سمير ابتسامة باهتة. فهو لم يعد يعرف ما هو الحلم وما هو الواقع. فالواقع نفسه أصبح حلما مقلوبا، والحلم أصبح الحقيقة الوحيدة التي يمكنه فهمها.
في المساء، بدلا من الذهاب إلى المقهى الشعبي كالعادة، كان سمير يتجه إلى السطح. هناك، معلقا بين السماء والأرض، كان يشعر بتوازن غريب. النجوم تحته والحجارة فوقه، والصمت يلف المكان كعباءة من الحكمة القديمة.
ذات ليلة قمراء، بينما كان سمير على السطح يتأمل النجوم المرصوفة تحت قدميه، سمع صوت رفيف أجنحة. التفت ليجد خفاشا صغيرا معلقا بالمقلوب من حافة السطح – أو بالأحرى، معلقا بالطريقة الصحيحة الوحيدة في هذا العالم المقلوب.
نظر سمير إلى الخفاش الذي كان ينظر إليه. ففهم سمير الحكمة الخفية وراء انقلابه.
– “أنت تعرف السر، أليس كذلك؟” همس سمير للخفاش الصغير.
الخفاش لم يجب، لكن عينيه اللامعتين في الظلام كانتا تحملان إجابة عميقة. فالخفاش الوحيد بين المخلوقات الذي يرى العالم من منظور مختلف، المعلق بين السماء والأرض، لا ينتمي لأي منهما ولا يستقر في مكان ثابت.
في الأيام التالية، بدأ سمير يفهم أن انقلاب رؤيته لم يكن مرضا، بل كان تحررا. كان العالم من حوله يسير في اتجاه واحد، يركض نحو أهداف موهومة، يتسابق نحو المادة والشهرة والسلطة، بينما الحقيقة معلقة رأسا على عقب أمام أعينهم ولا يرونها.
في المصنع، كان زملاؤه يتذمرون من العمل، من الحياة، من الظروف، بينما سمير كان يرى جمالا خفيا في حركة الآلات المعلقة في السماء، في رقص العمال “المقلوبين”، في تناغم الأصوات المتصاعدة من الأرض نحو اللامتناهي.
– “هؤلاء الناس يعيشون في السماء ويظنون أنهم على الأرض”، تمتم سمير وهو يراقب زملاءه، “وأنا أعيش على الأرض وأرى حياتي في السماء.”
لم يمر الأمر دون ملاحظة. بدأ الناس يتحدثون عن تصرفات سمير الغريبة، عن نظراته الشاردة، عن طريقة مشيه الحذرة وكأنه يخشى السقوط في السماء.
– “هذا الراجل أكيد أنه قد جن”، همست أم محمد لجارتها، “صار يمشي وينظر إلى الأعلى كأنه يخاف من أن يتخطفه نسر ويطير به.”
– “اللهم اشفه”، ردت الجارة، “هذه الحياة تجنن الحكيم.”
لكن سمير لم يعد يهتم بآراء الناس. كان قد اكتشف سرا عظيما: أن الجنون الحقيقي هو في قبول العالم كما يبدو، دون التشكيك في طبيعة الواقع نفسه. الحكمة الحقيقية تكمن في رؤية العالم من زاوية مختلفة، حتى لو كانت مقلوبة.
بمرور الوقت، بدأ سمير يطور قدرات غريبة على التأقلم مع وضعه الجديد. حيث أصبح قادرا على التنبؤ بسقوط الأشياء قبل حدوثه، لأنه كان يراها “ترتفع” نحو الأرض المعلقة في الأعلى. أصبح قادرا على فهم مشاعر الناس بطريقة أعمق، لأنه كان يرى أرواحهم معلقة بين السماء والأرض، لا تعرف إلى أين تنتمي.
الخفاش الصغير أصبح رفيقه الدائم، يظهر كل ليلة على السطح، وكأنه معلم صامت يذكره بحكمة البقاء معلقا، بحكمة عدم الانتماء إلى أي من العالمين.
-“نحن الاثنان مقلوبان في عالم مقلوب”، همس سمير للخفاش ذات ليلة، “لكننا الوحيدان اللذان نرى الصورة الحقيقية.”
أدرك سمير أن انقلاب رؤيته كان رمزا لانقلاب أعمق في فهمه للحياة. المجتمع يركض خلف السراب، يبني قصورا في الهواء، ويحارب من أجل أوهام. بينما الحقيقة بسيطة وصافية: نحن جميعا معلقون بين السماء والأرض، لا ننتمي إلى أي منهما بشكل كامل.
الفضيلة الحقيقية للكينونة لا تكمن في الثبات على موقف واحد، بل في القدرة على رؤية العالم من جميع الزوايا، حتى المقلوبة منها. الخفاش يعلم هذا السر: كيف يعيش معلقا دون أن يسقط، كيف يرى في الظلام دون أن يفقد طريقه.
مع الوقت، تعلم سمير كيف يعيش في عالمين متوازيين: عالم الناس العادي حيث الأرض تحت والسماء فوق، وعالمه الخاص حيث كل شيء مقلوب ومختلف. أصبح قادرا على التنقل بين الرؤيتين حسب الحاجة، كالخفاش الذي يطير في الليل بنفس المهارة التي يطير بها طائر آخر في النهار.
في العمل، كان يؤدي مهامه بكفاءة، لكن روحه كانت تحلق في عالم آخر. مع الناس، كان يتحدث بلغتهم، لكن قلبه كان يترجم كل شيء إلى لغة الرموز والمعاني العميقة.
– “هذه الحياة ليست كما نراها نحن”، قال ذات يوم لصديقه أحمد في المقهى، “إننا نعيش في حلم، والحلم هو الحقيقة الوحيدة.”
نظر إليه أحمد باستغراب، لكن سميرا ابتسم فقط. كان يعلم أن هناك أشياء لا يمكن شرحها بالكلمات، بل يجب أن تُعاش وتُفهم من الداخل.
أصبح سمير يشعر بمسؤولية غريبة تجاه العالم. كان الخفاش الصغير يزوره كل ليلة، وكأنه يحمل رسالة خفية: “أنت المترجم بين العالمين، أنت الجسر بين الواقع والحلم.”
بدأ سمير يكتب في دفتر صغير، يسجل ملاحظاته عن العالم المقلوب، عن الحكم التي يتعلمها من رؤيته المختلفة.