أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

المرأة والشعر جدلية الإلهام والوجود بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

منذ أن ولد الشعر، كان للمرأة فيه حضور متوهج، يراوح بين الواقع والرمز، بين الجسد الذي يُحبّ والروح التي تُستحضر في أفق المعنى. لم يكن الشعر العربي ليعرف بدايته دون المرأة؛ فالوقوف على الأطلال كان استدعاءً لكيانها الغائب، كما لو أن القصيدة وُلدت من رحم الفقد الذي تمثله. وكأن الشاعر العربي، وهو يطلق صرخته الأولى، لم يجد سوى المرأة مرآةً للذاكرة ومأوى للحنين.
يقول امرؤ القيس في مطلع معلقته:
“قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ…”

فإذا بالمرأة هنا ليست جسداً وحسب، بل بدايةٌ للتاريخ الشعري العربي، ورمزٌ للذاكرة والهوية.
وفي الغرب، عبّر الشاعر الرومانسي الإنجليزي وليام وردزورث عن هذه العلاقة قائلاً:

“الحب هو الشعر، والمرأة هي روحه.”
فهو يرى في المرأة الشرارة الأولى التي تجعل التجربة الشعرية ممكنة، مثلما كان حضورها في الشعر العربي باعثاً للقول.
_ المرأة كرمز للكون والحياة:

رأى أدونيس أن المرأة في الشعر العربي هي “الوجه الآخر للكون”، وهو ما يتقاطع مع ما كتبه الشاعر الفرنسي شارل بودلير في “أزهار الشر”، حيث رسم صورة المرأة بوصفها كائناً مزدوجاً: ملهمة ومُدمّرة، نوراً وعتمةً. يقول بودلير:
“المرأة هي بوابتي نحو المطلق، جنة وجحيماً في آن.”
وهذا البعد المزدوج يعكس طبيعة العلاقة الجدلية بين المرأة والشعر: فهي باعث الإبداع، لكنها أيضاً معضلة الشاعر الوجودية، إذ يطارد في حضورها غياباً لا يُدرك.

_المرأة صوتاً لا موضوعاً:

لم تقتصر المرأة على كونها ملهمة، بل كانت هي ذاتها صوتاً شعرياً. ففي التراث العربي، خلدت الخنساء أخاها صخراً بمراثٍ تتدفق صدقاً وعاطفة:
“يذكرني طلوع الشمس صخراً … وأذكره لكل غروب شمس”

أما في الغرب، فقد كانت الشاعرة الإغريقية سافو (القرن السادس قبل الميلاد) صوتاً أنثوياً متفرّداً، رفعت الحب إلى مرتبة الكونية، وقالت:
“يبدو لي أنه يعادل الآلهة ذلك الرجل
الذي يجلس أمامك، مصغياً لصوتك العذب.”

إن صوت سافو يوازي صوت ولادة بنت المستكفي في الأندلس، التي تجرأت أن تجعل الرجل موضوع غزلها:
“أغار عليك من نفسي … ومنك ومن زمانك والمكان”

وفي الحداثة الغربية، كتبت سيلفيا بلاث شعراً يعرّي هشاشة الروح ويكشف أنوثة مجروحة تبحث عن خلاصها، وهو ما يوازي تجربة فدوى طوقان في شعرنا العربي، حين جعلت من الشعر أداة للمقاومة والحرية.
_ المرأة في منظور الفكر الفلسفي:

رأى هايدغر أن الشعر “بيت الوجود”، وإذا أسقطنا قوله على علاقتها بالشعر، وجدنا أن المرأة كانت بيت الشعر، أي الوعاء الذي جمع الروح واللغة والذاكرة. أما نيتشه فقد اعتبر المرأة تجسيداً للطاقة الديونيزوسية التي تفجّر الفن وتغذي الشعر، إذ هي الحياة في أكثر أشكالها غموضاً وخصوبة.
ومن زاوية أخرى، بيّنت سيمون دي بوفوار في الجنس الآخر أن الرجل جعل المرأة مرآة لذاته، لا ذاتاً مستقلة، ويمكن أن نقرأ الشعر العربي التقليدي في ضوء هذا القول: فالمرأة كثيراً ما كانت انعكاساً لخيال الشاعر، لا وجوداً مستقلاً. ومع ذلك، فإن هذا الانعكاس لم يكن سلبياً فقط، بل كان ضرورياً لإنتاج لغة شعرية كثيفة، تفيض رمزية وجمالاً.

_المرأة والشعر: أفق إنساني مشترك:
لقد منح الشعر المرأة خلوداً يتجاوز الجسد واللحظة، وجعلها رمزاً للأرض والوطن والحياة، كما فعل نزار قباني حين صوّر بيروت امرأةً مطعونة بالسكين، أو كما فعل بابلو نيرودا حين رفع المرأة إلى مرتبة الخلاص:
“أحبك كما تُحب بعض الأشياء الغامضة،
في الخفاء، بين الظل والروح.”

هكذا تتجلى المرأة في الشعر كأفق إنساني مشترك، يجمع بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر. إنها المعادل الموضوعي للخصب والعاطفة والحرية، وهي في الوقت ذاته امتحان الروح التي لا تكف عن البحث عن المطلق.
_خاتمة: المرأة والقصيدة كجناحين للوجود::
إن الشعر والمرأة يتقاسمان المصير ذاته: كلاهما بحث عن المعنى، وكلاهما محاولة لترويض الغياب. الشعر لا يكون شعراً دون المرأة، والمرأة لا تكتمل صورتها الإنسانية إلا بخلودها في الكلمة. لذلك يمكن القول إن المرأة ليست مجرد موضوع للشعر، بل هي شريكته في الخلق، ووجهه الآخر الذي يجعله ممكناً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى