أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

عماد خالد رحمة يكتب المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، والهرمينوطيقي لنص “أرشّ وجه القمر”

نص الأديب السوري سليمان يوسف

يشكّل النص الشعري الحديث مساحة خصبة لتعدّد القراءات وتفاعل المناهج النقدية، خاصة حين يتقاطع فيه الجمالي بالوجداني، والرمزي بالنفسي. وفي قصيدة “أرشّ وجه القمر” للشاعر السوري سليمان يوسف، تتجلّى تجربة شعرية مفعمة بالانفعالات الداخلية، والمجازات الكثيفة، والصور التي تتجاوز المباشرة لتنسج عالماً تأملياً شفافاً وعميقاً في آن.
يبدو النص وكأنه مرآة لانكسارات الذات وتوقها للمطلق والاكتمال، مما يفتح المجال لتحليل متعدد المستويات، نستند فيه إلى المنهج الرمزي لكشف دلالات الصور، والأسلوبي لتفكيك البنية التعبيرية، والنفسي لفهم الدوافع الشعورية واللاشعورية، وأخيراً الهرمينوطيقي لتأويل النص ضمن أفقه التأملي المفتوح.

_ في مجال المنهج النفسي.

الرغبة، القلق، والذات المجروحة.
النص يكشف عن نفس مفعمة بالتمزق الوجداني، ويبدأ بحركة رش وجه القمر بماء غيم شرود، في إشارة إلى نزعة تطهيرية أو رغبة في إضفاء الحزن على الجمال. القمر كرمز أنثوي تقليدي في اللاوعي، مرتبط بالأم، بالعاطفة، وبالغياب، بينما الغيم “الشرود” يمثل الحالة النفسية للذات الشاعرة: متقلبة، هاربة، وغير مستقرة،يقول:
“لن أنحني لفاجعة الوقت”
“ولو طاردتني كظبي جريح”.
الجُمل تعكس ممانعة داخلية للموت أو الفناء الزمني، وفي الوقت ذاته تعبّر عن حالة الاستسلام الشاعري للقدر، وهذا التناقض يتكرر في النص ويشكّل مركزه النفسي. في المقطع الأخير، تنقلب الرغبة إلى هاوية وجودية:
“حين أموتُ من الحبِّ
وتصعدُ الرغباتُ نحو هاويتي”.
الذات هنا تستشعر أن الحب نفسه يؤول إلى موت نفسي أو وجودي، وأن الرغبة ليست خلاصاً بل سقوط داخلي. هذا الموقف الوجودي من الحب يشي بـ نزعة نرجسية، حيث تتحوّل المرأة/الآخر إلى أداة لانكشاف الذات على نفسها.
–في مجال المنهج الأسلوبي.
كثافة الصور، المجاز، وتداخل البنى.
الأسلوب في هذا النص يقوم على:
_ الانزياح اللغوي الشديد:
مثال: “أرشُّ وجه القمر”، “أرصف في حبر الكلام”، “أمسك كأسي كهيئة أنثى”.
كثافة الصور البيانية والتشابيه:
مثل: “كوميض اليدين”، “يشبهكِ ورد المساكب”، “كأنها تكسر خاطر القلب”.
التكرار البنيوي للتضادّات:
الموت/الحب
الغدر/الجنون
النبع/الضوء/الخراب.
تبدو اللغة مفتوحة على احتمالات متعددة، مشحونة بالانفعالات. كما أن استخدام الضمير المتكلم يقوّي من مركزية الذات، فيما الضمير “كِ” المخاطب يشير إلى أنثى مطلقة، تُخاطَب أحياناً ككائن محسوس (“ورد المساكب”) وأحياناً كفكرة متسامية (“بحر يجاور الماء”).
_ في مجال المنهج الرمزي.
القمر، البحر، الكأس، المرايا
يحتشد النص بالرموز، وكل رمز يُستثمر بطريقة غير تقليدية:
القمر: غالباً ما يرمز إلى الرومانسية أو الصفاء، لكن هنا يتم رشّه بماء الغيم، وكأنه موضع ندم أو طقس طهريّ، مما يوحي برغبة دفينة في تلويث الجمال أو التبرؤ منه.
العصافير/موت الشجر: تُعبّر عن العجز عن البوح والاتصال بالحياة.
المرأة: رمز مركزي، تظهر بأوجه متعددة: الحبيبة، الطبيعة، الخطر، الجنون، الغدر، حتى كأس الخمر (“أمسك كأسي كهيئة أنثى”).
المرايا: تتكرر كرمز للنرجسية والانكشاف الداخلي، لكنها هنا تحرث الجسد، أي تُعيد تشكيله. فالمرايا لا تعكس فقط بل تخلق.
البحر الذي “يجاور الماء” يوحي بأن الرغبة الموجهة نحو المرأة ليست نحو كائن بل نحو فكرة زئبقية، لا يمكن الإمساك بها.
_ في مجال المنهج الهرمينوطيقي (التأويلي).
نص مفتوح على تعدد المعاني.
في ضوء الهيرمينوطيقا (التأويل)، النص لا يقول شيئًا بشكل مباشر، بل يوحي ولا يُصرّح. إنه نص تجريبي، ذاتي، وشبه صوفي من حيث العلاقة بالحضور الأنثوي ، يقول الشاعر سليمانيوسف:
“فتحرث جسدي مرايا / تستيقظ فيها صورتي؟”
هنا نجد بنية تأويلية معقدة:
_ المرايا تُحرث الجسد، أي تُعيد حفر ذاكرته الحسية.
_ الصورة الذاتية تستفيق من خلال الآخر الأنثوي.
_ الـ”؟” الأخيرة تُشير إلى اللايقين التأويلي، وكأن الشاعر يعجز عن تفسير علاقته بذاته عبر الآخر.

يمكن تأويل النص على أنه رحلة صوفية معكوسة، تنطلق من الجسد لا من الروح، من الغريزة لا من العقل، في محاولة للوصول إلى نوع من الاكتمال الوجودي المؤجل أو المستحيل.
– خلاصة تركيبية
نص سليمان يوسف “أرشُّ وجه القمر” هو نص رمزي – نفسي – أسلوبي – تأويلي بامتياز. لا يعتمد على الخطاب المباشر، بل يركّب ذاته من صور مجازية مشحونة، يضخّ فيها الشاعر توتراته الداخلية وأوهامه ورغباته.
ينجح النص في استحضار جمال أنثوي يتقاطع مع الألم والخذلان.
يستخدم الأسلوب كمرآة لذات قلقة، مفتونة، مسكونة بالموت والرغبة.
الرموز تتشابك في نسيج غنائي شعري يربك القارئ ويفتح أفق التأويل.
الهيرمينوطيقا هنا ليست فقط قراءة النص بل الدخول في تجربة ذاتية معه، باعتبار أن كل تأويل هو إعادة كتابة للنص من جديد.

نص القصيدة :
أرشُّ وجه القمرِ
بماء غيمٍ شرود
وأرصف في حبر الكلامِ
أسماء أنوثة جامحة.
كيفَ_لي_ أن أكلمَّ نجمةَ الهروبِ،
أو أخبر العصافير عن موت الشجرْ.
لن أنحني لفاجعة الوقتِ
ولو طاردتني كظبي جريحٍْ،
هيَ النهاياتُ واحدة_لنا_،
فلمَ لانمسك الحياةَمن خصرها الجميل ِْ،
/نراقصها كوميض اليدينِ،
فيشتعلُ في الضوء سلام نبعٍٍ،
وكم يشبهكِ ورد المساكبِ،
وكم نشتهي فيكِ نعاسَ الضوءِ،
ولأنكِ بحر يجاور الماءَ
أحببتُ فيكِ جنونَ الغدرِ؟!،
واستباحتي في مرايا
الريحِ،
كأنها تكسرُ خاطر القلبِ
وأنا المنتبه لاكتمالكِ /فيَّ؛

حين أموتُ من الحبِّ
وتصعدُ الرغباتُ نحو هاويتي
وأمسك كأسي كهيئةِ أنثى،
فتحرث جسدي مرايا ،
تستيقظُ فيها صورتي؟.

الأديب الناقد عماد خالد رحمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى