«تمارين نقديّة» لغسّان عبد الخالق.. قراءاتٌ مُبكّرة في الرواية العالميّة

عمّان – متابعة أوبرا مصر
يَعود الناقدُ والأديبُ الأردنيّ الأستاذُ الدكتور غسّان إسماعيل عبد الخالق إلى تلك الكتاباتِ النقديّةِ الأولى، التي شرع بها وهو لا يزال طالبًا في مرحلة البكالوريوس، بعد اشتباكه الجماليّ والمعرفيّ مع رائعةِ غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة)، وما كتبه لاحقًا، في تلك المرحلة المبكّرة من مشواره مع الكتابة والأدب، بين عامَيْ: (1987 – 1991)، ليُصدرها في كتابه الجديد «تمارين نقديّة.. قراءاتٌ مُبكّرة في الرواية العالميّة».
وإضافةً إلى تلك “التمارين النقديّة” المُبكّرة، أضاف د. عبد الخالق قراءتَيْن اثنتَيْن؛ إحداهما تتعلّق برواية (الدي كاميرون) وقد نُشرت عام 1993، والأخرى برواية (الشباب) وقد نُشرت عام 2005، لأسبابٍ موضوعيّةٍ بحتة، تتّصل برغبته في استكمال طيف الرواية العالميّة.
ويُوضّح د. عبد الخالق، في تقديمه للكتاب، الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزّعون” في عمّان، أنّه ظلّ يحلم بإصداره، كما ظلّ يُسوّف بإصداره، لما لهذه المفردات من مكانةٍ أثيرةٍ في وجدانه، وهي تعود – كما يقول – لثلاثة أسباب:
“أوّلًا: أنّها قراءاتٌ حرّة لنصوصٍ روائيّة عالميّة، والرواية -فيما أحسب- أجملُ فنٍّ سرديٍّ تفتّقت عنه مخيّلة الإنسان؛ فهي الفنّ الوحيد القادر على تحريرك من سطوة الزمان والمكان، وتحليقك على أجنحةٍ من خيال، إلى عوالمَ بعيدةٍ كفيلةٍ بأن تنتشلك من وحدتك وضيقك.
ثانيًا: لأنّ هذه القراءات هي التي أدخلتني – من غير قصد – إلى عالم الكتابة والنقد، فعرفني القُرّاء أوّلًا من خلالها، وعلى الرغم من مرور نحو أربعين عامًا على كتابة أولاها، فإنّي ما زلتُ منحازًا للبراءةِ الثاوية فيها، وما زلتُ حريصًا على أن تصل إلى القارئ مرّةً ثانيةً بريئةً تمامًا.
ثالثًا: تلاشي تردّدي بسبب صغر حجم الكتاب، لأنّي قرأتُ ما يكفي من الكتب الكبيرة والصغيرة، إلى الحدّ الذي يجعلني أعتقد بأنّ غير قليلٍ من الثانية قد كان مؤثّرًا جدًّا!”**
وقد جاء الكتابُ في مقدّمة، وتمهيد، واثنتي عشرة (إضاءة)، وخاتمة، حملت تلك الإضاءات العناوين الآتية:
البيت الكبير لساموديو: مدخلٌ إلى الرواية في أمريكا اللاتينيّة.
مائة عام من العزلة لماركيز: بين تمرّد النص وسلطة النقد.
الجنرال في متاهته: هل نستطيع الخروج من قمقم التاريخ؟
الحبّ في زمن الكوليرا: ما لم يقله غابرييل غارسيا ماركيز.
الشيخ والوسام لأويونو: البحث عن روايةٍ بكر.
سِدْهارتا لهيرمان هِسّه: طموح الغرب لامتلاك روح الشرق.
العاشق لمارغريت دورا: بين أزمة الوجود وأزمة الوعي الروائي.
الحياة هي في مكانٍ آخر: ميلان كونديرا وبلاغة السخرية.
ماركو فالدو لإيتالو كالفينو: دون كيشوت عصر الآلة.
سيرة الشباب لكويتزي: مغالبة سؤال الهويّة.
تقرير برودي لبورخيس: بلاغة الحكاية.
الدي كاميرون: بلاغة المحنة.
ويختتم المؤلف كتابه بخاتمةٍ يقول فيها:
“على امتداد أربعين عامًا، لم تُفارقني القناعة بأنّ الناقد – أو الروائي أو المفكّر – لا يفعل طوال سنين إنتاجه، أكثر من صقل وتطوير هواجسه الأولى. إنّه يُعيد إنتاجها في كلّ مرّةٍ برداءٍ جديد، ومن زاويةٍ مختلفة؛ وكأنّما يريد التأكّد من أنّه أبرأ ذمّته، أو أنّه استنفد كلّ السيناريوهات الممكنة والمتاحة، لمحاورة هذه الفكرة أو تلك.
