الحبّ كظاهرة وجودية: قراءة هيرمينوطيقية-رمزية في قصيدة سونيا الفرجاني:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

ا
دراسة نقدية تحليلية:
1- مدخل عام: الحب كحدث لغوي ووجودي:
قصيدة سونيا الفرجاني “يهبط الحب في بدايته” ليست مجرد تصوير لحالة عاطفية آنية، بل هي اشتغال شعري على ميتافيزيقا البداية، حيث يتحول الحب إلى قوة كونية تقتحم الكيان الإنساني مثل عاصفة، وتعيد صياغة العلاقة بين الداخل والخارج، بين الفرد والعالم. هنا نقترب من الرؤية الهيدغرية للغة بوصفها “بيت الوجود”، فاللغة الشعرية في النص ليست وسيلة للتعبير عن الحب، بل هي نفسها حبٌّ في طور التشكل، ولها جسدها وارتعاشتها.
2- المنهج الهيرمينوطيقي: التأويل من الداخل إلى الخارج
البيت الأول “يهبط الحب في بدايته / مثل قطيع غيومٍ جائعة” يفتح مجال التأويل على بعدٍ كونيّ. الهبوط هنا ليس سلبياً، بل هو انخطاف من الأعلى إلى الأسفل، من الماوراء إلى الداخل، مما يذكّر بتأويل بول ريكور للرمز كـ”زيادة في المعنى”. الغيوم الجائعة تحيل إلى عطش روحي، إلى حاجة ملحّة تسكن الكيان الإنساني وتبحث عن الامتلاء.
“يغرس أسنانه في عشب الروح” هي صورة إيحائية متجاوزة، تستدعي قراءة رمزية: الروح حقل هشّ، والعشق قوة مفترسة ومانحة في الوقت نفسه. إننا أمام صورة مزدوجة بين اللذة والألم، بين الخصب والافتراس، بما يذكّر بثنائية إيروس وثاناتوس عند فرويد.
3- المنهج الأسلوبي: بنية اللغة وإيقاع التوتر:
النص يقوم على المفارقة الأسلوبية بين الحسي والماورائي. فالكلمات تتأرجح بين مادي محسوس (أسنان، عشب، شرايين، أجساد) وبين كوني متعالٍ (سقوف لم تُبنَ، كونا بتسعة فصول). هذه الازدواجية تصنع إيقاعاً داخلياً مشحوناً بالتوتر.
استخدام صيغة المضارع (“يهبط، يغرس، يجعل، يضيّق”) يمنح النص حيوية واستمرارية، وكأن الحب لا يتوقف عن الحدوث، بل هو فعل متواصل، دائم الحضور، ما يتماهى مع مفهوم “الديمومة” عند هنري برغسون.
4- المنهج الرمزي والسيميائي: ما وراء العلامة:
_ الغيوم الجائعة رمز للجوع الأنطولوجي، للفراغ الذي لا يملؤه سوى الحب.
_ العاصفة رمز للتحول العنيف، للانفجار الداخلي الذي يعصف بالذات.
سقوف لم تُبنَ بعد دالّ سيميائي على الاحتمال واللااكتمال، وهو ما يضع الحب في أفق مشروع دائم التأسيس.
كون بتسعة فصول وساعتين إضافيتين هو إعادة خلق للزمن الكوني. فالقصيدة تعلن عن ولادة “تقويم خاص بالحب”، حيث تنكسر سلطة الزمن الفيزيائي لصالح زمن عاطفي-ميتافيزيقي. هنا نستعيد طرح غاستون باشلار حول “شعرية الزمن” التي ترى أن الشعر يعيد ابتكار الزمن.
5- المنهج النفسي: البنى الداخلية للرغبة:
الحب في النص ليس تجربة خارجية، بل هو هجوم داخلي على الذات، يقتلعها من توازنها ويحوّلها إلى “طفولة جديدة”، كما في قولها: “ويتركنا نرتجفُ أطفالا ضائعين في غابةٍ من الضوء”. هذا التحول النفسي يعكس إعادة ولادة الذات في رحم الآخر.
الارتجاف الطفولي، الغابة، الضوء: كلها صور يونغية مرتبطة باللاوعي الجمعي، حيث الغابة رمز للتيه والبحث، والضوء رمز للانكشاف الروحي.
6- المنهج الديني والأنطولوجي: الحب كـ”نزول” و”صعود”:
القصيدة تشتغل على ثنائية لاهوتية: “الهبوط” و”الصعود”. الحب يهبط من علياءٍ ماورائية (كالوحي أو النعمة)، لكنه أيضاً “يصعد بنا إلى سقوفٍ لم تُبْنَ بعد”. نحن أمام دينامية روحية تجمع بين لحظة التجسد ولحظة التجاوز. هذا ما يجعل النص قريباً من تصورات المتصوفة الذين يرون في الحب طريقاً نحو الاتحاد بالكلّي.
7- البعد الوطني والإنساني:
رغم أن النص لا يصرّح بمستوى سياسي أو وطني، إلا أن توسيع العالم حتى يصبح “كوناً بتسعة فصول” يشير إلى نزعة كونية-إنسانية، تتجاوز الحدود والهويات الصلبة. فالحب هنا ليس تجربة فردية فقط، بل هو مشروع لإعادة تأسيس العالم. يمكن أن نستدعي هنا مقولة إدوارد سعيد عن “الإنسانية باعتبارها تجاوزاً للهويات الضيقة نحو المشترك الكوني”.
8- الخاتمة: الشعر كتأسيس للوجود عبر الحب:
قصيدة سونيا الفرجاني تجعل من الحب لحظة تأسيس وجودي-شعري. إنها ليست مجرد وصف للحب، بل محاولة لتشييد عالم جديد على أنقاض العالم المعتاد. النص يتنقل بين الصور الحسية والرموز الكونية، بين اللغة اليومية والميتافيزيقا، فيسائل حدود اللغة ذاتها. وهنا يلتقي النص مع مقولة هايدغر: “الشعر هو ما يؤسس الكائن في وجوده”.
نص القصيدة:
للشاعرة التونسية سونيا الفرجاني.
يهبط الحب في بدايته
مثل قطيع غيومٍ جائعة،
يغرس أسنانه في عشب الروح،
ويتركنا نرتجفُ أطفالا ضائعين في غابةٍ من الضوء.
هو عاصفةُ طيورٍ لا أسماء لها،
تتكاثر في شراييننا،
فتعلّق أصواتها على نوافذ القلوب،
وتغادر لتعود ألف مرّةٍ في اليوم.
الحبّ حين يبدأ
يصعد بنا إلى سقوفٍ لم تُبْنَ بعد،
يجعل الكلمات مخلوقاتٍ تتخبط فينا
ويجعلنا نرتدي أجسادنا
كما لو كانت حدائقَ مجهولة معلّقة.
الحب في أوله ريح تدحرج الجبال
لتضعها عند قدميك،
فلا تتعثر.
هو المطر الذي يترك الأزمنة عاريةً،
هو الرعشة التي تبتكر للهواء
جلداً جديداً.
الحب في بدايته
يضيّق العالم حتى يصير غرفةً،
ثم يوسّعه حتى يصير كونا بتسعة فصول
وساعتين إضافيتين
Sonia Ferjani