أخبار عاجلةالرئيسيةساحة الإبداع

الأديب القدير مصطفى نصر يكتب إن غبت عني ولو شوية

 

لم يكن صديقي، فهو أكبر مني بسنوات كثيرة. إسمه الحقيقي أحمد عبد الله، ولأنه طويل بشكل ملحوظ، فأطلقوا عليه إسم ” أحمد بيللا “.. وقد كنت أسمع عنه من أصدقائي الذين يكبرونني بسنوات قليلة.والذي كان يسمح لهم بمقابلته والتحدث معه.
كان يقف على ناصية الحارة بجوار دكان حسني البقال، يتحدث في الفن، ويغني بصوته الجميل أغانٍ لم أسمعها من قبل. وكلما إقتربت منه، يتوقف عن الحديث أو الغناء، ويشيح بوجهه عني مستخفا بي: إمشي يا ولد.
فأبتعد حزينا.،وأنظر إليه من بعيد.، كان يغني أغاني ” محرم فؤاد ” المطرب الجديد الذي ظهر فيلم ” حسن ونعمية ” :
رمش عينه إللي جارحني… رمش عينه
رمش عينه إللي دابحــني… رمش عينه
مين يا ناس يحكم ما بين قلبي وبينه ؟!
وأغنية: الحلوة داير شباكها.. شجرة فاكهة ولا في البساتين
الحلوة م الشباك طالــة.. يحرسـها الله سـت الحلوين
وأغاني محمد رشدي القديمة:
خاصم شهر وصالح يوم.،
ياللي مقضي هوانا خصام.،
كفاية تسعة وعشرين يوم.
هو وحيد أمه على بنات كثيرات، لذا كان مدللا، وظل بلا عمل لسنوات طويلة.،لا هم له سوى الغناء وتأليف الأغاني. وقد أحب إبنة عمه الذي إغتني وترك ” حي غربال ” وسكن “حي الرمل “.قريبا جدا من محطة القطار.
رآها أحمد عبد الله في حفل، فتاة بيضاء طويلة وعريضة.، فحدث أمه وأخته عنها، وظل طوال الليل يتحدث عن جمالها، وأمه وأخته غير متحمسين لحديثه.، فأم الفتاة لن توافق على أن يتزوجها، فمنذ أن إغتني زوجها وهي تتعالي علي باقي الأسرة، وتتحدث معهم بكبرياء. لكن أمه وافقت مضطرة على زيارتهم.، فإبنها الولد الوحيد الذي لا تستطيع أن ترفض له طلبا، فإشترت علبة جاتوه كبيرة وغالية الثمن من ” محطة مصر ” وركبت قطار أبو قير هي وإبنها وإبنتها، وزارتهم، جاءت الفتاة وصافحتهم، وتحدثت معهم.، لكن الأم لم تبد ترحيبا بهم. هو حدث الفتاة عن رغبته في أن يكون مطربا مشهورا مثل محرم فؤاد، وسألها عن فيلم حسن ونعيمة، هل رأيتِه؟ وغني لها مقطعا من أغاني الفيلم، والفتاة سعيدة، وأمها تنادي عليها وتستعجلها من خارج الحجرة، وضح لأمه وأخته أن الفتاة إرتاحت له وأحبته. وعادوا في القطار أيضا وهو يتحدث عن الفتاة طوال الطريق.، قبل أن تترك أخته بيت أمها وتعود إلى بيتِها، فوجئوا بشقيق الفتاة يأتي بعلبة الجاتوه التي أهدوها إليهم. تركها الشاب من خارج الشقة وأصر على عدم الدخول. ففهموا وقتها أن الأسرة ترفضه زوجا لإبنتهم. تناولوا وقتها الجاتوه وهم حزاني، وقالت أخته وهي تلوح ما في فمها: أحسن، خسارة فيهم.
لكنه لم ييأس، فما دامت البنت تريده.، فهي له لاشك.
وجاءت إبنة عمه لزيارة قريبة لها، وأرسلوا إلى أحمد لمقابلتها فكل الأسرة تعلم مدي حبها له، ويعلمون إنها جاءت إلى قريبتها هذه في غربال على أمل مقابلته. أقنعته الفتاة وقتها بأن يبحث له عن عمل؛ أي عمل لكي توافق أمها عليه، وبعد ذلك ينظر في مسألة الغناء. فعمل عاملا في مصنع الجراية لتغليف الورق بشارع بوالينو بمحرم بك. قابل هناك مؤلف الأغاني المشهور محمود الكمشوشي. وعرض عليه مجموعة من أغانيه التي يكتبها ، فأثنى الكمشوشي عليه، وأصلح له بعض الكلمات ليستقيم المعني، وسمع صوته فإزداد إعجابه به ووعده بأن يقدمه إلى ملحنين يعرفهم يعملون في إذاعة الإسكندرية. عرّفه الكمشوشي بصاحب مكتبة بشارع إيزيس إسمه ” علي كامل”. رجل مثقف، يجيد العزف على العود، ويلحن أغان، ويجيد كتابة النوتة الموسيقية. أعجب “على كامل ” بصوته، ولحن له أكثر من أغنية. كان أحمد عبد الله يغني في الأفراح التي تقام في الحي، يقف ببذلته السوداء ويمسك الميكرفون ويغني، فيصفق الناس له كثيرا.
ومرت السنوات وإستطعت أن أتقرب منه، حدثه عني صديق مشترك يكبرني بسنوات قليلة. فسمح أحمد عبد الله لي بأن أرافقه.وحكي لي عن عشقه لإبنة عمه. وقال لي بصراحة عجيبة: أنا معجب بها لأنها ” وابور “.
يقصد أن إعجابه بها سببه جسدها الطويل العريض. فألح على أمه وأخته بأن يعاودا زيارة بيت عمه ثانية في الرمل، فلديه إحساس بأنهم سيوافقوا على خطوبته لإبنتهم هذه المرة، ذهبتا معه، وفوجئوا بتغير المعاملة، إبتسمت أم الفتاة ورحبت بهم، فالفتاة رفضت كل من تقدم لها. وحددوا في هذه الجلسة موعد الخطوبة.
فدعانا أحمد عبد الله لحضور حفل الخطوبة الذي سيقام في شقة العروس، شقة للسيدات، وشقة أخرى مواجهة لشقتهم، مخصصة للرجال. كان أحمد عبد الله جميلا في البذلة السوداء، وكان يتحدث بصوته المرتفع والمميز وأقارب العروس يتحركون بين الشقتين المواجهتين. وفجأة جاء شقيق العروس مناديا أحمد لكي يلّبس عروسه الشبكة، فوقف وأشار إلينا بأن نأتي معه، أحس شقيق العروس بالضيق من تصرفه، فكيف يُدخل شباب غرباء شقة مليئة بالنسوة والفتيات الصغيرات؟! لكنه لم يستطع الإعتراض. فدخلنا الشقة الممتلئة بالنسوة. ووقفنا حول العروسين، كانت العروس سعيدة بخطيبها الوسيم. وغني أحمد عبد الله أغنية ” إسماعيل شبانة ” وسط دهشة الجميع:
إن غبت عني ولو شوية
ابقى إفتكرني وإسأل عليه
**
طــــول الليالي بنادي طـيفـك
وأقول يا غالي إمتى حاشوفك
وأنت منايا
وأنت هنايا
لو يوم نستني أبقى إفتكرني واسأل عليه.
كان صوته جميلا، أجمل من كل مرة غني فيها. وكنا نرد عليه وإقتربت النسوة والفتيات منا، وقد أحاطوا بنا وشاركونا الغناء. وجاء شقيق العروس – الذي كان مستاءًا مما يحدث – أحس بالسعادة لما يرى، فإقترب منه، وإلتصق به، وصفق وأخذ يغني معنا..
وعدنا إلى الحي ولا حديث لنا إلا ما فعله أحمد عبد الله مع خطيبته،حكينا لأهالينا في دهشة وسعادةو حكينا لأصدقائنا الذين لم يحظوا بهذه الفرصة النادرة. ، ولم يأتوا معنا لحضور الحفل. وكتبنا الأغنية وغنيناها. ، حفظت الأغنية وكنت أغنيها من وقت لآخر. ومازلت أحفظها وأغنيها كلما تذكرت أحمد بيللا.
عمل أحمد عبد الله وقتها سائقا في هيئة النقل العام، كان يغني وهو سائق الأتوبيس.، ويداعب الكمساري الذي يعمل معه.،ويداعب الركاب، لكنه تشاجر مع الكثيرين منهم، خاصة الذين يشدون السلك لينبهوه لرغبتهم في النزول. ، فكان شد السلك يؤدي إلى ضرب الجرس فوق رأسه، مما يزعجه ويخرجه من حالة الوجد التي يجدها في غنائه، فكان يسخر من الناس قائلا: خللي أمك تشتريلك سلك تشده في البيت.
حتى كثرت الشكاوى ضده.
وقد كان يأتي بالأتوبيس إلى الحارة صيفا، يركنه بجوار بيته، ويتفق مع مجموعة من أصدقائه على أن يلتقوا بعد منتصف الليل، فيأخذهم إلي الشواطيء القريبة : الشاطبي والأنفوشي، وسيدي بشر.حيث تستحم النسوة في الصباح المبكر بعيدًا عن أعين الرجال، يتلصصون على النساء اللاهيات والسعيدات بمياه البحر، وعندما تكتشف النسوة ما يحدث، يسرعون إلى الأتوبيس ويذهبون لشاطئ آخر.
إكتشف المسئولون في إدارة النقل العام ما يفعل، ففصلوه. وشاع هذا عنه، فأصرت أسرة خطيبته على فك الخطوبة. إالفتاة على قبول ذلك، وهي كارهة لفراقه.وضاعت إبنة عمه منه، لكننا لم ننس غناءه لاغنية: إن غبت عني ولو شوية، ابقى إفتكرني وإسأل عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى