د. محمد سعيد شحاتة يكتب المازوكية والوجود المعلق: تفكيك الحضور والغياب
قراءة في قصيدة الشاعر عيد صالح

مقدمة:
تطرح قصيدة “مازوكية” للشاعر عيد صالح نموذجًا متقدمًا للشعر المعاصر الذي يتجاوز حدود الغنائية التقليدية ليصبح مساحة لتقاطع السرد، والصورة، والبنية اللغوية؛ فالنص لا يكتفي بإنتاج خطاب شعري، بل يخلق فضاءً شعوريًا–وجوديًا مكثفًا، حيث تختلط المتناقضات، وتتشظى الثنائيات التقليدية (الفرد/الجماعة، والحياة/الموت، والسلطة/الخضوع)، ويصبح المعنى مفتوحًا على التأويلات المتعددة.
ومن منظور فلسفي، تمثل المازوكية في النص حالة الوعي بالألم والعبث، وهي آلية تكشف عن سقوط المرجعية وغياب المعايير الثابتة للوجود. واللغة هنا ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل أداة تفكيكية تنقل القارئ من ثنائية الثابت والمتغير إلى فضاء مفتوح من الاحتمالات الدلالية؛ حيث تنصهر الأصوات الفردية داخل الحشود، ويذوب المعنى ضمن التشظي الرمزي والصوري، وتسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة متكاملة للقصيدة عبر أربعة محاور متداخلة:
1. السردية–الشعرية: دراسة الفضاء، والصوت، والحشود.
2. التفكيك: تفكيك المعنى، والثنائيات، والتشظي النصي، والزمن.
3. البعد الرمزي والأسطوري: تشكُّل التراجيديا الحديثة.
4. البنية اللغوية: الانزياح النحوي، والصور المجازية، والإيقاع، وتأثير اللغة على المعنى.
هذا الإطار يجعل القارئ أمام نص شعري–تفكيكي مفتوح؛ حيث تتشابك اللغة والمعنى لتكشف عن أفق فلسفي وجودي يربط بين الألم، والعبث، والانكسار الإنساني.
مهاد:
من الناحية الجمالية تتأسس البنية الشعرية على التكثيف الصوري والانزياح الدلالي؛ فكل صورة تأتي محملة بشحنة غرائبية مدهشة: الأخطبوط الغافي على حافة التيه، والدلافين والفقمات في ولولة، والعسس وهم يصفقون الزنازين ويبصقون الملالة. وهذا التراكم الصوري يخلق إيقاعًا داخليًا متوترًا، تدعمه كثافة الأفعال، مثل “يصفقون، يبصقون، تكنس، يتسلل”، وهي أفعال تخلق حركة دائرية خانقة توازي الجوهر المازوكي الذي يحكم النص.
ومن الناحية الفكرية ينشغل النص بالكشف عن الوجود في لحظة سقوط المعنى؛ فالتعبيرات مثل “التيه” و”السراب” و”الملالة” تؤكد حالة الانكسار الوجودي وغياب المرجعية. ومن هنا يبرز أثر العبث؛ حيث يعيش الفرد داخل دوامة من الطقوس الفارغة التي تتكرر بلا جدوى، بينما يجد في المازوكية صورة لرضا دفين بالألم وكأن في الاستسلام له نوعًا من النجاة أو التفسير.
ومن الناحية الدلالية يتكئ النص على تفكيك العلاقة بين الفرد والجماعة؛ حيث يظهر الانتحار الجماعي والقرابين كرموز لفقدان الذات وسط الحشود، وفي المقابل نجد صورًا غرائبية، مثل “وعكة الأخطبوط” أو “بكائية الإردواز”، وهي صور تنفتح على أفق اللايقين والارتباك الوجودي.
أولا: مازوكية: مقاربة سرديّة–شعريّة
يمثل مفهوم السرد الشعري إحدى أهم ظواهر التداخل الأجناسي في الأدب المعاصر؛ فقد تجاوزت القصيدة الحديثة حدود الغنائية الخالصة، وأصبحت توظف عناصر سردية، مثل: الشخصيات، والأصوات، والأزمنة، والفضاءات، غير أن هذا التوظيف لا يعني تحول النص إلى قصة أو رواية، بل يدل على استثمار الشعر للتقنيات السردية بما يخدم البنية الشعرية، ويعمق دلالتها.
ويشير النقاد (من مثل جيرار جنيت، وبول ريكور، وميخائيل باختين) إلى أن السرد يقوم على تنظيم الزمن، وتوزيع الأصوات، وتشخيص الأحداث داخل فضاء محدد، وعندما يدخل السرد إلى الشعر، فإنه يعيد تشكيل هذه العناصر داخل لغة شعرية مكثفة تعتمد الانزياح والرمز والتشظي، وبهذا يصبح السرد الشعري نمطًا هجينًا يحافظ على إيقاع الشعر وصوره، لكنه يكتسب في الوقت ذاته بعدًا دراميًا وحكائيًا.
وقصيدة “مازوكية” تقدم مثالًا بارزًا على هذا التداخل؛ فهي ليست قصة تُروى، لكنها قصيدة تُنسج على هيئة مشاهد متقطعة: فضاءات غرائبية، وأصوات متنافرة، وحشود فاقدة للوعي. والسرد هنا لا يسعى إلى بناء حبكة متماسكة، بل إلى توليد معنى عبر التشظي والانقطاع، ومن هذا المنطلق يصبح من الضروري دراسة النص وفق أدوات السرد الشعري لفهم كيفية اشتغاله.
وتسعى هذه الدراسة إلى مقاربة النص وفق رؤية سردية–شعرية تركز على ثلاثة عناصر أساسية: الفضاء بما هو حاضنة للانكسار، والصوت بما هو ضوضاء جماعية، والحشود بما هي ذات جماعية فاقدة للوعي.
1 – الفضاء الشعري
يتوزع فضاء القصيدة بين صور متشظية: “الذي غفا بحافة التيه”، “عسس يصفقون الزنازين”, “معارك الغبار”. هذه الأمكنة ليست واقعية بقدر ما هي رموز دلالية تكشف عن ضياع وانكسار؛ فعبارة “حافة التيه” ترسم فضاءً هشًّا يضع الذات على حافة السقوط في مجهول بلا قرار، فيجسد التيه حالة وجودية من اللايقين، وفي صورة “عسس يصفقون الزنازين” يتحول الفضاء إلى سجن مقفل، بما يعكس هيمنة القمع. وهنا يصبح المكان معادلًا موضوعيًا للسلطة، أما “معارك الغبار” فهي صورة لمعارك بلا بطولة ولا انتصار، ينتهي أثرها بالزوال، لتجسد فضاءً هشًّا يرفض تثبيت البطولة.
هكذا يتضح أن الفضاء في النص ليس خلفية محايدة، بل هو عنصر فاعل يكرس السقوط المازوكي في الفراغ والعبث.
2 – الصوت الشعري
تتعدد الأصوات في القصيدة بين البكائيات والولولات والأصوات القمعية: “إثر بكائية الإردواز”، “وولولات الدلافين والفقمات”، “عسس يصفقون الزنازين ويبصقون الملالة”.البكائية الأولى تُدخل النص في نبرة رثاء، لكنها ليست رثاءً مألوفًا بل غرائبيًّا يُحال إلى مادة جامدة (الإردواز)، فيكسر منطق التعبير المألوف، والولولات الحيوانية تفتح النص على أصوات الطبيعة، لكنها أصوات فقدت براءتها وصارت تعكس معاناة جمعية، وكأن الطبيعة ذاتها دخلت في الحزن، والأصوات السلطوية (العسس) تكشف عن عنف إيقاعي قاسٍ، حيث يتحول التصفيق والبصق إلى لغة قهرية تُطبع داخل النص.
هذا التنوع الصوتي يخلق ضجيجًا داخليًا يبتلع الصوت الفردي ويشيع الفوضى، ليجعل القارئ أمام مشهد سمعي خانق.
3 – الحشود
تحضر الحشود بوصفها بطلًا جمعيًا في النص: “آفة الحشود في الانتحار الجماعي”، “قرابين يقدمونها تزجية للوقت”.هنا تحضر الحشود بصور متعددة، وهذه الحشود ليست جماعة فاعلة، بل كتلة مستسلمة للعيث، وتؤدي أفعالها بشكل طقسي فارغ من المعنى، والفرد فيها يذوب تماما، فلا صوت له أمام القطيع أو أمام السلطة، ومن ثن تتحول الحشود في النص إلى صور مازوشية لذوات جماعية تجد لذتها في الألم والفناء، تنخرط في الانتحار الجماعي وكأنها تمارس طقسًا لا وعي فيه، والقرابين التي تُقدّم “تزجية للوقت” تُحيل إلى طقس عبثي، حيث يتحول الفعل الجماعي إلى مجرد وسيلة لقتل الزمن، لا لفعل وجودي أصيل، وتظهر الحشود في صورة “عسس” يمثلون السلطة الجماعية القامعة، فيتضاعف التناقض بين القطيع المقهور والقطيع القاهر. إن هذه الحشود المازوكية تنغمس في الألم وتجد فيه لذة مدمرة، وكأنها تستعيد ذاتها فقط في لحظة الفناء.
تكشف قراءة قصيدة “مازوكية” من منظور سردي–شعري عن نص يتأسس على فضاء ممزق، وأصوات صاخبة، وحشود فاقدة للوعي، بحيث تلتقي العناصر الثلاثة في إنتاج صورة شعرية كابوسية. الفضاء يكرس الضياع، الصوت ينشر الفوضى، والحشود تذوب في عبثية الطقوس. وبهذا تتحول المازوكية من مجرد عنوان إلى بنية دلالية عميقة تحكم النص بأسره، حيث تتجسد لذة الألم في الانتحار الجماعي، وفي الولولة الحيوانية، وفي صمت الفرد المبتلع داخل الجماعة. إن النص إذًا يكتب سرديته الخاصة خارج منطق السرد التقليدي، ليؤسس لشعرية تقوم على الانكسار، والتشظي، والتعرية الوجودية.
ثانيًا: مازوكية: تفكيك المعنى وتشظي البنية
تهدف هذه الزاوية التأويلية إلى تحليل النص وفق منهج تفكيكي، وتقوم القراءة التفكيكية على إظهار التناقضات والفراغات في النص، وكشف التأجيل المستمر للمعنى، وتحطيم الثنائيات التقليدية، مثل الفرد/الجماعة والحياة/الموت، والسلطة/الخضوع. والتفكيك لا يهدف إلى هدم النص، بل إلى كشف طبقات المعنى الخفية، وتحليل كيفية اشتغال اللغة لإنتاج الإحالات المتعددة والمتناقضة داخله.
1 – الانزياح الدلالي والانفلات المعنوي
تبدأ القصيدة بصورة مفاجئة (ليس من قبيل وعكة الأخطبوط الذي غفا بحافة التيه) هنا نرى مزجًا بين الحيوان البحري والفضاء الرمزي للتيه، ما يخلق انفلاتًا للمعنى، ويمنع القارئ من توقع سرد خطي. والأخطبوط الذي يرتبط عادة بالغموض والالتصاق بالأشياء، يتحول إلى رمز للضياع والانقطاع، في حين أن “حافة التيه” تعكس ضياع الذات في فضاء غير محدد. هذا الانزياح يعكس مفهوم التأجيل المستمر للمعنى؛ إذ لا يصل القارئ إلى مرجع ثابت، بل يُترك أمام صور متناقضة تحفز القراءة المستمرة.
2 – تفكيك الثنائيات
تعمل القصيدة على تفكيك الثنائيات الكبرى:
• الفرد/الجماعة: يظهر هذا في: (آفة الحشود في الانتحار الجماعي) و(قرابين يقدمونها تزجية للوقت) الفرد هنا ليس كيانًا مستقلاً، بل يذوب داخل الحشد، حيث تُصبح القرابين مجرد وسيلة للحركة الجماعية بدلًا من أن تكون فعلًا شعوريًا أو وجوديًا للفرد.
• الحياة/الموت: الانتحار الجماعي، ولولة الدلافين والفقمات، وبهيمة الأنعام كلها ترمز إلى استمرار الموت داخل الحياة، بحيث تصبح حدود الحياة والموت غير واضحة، مما يعكس الطابع العبثي للنص.
• السلطة/الخضوع: جاء في النص (عسس يصفقون الزنازين ويبصقون الملالة) يتحول الحارس إلى رمز للسلطة القمعية، في حين يذوب الخضوع داخل الحشد، مؤكدًا إعادة قراءة العلاقة بين الفرد والجماعة ضمن سياق استلاب الإرادة.
3 – التشظي النصي وبنية الصور
القصيدة تشتغل على تراكم صور متشظية: الأخطبوط، الإردواز، زلزال لايني، الدلافين، الفقمات، بهيمة الأنعام. هذه الصور تتنافر لكنها تخلق فضاء شعريًا مكثفًا يثير القلق والارتباك. كل صورة تُضاف طبقة جديدة على معنى النص، فتتلاشى الحدود بين الرمزي والواقعي، ويصبح النص فضاءً مفتوحًا على تأويلات لا نهائية.
4 – تفكيك الزمن
القصيدة لا تتبع زمنًا خطيًا، بل تنتقل بين لحظة التيه (حافة التيه) ولحظة الانتحار الجماعي (آفة الحشود في الانتحار الجماعي) ولحظة القرابين العابرة (قرابين يقدمونها تزجية للوقت) وهذا التنقل الزمني المتشظي يعكس الفكرة حول تعليق الزمن والمعنى، ويجعل القارئ أمام تجربة شعرية حيث الحاضر والماضي متداخلان بشكل متناقض.
5 – التفكيك الصوتي
تتعدد الأصوات في النص بين البكائية والولولات وأصوات السلطة (بكائية الإردواز) تحول الرثاء إلى مادة جامدة، مما يشوش الإحساس التقليدي بالحزن، و(ولولات الدلافين والفقمات) تمنح النص بعدًا حيوانيًا متأثرًا بمعاناة الجماعة، وتعكس امتداد الألم إلى الطبيعة، و(عسس يصفقون الزنازين ويبصقون الملالة) تضيف بعدًا صوتيًا قسريًا يظهر السلطة القهرية.
إن هذا التنافر الصوتي يبرز ذوبان الصوت الفردي في الضجيج الجماعي، ما يعكس ضياع الذات في الحشد.
6 – تفكيك الرمزية والطقوس
تحتوي القصيدة على طقوس جماعية: الانتحار، وتقديم القرابين، والخضوع للسلطة. وهذه الطقوس ليست رمزية تقليدية، بل هي رموز عبثية تعكس فقدان الهدف والمعنى، كما في (تكنس الريح ما تبقي من معارك الغبار) العبارة تكشف عن تفكيك مفهوم الانتصار والتاريخ؛ فالمعارك لا تترك أثرًا، وتتحول إلى فراغ، وهو ما يعكس العبثية الوجودية للنص.
يظهر من خلال هذا التحليل التفكيكي أن قصيدة “مازوكية” تعمل على تفكيك كل البنى التقليدية للشعر: الصور متشظية، والزمن غير خطي، والأصوات متنافرة، والثنائيات منهارة، والحشود تبتلع الفرد. إن النص يصبح فضاءً للعبث؛ حيث المعنى مؤجل باستمرار، والقراءة قابلة للتعدد والانزياح. وتتحول المازوكية من مجرد عنوان إلى بنية دلالية شاملة تحكم النص بأكمله، وتؤكد أن الشعر الحديث قادر على خلق أفق شعري تفكيكي مفتوح أمام القارئ.
ثالثا: مازوكية: تشكُّل التراجيديا الحديثة
يمثل الرمز في الشعر الحديث أفقًا دلاليًا يتجاوز المعنى المباشر إلى شبكة من الإيحاءات التي تستند إلى الميثولوجيا والأساطير والخيال الجمعي. فالأسطورة، كما يذهب رولان بارت، “لغة ثانية” تحمل دلالات متجددة ومتحولة، وتعيد إنتاج الواقع عبر التمثيل الرمزي. وفي إطار التفكيك الدريدي، يتأسس الرمز باعتباره أثرًا لا يكتمل، دائم الانفلات من القبض النهائي، مما يجعله نصًا آخر داخل النص الأصلي.
من هذا المنظور، تصبح الرموز في قصيدة “مازوكية” أدوات لإعادة تشكيل صورة العالم، حيث تتقاطع الحيوانية بالأسطوري، والوجودي بالميتافيزيقي، لتكشف عن مأساة الحشود وانتحار الجماعة، وعن الحضور الملتبس للعدم.
تحليل رمزي وأساطيري للنص
أ. الأخطبوط: رمز العزلة والتيه: (ليس من قبيل وعكة الأخطبوط الذي غفا بحافة التيه…) الأخطبوط كائن أسطوري بامتياز، ارتبط في المخيال بالتماهي مع الغموض والعمق البحري والاختباء. حضوره في النص ليس مجرد إشارة طبيعية، بل رمز للانغلاق والعزلة الوجودية. “وعكة الأخطبوط” توحي بخلل في مركز القوة، و”غفوته على حافة التيه” تعكس سقوط الذات في متاهة وجودية. بهذا يتحول الأخطبوط إلى رمز للذات الممزقة التي فقدت بوصلة المعنى.
ب. الحشود والانتحار الجماعي: الأسطورة الحديثة للفناء: (لكنها آفة الحشود في الانتحار الجماعي) الحشود هنا تتجاوز توصيفها الواقعي لتدخل مجال الأسطورة الحديثة، حيث يتحول الفعل الجمعي إلى طقس ميثولوجي للفناء. يشبه المشهد تراجيديات الإغريق أو طقوس التضحية القديمة، حيث ينمحي الفرد في الجماعة. في هذا المستوى، يتجلى الرمز بوصفه انعكاسًا أسطوريًا للانتحار الوجودي المعاصر.
ج. الدلافين والفقمات: براءة الحيوان كقربان: (وولولات الدلافين والفقمات وما تيسر من بهيمة الأنعام قرابين يقدمونها تزجية للوقت) الدلافين والفقمات، كائنات مرتبطة بالبراءة واللعب، تُقدَّم هنا قرابين. المشهد يعكس تراجيدية الأسطورة القديمة التي تقدم الحيوان قربانًا للآلهة. لكن في سياق القصيدة، يتحول هذا الطقس إلى صورة ساخرة للزمن الذي يُهدر “تزجية للوقت”. بذلك، تتجلى قوة الرمز في تقويض الفاصل بين البراءة والدموية.
د. الزنازين والصفق: رمزية الطقوس العقابية (عسس يصفقون الزنازين ويبصقون الملالة) الزنازين هنا رمز للانغلاق، والعسس يؤدون دور كهنة العقاب. فعل “الصفق” يحمل دلالة طقسية، كأنه إعادة إنتاج لطقوس التضحية الجماعية ولكن في سياق سلطوي–حديث. يتحول المكان إلى مسرح أسطوري يتقاطع فيه العقاب بالعبث.
هـ. البوارج ومعارك الغبار: أسطورة الحرب الحديثة: (أو صدى قصف بارجة) البوارج رمز القوة العسكرية الحديثة، تدخل في النص كبقايا أسطورة الحرب الكبرى. “صدى القصف” يعكس حضورًا غائبًا، أثرًا متلاشياً يعيد تمثيل عنف الماضي كذكرى أسطورية. هكذا تتكامل صورة العالم بوصفه غبارًا من معارك بلا معنى، حيث تتقاطع الأسطورة مع التفاهة.
خلاصة: يكشف التحليل الرمزي–الأسطوري لقصيدة “مازوكية” أن النص يعمل كبنية ميثولوجية جديدة، تستدعي الرموز الطبيعية والحيوانية والعسكرية، لتعيد تركيبها في خطاب شعري متشظٍ. الأخطبوط، الحشود، القرابين، الزنازين، البوارج: جميعها تتجاوز معناها المباشر لتصبح علامات مفتوحة على أفق أسطوري يعكس مأزق الإنسان المعاصر. هكذا، يقدم النص تراجيديا حديثة، حيث ينهار المعنى في طقس جماعي من الانتحار والغياب، مؤسسًا لعالم شعري يقوم على الرمزية الكثيفة والتفكيك المستمر للأسطورة ذاتها.
رابعاً: مازوكية: تفكيك البنية اللغوية
تعتبر البنية اللغوية في أي نص شعري المفتاح الأساسي لفهم آليات بناء المعنى وإنتاج التجربة الجمالية لدى القارئ، وفي قصيدة “مازوكية” للدكتور عيد صالح، لا تقتصر اللغة على وظيفتها التعبيرية التقليدية، بل تتحول إلى أداة تفكيكية تكشف الانزياحات الدلالية والتشظي النصي، والنص يعتمد على تراكيب جمل غير تقليدية، وأفعال وحروف مجازية، وصور متناقضة، مما يخلق فضاء لغويًا متشابكًا يربك القارئ ويؤجّل استقرار المعنى.
ويتضح من العنوان نفسه، “مازوكية”، وجود انزياح دلالي يُعبّر عن حالة الألم، والعبث، والانكسار النفسي والاجتماعي، وهو ما يتجلى في اختيارات النص اللغوية: الأفعال المركزة على الحركة الجماعية، والصور الغريبة المتناقضة، والتراكيب الطويلة والمتشابكة، وبالتالي يصبح التحليل التفكيكي للبنية اللغوية ضروريًا؛ لفهم كيفية إنتاج النص للمعنى المزدوج والمتعدد الطبقات، وكيفية توظيف اللغة؛ لإظهار صراع الفرد داخل الحشود، والعبثية الوجودية، وتفكيك الثنائيات التقليدية (الفرد/الجماعة، الحياة/الموت، السلطة/الخضوع).
1 – تراكيب الجملة والانزياح النحوي
تعتمد القصيدة على تراكيب جمل غير مألوفة، غالبًا جمل طويلة مركبة تتخللها استطرادات وصفية، كما في: (ليس من قبيل وعكة الأخطبوط الذي غفا بحافة التيه والتقطه السيارة إثر بكائية الإردواز) الجملة هنا ممتدة بشكل يجعل الفعل والفاعل والموصوفات تتشابك، مما يخلق إيقاعًا متشابكًا وغير خطي، والانزياح النحوي في استخدام الضمائر والتراكيب (مثل “الذي غفا” مقابل “التقطه السيارة”) يعكس تأجيل المعنى ويقوض أي استقرار نحوي تقليدي، بما ينسجم مع روح النظرة التفكيكية.
2 – الأسلوب الوصفي والتراكم الصوري
القصيدة كثيفة بالصور والموصوفات، مثل (سراب زلزال لايني يلكز عشاقه وحوارييه) يجمع هذا التركيب بين عناصر متناقضة: السراب (وهم، خيال)، الزلزال (قوة مدمرة)، العشاق والحواريين (نشاط بشري) والأسلوب الوصفي هنا لا يهدف إلى تصوير واضح، بل إنتاج تشويش دلالي يترك القارئ أمام شبكة متشابكة من الانطباعات والمشاعر.
3 – الوظائف الأسلوبية للأفعال
تكثر الأفعال في النص، ولها وظائف أسلوبية مكثفة (يصفقون، يبصقون، تكنس) أفعال حركية تدل على النشاط الجماعي القسري، وتعكس السلطة، والعنف، وتحوّل الفعل إلى طقس عبثي، والفعل (يتسلل) فعل متخفٍ يصف الزمن أو الفعل الغائب، ما يعكس تراكم الغموض والتهرب من الوضوح. إننا نلاحظ أن الأفعال هنا ليست مجرد أدوات سردية، بل تعمل على إنتاج الحركة الإيقاعية للنص وتعكس الطبيعة المازوكية للأحداث: الحشد والعبثية والانكسار.
4 – اللغة المجازية والرمزية
القصيدة غنية بالمجازات المركّبة، مثل (بكائية الإردواز) تحول مادة جامدة إلى رمز للحزن، وهو انزياح لغوي يخالف منطق اللغة التقليدي، و(سراب زلزال لايني) دمج بين وهم (سراب) وعنف (زلزال) ومرجعية غريبة (لايني)، ما يُظهر التفكيك اللغوي للثنائيات المعروفة. إن هذه الرموز المجازية تجعل اللغة مفتوحة على التأويل المتعدد، وتخلق مستويات دلالية تتناقض أحيانًا مع بعضها، ما يعكس انفلات المعنى.
5 – الإيقاع والتكرار الصوتي
توظف القصيدة التكرار الصوتي؛ لتكثيف المعنى النفسي والرمزي، مثل تكرار أصوات القاف في “يقصف بارجة” و”الزنازين” يعطي إحساسًا بالقسوة والصخب، والتكرار البنائي للأفعال والأسماء (مثل “الحشود”، “القرابين”) يخلق إيقاعًا متقطعًا، يحاكي الانكسار والتمزق في النص.
6 – التفكيك التفصيلي للثنائيات اللغوية
اللغة في النص تفكك الثنائيات التقليدية على مستوى الكلمات نفسها (الحياة/ الموت) الانتحار الجماعي(بهيمة الأنعام) فالنص يضع الحياة والموت في سياق متشابك وغير واضح، و(الفرد/الجماعة) استخدام “الحشود”، “قرابين” يذيب الفرد في الإطار الجماعي، و(لقمع/الحرية) الأفعال السلطوية “يبصقون”، “يصفقون” تحول اللغة إلى أداة قهرية، والحرية غائبة من السياق اللغوي نفسه.
7 – التشظي اللغوي والتأثير التفكيكي
النص يحطم وحدة اللغة التقليدية من خلال تراكيب معقدة، ومزج صور متناقضة، وأفعال مركزة على الحركة الجماعية، وكل وحدة لغوية (جملة، فعل، صورة) لا تكتمل إلا عبر سياق النص الكامل، مما يبرز اعتماد النص على القارئ لإعادة بناء المعنى، ويجعل النص نموذجًا للتفكيك اللغوي المباشر.
الخلاصة
البنية اللغوية في قصيدة “مازوكية” تعمل على تفكيك اللغة نفسها: الجمل ممتدة ومتشابكة، الأفعال مركزة على الطقوس الجماعية، الصور متناقضة، والرموز متشابكة. هذا الانزياح والتشظي يولدان نصًا مفتوحًا على معانٍ متعددة ومتغيرة، حيث ينغلق المعنى التقليدي ويصبح القارئ مشاركًا في إعادة بناء النص. لغة القصيدة بهذا تصبح أداة تفكيكية بالأساس، تعكس المازوكية الوجودية، العبثية، وفقدان المرجعية، وتنتج تجربة شعرية غنية بالارتباك والتأمل العميق.
خاتمة
يكشف التحليل الشامل لقصيدة “مازوكية” أن النص يشتغل على مستويات متعددة: السردية–الشعرية، التفكيكية، والبنية اللغوية، لإنتاج تجربة شعورية وفكرية فريدة. الفضاء المكثف والصوت المتنافذ والحشود المازوشية تنتج إيقاعًا شعريًا خانقًا يعكس ضياع الفرد في الجماعة، والعبثية الوجودية التي تسيطر على النص.
التفكيك أظهر أن الثنائيات التقليدية منهارة، الزمن غير خطي، والأصوات متنافرة، فيما البنية اللغوية تتسم بالانزياح، التشظي، والرمزية المركبة. كل هذه العناصر تجعل المعنى مؤجلًا، والنص مفتوحًا على التأويل، حيث يُجبر القارئ على المشاركة في إعادة بناء دلالاته.
وإذا أخذنا البعد الرمزي–الأسطوري بعين الاعتبار، فإن القصيدة تكشف عن شبكة من العلامات التي تتجاوز بعدها المباشر إلى فضاء ميثولوجي متجدد: فالأخطبوط رمز للتيه والعزلة، والحشود تذكّر بطقوس الفناء الجماعي، والدلافين والفقمات تتحول إلى قرابين أسطورية، فيما الزنازين والبارجات تستعيد أسطورة الحرب والعقاب. هذا التداخل الرمزي يعمّق التراجيديا الحديثة للنص، ويحوّله إلى خطاب شعري يزاوج بين الواقع والأسطورة ليعيد تمثيل مأزق الإنسان المعاصر.
في نهاية المطاف، تمثل “مازوكية” تجربة شعرية هجينة تجمع بين السردية التفكيكية، البنية اللغوية المعقدة، الرمزية–الأسطورية الكثيفة، والغوص الفلسفي في الألم والعبث، لتؤكد أن الشعر الحديث قادر على إنتاج نصوص متعددة المستويات، تتحدى الاستقرار الدلالي، وتفتح آفاقًا جديدة للقراءة النقدية والتأويلية.
مازوكية
ليس من قبيل وعكة الأخطبوط
الذي غفا بحافة التيه
والتقطه السيارة
إثر بكائية الإردواز
في مجاز قصيدة بقيعة
وسراب زلزال لايني يلكز عشاقه وحوارييه
لكنها آفة الحشود
في الانتحار الجماعي
وولولات الدلافين والفقمات
وما تيسر من بهيمة الأنعام
قرابين يقدمونها تزجية للوقت
الذي يتسلل بليل المحارم
والصافنات الجياد
عسس يصفقون الزنازين
ويبصقون الملالة
من تخمة السفك والقوادة
تكنس الريح
ما تبقي من معارك الغبار
بلا أعنة ولا مواريث غبن
أو صدي قصف بارجة
وحشود