سيد غلاب يكتب هذيان

سيد غلاب يكتب
هذيان
في طريقي إلى البيت عائدا من العمل، ودور البرد الذي أصابني وصل بي حد الهذيان، وأنفي يرشح دون توقف كصنبور تلفت جلدته، وحالتي لا يوجد أسوأ منها، كلاب سعرانة تتصارع في رأسي، مديري في العمل وبخني حين أخطأت، تعللت بالمرض، قال هذه نقرة وتلك نقرة أخرى، خصم لي يومين، زادت النقرات في رأسي المليء بالنقرات، تخيل رأس يحمل داخله محمد الماغوط وإدريس علي، والشيخ الشعراوي والشيخ كشك، توليفة عجيبة، رأس عصي على التصنيف، لوعلمت الكلاب السعرانة هذا لنهشوه حتى عظام الجمجمة، دلفت إلى إحدى الصيدليات، وصفت للمحترم الواقف فيها حالتي ورجوته أن يعطيني دواء رخيصا، بينما هو يبحث في أرفف الأدوية، دخلت امرأة وليست كأي امرأة …. امرأة كما يقولون (فرس) أو (مُزَّة من الآخر)، لم تمهله طلبت منه (كاندم)، تحول المحترم في لحظة إلى رجل مهزأ، ترك ما كان يبحث عنه وأتى إليها مهرولا مستبشرًا يتلمظ، سألها: الحلوة تريد واحدًا أو علبة كاملة، أجابته بغنج: واحد كفاية. رد بحسرة: جميلة مثلك واحد فقط لا يكفيها!
وهو يعطيها طلبها قال مشيرًا إلى السيارة الفارهة التي تنتظرها أمام الصيدلية: وصديقك أخبار صحته إيه، لديَّ مقويات مستوردة، ردت بوقاحة: الصحة لا تهمني، المهم أن جيبه مليان. أخذت طلبها وانصرفت، ومازالت عيون الصيدلي متعلقة بها وكأنها تريد القفز من رأسه، صحت في الصيدلي: هييييي … أين ذهبت؟
فوجئ بي الصيدلي وكأنه يراني للمرة الأولى، عاد محترما مرة أخرى، سألني بوقار: أمازلت هنا؟! نعم، بالله عليك دواء البرد، وإن كان الكاندم هذا جيدًا للبرد، أعطني منه واحدًا. ضحك حتى بانت نواجزه.
في البيت لم تكن لدي شهية لتناول أي شيء، أخذت الدواء، سيطرت علي خيالي المومس التي رأيتها في الصيدلية، سرى الخدر في جسدي وساد الظلام، أبصرت شبحا قادما من بعيد، ولا أدري أهذا تهويمة حلم أو واقع أراه، اقترب مني فإذ هي طفلة بريئة الملامح تحمل في عينيها حزن كهل كبير، تنهمر الدموع منها تتساقط على ثوبها الملطخ بالدماء، جذبتني من يدي، مشيت معها كالمسحور وصلنا إلى ميدان يلفه الظلام والضباب والدخان، كأنها القيامة، الأرض يختلط بأديمها جثث ممزقة الأشلاء لرجال ونساء وبنات وشباب وأطفال، كأن المشهد لساحة مذبحة ارتكبها المغول، وضعت يدي على عينيها لأداري عنها بشاعة المنظر، أنزلت يدي برفق، وبعد خطوات أشارت إلى جثمان أمها بين القتلى، نزلت مني الدموع رغما عني، تركتْ يدي، جرت على جثمان أمها المثقب بالرصاص، أراحت رأسها على صدر أمها، مسحت الدموع في الحجاب المنسدل على الرأس المهشم، وبينما الحال كذلك دخل الميدان حشود كثيفة حاملين الطبول والمزامير والدفوف تقودهم المومس صاحبة الكاندم، رقصوا وغنوا على جثث القتلى، وأجهزوا على الجرحى.
بين الزحام غابت عن عيني الطفلة، روحت أبحث عنها بين الجموع، حتى جذبتني المومس من ذراعي، كشفت عني غطائي، تأكدت أنه مازال موجودا، اقتادتني إلى ساحة القصر الكبير، حيث حشود أكثر كثافة يتقدمهم الشعراء والكتاب والكتبة والأقزام ومهرجو القصر والخصيان، كلهم حضروا لتقديم فروض الولاء والطاعة للوالي الجديد، الكل يرقص على طريقته رقصته المجنونة الماجنة، والشعراء يضاجعون بنات أفكارهم حتى جاءت القصائد حبلى سفاحا بأبيات النفاق، والنساء يرقصن رقصات خليعة لا تخلو من إيحاءات جنسية على وقع تصفيق أزواجهن، قال أحد المصفقين: قليل من الدياثة لا يضر في مقابل عهد الأمان. رد عليه أحد المنزوين جانبا: عن أي أمان تتحدث، والوالي الجديد سليل من هربوا منسحبين بالملابس الداخلية أمام جيش الأعداء. ظهر الوالي في شرفة القصر وبجواره من ساعدوه، إستر ومردخاي، ألقوا من الشرفة جثمان هامان ليبدأ الاحتفال بعيد الفوريم ويعلنه الملك عيدًا رسميا للبلاد، وفي وسط الساحة الوالي المخلوع وأعوانه معلقون في المشانق.
لم ألق بالا لكل هذا، عيوني حائرة تبحث يمينا ويسارا عن الطفلة التي تاهت مني في الميدان، على أطرف الساحة أبصرتها، دفعت من في طريقي حتى وصلت إليها، احتضنتها، وسرت معها قابضا على يديها حتى لا تتوه مني مرة أخرى، تركنا تلك الساحة الموبوءة بمن فيها.
عاتبتني: أتركتني من أجل هذا؟ هل طاوعك قلبك أن تنسى أمل. صدقيني يا أمل لقد دُفعت دفعا لأكون بين الحشود… لم استطع مقاومة التيار الجارف، تكلمت: …… لم أسمعها، زاد الصياح، لم أعد أسمع حتى صوت عقلي، مهاترات وشد وجذب.
أفقت على صوت مهاترات وأخذ ورد، تفحصت المحيط أدركت أنني في إحدى المستشفيات الفارهة، أنام على سرير وثير، أرضيات براقة، شاشة ذكية، وحشد من الممرضين والممرضات من مختلف الجنسيات، يحاولون إقناع رفيقي بالغرفة أن يمد ذراعه حتى تتمكن الممرضة من حقنه وهو يرفض بإصرار، هدده أحدهم: إن لم تأخذ الحقنة سنضع لك لبوسة.
نهض فزعا من مرقده، أقسم بأغلظ الأيمان: “على جثتي …. لن أدع أحدًا يقترب منها”
دخل طبيب إفريقي، تبدو عليه الهيبة، نظر إلى المريض المتمرد شزرًا، استرخى المريض واتخذ وضع أخذ اللبوس في رضوخ كأنه منوم أو مسحور، وضع له الطبيب اللبوسة وانصرف، آتتني الممرضة قبل أن تسألني مددت ذراعي، حقنتني، وقبل أن تنصرف طلبت منها ريموت التليفزيون، قلبت في القنوات، حتى وجدت في إحدى القنوات ما أضحكني بشدة حتى أنني لم أتمالك نفسي فصحت: يبدو أن تأثير الحقنة بدأ يسري، سألني رفيقي في الغرفة: لِمَ؟
أخبرته أنني أرى حاخام يهودي يلقي خطبة الجمعة على المسلمين، رد رفيقي: وما العجب في هذا؟!، إنه يحدث فعلاً. سخرت منه في سري.
وحين ساد الظلام أتتني أمل، أخذتني إلى باحة مسرح كبير، حيث أصحاب الرايات الحمر يقفن في شموخ، تأتي واحدة تلو في سيارة فارهة، الجميع يلهث ورائهن طالبا صورة أو توقيع، أو كلمة، وبعد عزف النشيد الوطني الـ”هتكفا” بدأ الحفل، بقعة ضوء ظهرت في منتصفها مادونا تغني برداء أسود عاري، وتؤدي مع الفرقة رقصة تعبيرية، تحولت إلى ما يشبه شعائر دينية أو طقوس ماسونية …. لا أدري، على جانب المسرح هياكل عظمية يغطيها طبقة جلد رقيقة محاطين بسياج، ومن خارج السياج يلقون إليهم بفتات الطعام، فيتزاحمون عليها، وعندما يضمن الحراس أنهم جمعيا تجمعوا حول الطعام في بقعة واحدة، يضغط رئيسهم زر المفجر، فيموتون جميعا، وسط تصفيق الجماهير من براعة المشهد وإحكامه.
فجأة نزل جزء من الفرقة المتنكرين في زي حراس، يبحثون بين مقاعد الجمهور، أتوا إلى حيث أجلس مع أمل، في غفلة مني انتزعوها من مقعدها، حاولت يائسا أن ألحق بهم كي أخلصها، أمسكني من ذراعي من كانوا يجلسون خلفي ولم أنتبه لوجودهم، أحكموا إمساكي، وجهوهم ذات ملامح عربية، عندما يأست من الإفلات من قبضتهم، صرخت… أمل. لعل هناك من توجد لديه بقايا مروءة، أمل…….، انقذوا أمل…… ذهب صوتي هباء، في وسط المسرح رفعوها، دارت مادونا حولها، كالبوءة تستعد للانقضاض، وضعوا أمل على طاولة، خرج من الكواليس فريق يحمل السكاكين والمناشير، لم أستطع النظر، طرطش دم الطفلة على الجالسين، امتعض الممسكون بي وتأففوا، تركوني، تأسفوا … تعذروا بأنهم كانوا يحسبون أن ما يجرى مجرد استعراض، طمأنوني، تقدم إلى أحدهم قائلاً: لدينا فريق ماهر من كاتبي البيانات وعرائض الاحتجاج، وما حدث لن يمر دون شجب وتنديد. قال آخر أنا عضو في الجامعة. سألته عن أي جامعة تتحدث؟ أتلك التي أنشأوها على أنقاض سوق الحمير؟ لو كانت الحمير لا تزال هناك لما حدث كل هذا، قال آخر، أنا أحمل حقيبة دبلوماسية، وسأجري اتصالات على أعلى المستويات، وسأذهب غدا لمقابلة شخصية مهمة في عشاء رسمي.
تركتهم يثرثرون، وحاولت الوصول إلى خشبة المسرح، سبحت في الزحام، وساعدني بعض الأشخاص الذين يحملون ملامح أجنبية، فالمنظر قد وخز ضمائرهم، دفعوني حتى وصلت إلى المقدمة، اعترضتني إستر والمومس إياها التي لا تظهر إلا في المصائب، دفعتهما بكل ما أوتيت من قوة، لزاجة الأرضية المغطاة بالدماء، سهلت المهمة، وضاعفت أثر الدفعة فوقعوا، وعلى المسرح روحت أجمع أشلاء أمل، وسط ضحكات بعض الجماهير وثرثراتهم، قذفني أبو جهل بزجاجة خمر أصابت رأسي، صفق الحاخامت الجالسين في الصف الأول، بدأت أشعر بالبرودة، غام المشهد، صحت: يا كفرة قتلتم أمل. بعدها تلاشى كل شيء.
صداع يتملك رأسي يشله عن التفكير، أشعر وكأن الحجاب الفاصل بين الواقع والخيال قد انمحى، لا أدري أخدر أصابني؟! أم هذيان يجتاحنى؟! ربما تكون سكرات موت بطيء، وقد كُشفت عن عيني حجب الغيب، تتوالى علي الصور: أشلاء أمل، إستر، موردخاي، المومس.
شكة في ذراعي استفقت على إثرها، راحت الممرضة تزيح الستائر عن الشرفة لتسمح لأشعة الشمس بالدخول، نظرت حولي ما زلت في الغرفة نفسها، سألتها:
– من أتى بي إلى هنا؟ وكم لبثت؟
– كنت فاقدًا الوعي حين أتوا بك، وقد لبثت سنين على هذا الوضع، ولم يعد إليك وعيك إلا بالأمس.
– هل هذا وباء؟
– لا ندري، لكن كثيرين مثلك فاقدين الوعي، ولم يستفيقوا بعد.
– لقد غاب الوعي حين قتلوا أمل.
– نعم!
– لا تشغلي بالك.
جاري في الغرفة صاحب اللبوسة يتناول الإفطار، مع صوت الأذان، سألته:
هل هذا الظهر أم العصر؟
أجاب: لا هذا ولا ذاك، إنه الأذان الإبراهيمي.
سيد غلاب