وفي هذه المقالات، التي ظللتُ طوال أعوامٍ أعتذر لها، عن الانشغال بما صار الصيغة الأكثر نضجًا وتنظيمًا منها ولها، ضربٌ من الوشاية، ونمطٌ من إفشاء سرّ البذور الأولى التي وجّهتْ اهتماماتي النقديّة، وبالشروط التي لم أنفكّ عن الالتزام بها، وهي: الشكل الإبداعيّ المتميّز، والمضمون المعرفيّ المتفوّق، والإحالات السياقيّة المختارة بدقّةٍ متناهيةٍ، على صعيد التاريخ والجغرافيا والسياسة والفلسفة وعلم النفس والأسطورة.
إنّ العودة إلى هذه المقالات النقديّة المبكّرة، إذًا، محاولةٌ مشروعة للاعتذار إلى البدايات من جهة، ومحاولةٌ للنظر في قاع البئر؛ بحثًا عن شذرةٍ توارت هنا، أو شذرةٍ توارت هناك، ومن يدري؟ فرُبّ شاردةٍ تفتح الأبواب لواردة، وربّ إشارةٍ تُضيء مغارة!”
أما مسك ختام الكتاب فكان مجموعة من المهارات والخبرات والملاحظات، والتي ارتأى د. عبد الخالق أن ينثرها بين أيدي القراء الشباب، بوصفهم الشريحة المستهدفة من الكتاب، ومن تلك المهارات والخبرات والملاحظات: أولاً: لا تتردّد في مطالعة كل ما يصادفك من مادة مكتوبة، مثل الصحف والمجلات والقواميس فضلا عن الكتب، ما دمت متحمسا ومستمتعاً بهذه المادة؛ فكثير من السِّيَر الإبداعية المكتوبة، تؤكّد أن ما يمكننا استنباطه وتخزينه من هذه المواد -لتوظيفه لاحقاً بطريقة أو بأخرى- قد يفوق في تأثيره وأهميته، ما نطالعه في الكتب الرصينة المشهورة. ثانيًا: درّب نفسك على القراءَة الشمولية المتوازنة، حتى لو أردت التعمق في الأدب والنقد؛ لأن القارئ اللامع لا يستغني عن تثقيف نفسه في حقول التاريخ والسياسة والاجتماع والفلسفة وعلم النفس. كما أن هذا القارئ – في حال رغبته باقتحام عالم الكتابة النقدية – لن يستغني عن الإلمام بهذه الحقول، حتى يوسّع أفقه ويكسب كتابته النقدية، العمق الفكري المطلوب. ثالثًا: على الرغم من ضرورة الاعتناء بمطالعة الكتب التي تحظى بإجماع القرّاء على تميّزها، فإن الاعتناء بمطالعة غيرها من الكتب المغمورة مهم جدًا؛ لأننا قد نفاجأ بحجم الفوائد في الكتب العادية، بل إننا قد نتعلّم كثيرا من بعض الكتب الرديئة! رابعًا: اقرأ وفكِّر بعيونك أنت وعقلك أنت – وليس بعيون أو عقول الآخرين – ثم احكم بنفسك على ما قرأت؛ لأن غير قليل من الكتب المشهورة، قد يكون مخيّباً لتوقّعاتك؛ شكلا أو مضمونًا! خامسًا: لا تشرع في قراءَة كتاب جديد، قبل أن تفرغ من قراءَة الكتاب الذي بين يديك؛ لأن هذا النمط من القراءَة سيجعلك قارئًا سطحياً ونَزِقًا، وتذكّر أن القراءَة تدريب نموذجي على الصبر وقوة الاحتمال. سادساً: لا تسمح لموقفك السلبي من شخصية الكاتب، بأن يفوّت عليك ما قد ينطوي عليه مكتوبه من الفوائد؛ فالقارئ الجيّد باحث مخلص عن الحقيقة. سابعاً: بادر لاقتناء الكتاب الذي يهمّك أمره بأسرع وقت ممكن، ومن خلال المكتبة التي تتعامل معها، ولا تؤجِّل اقتناءَك للكتب حتى تتراكم أو حتى تُقام بعض المعارض الخاصة بها؛ لأن تراكمها سيجعلك زاهدًا في شرائها كلّها، ولأن الاعتماد على الشراء من المعارض، سيودي بك إلى مهاوي التفكير وفق ذهنية الآخرين وليس وفق ذهنيتك، فذهنية الآخرين قد تكون سطحية وشكلية أحيانا. ثامنًا: طوّر طريقتك الخاصة في التعليق على الكتب التي تطالعها. ويفضّل أن تدوّن أبرز ملاحظاتك وانطباعاتك -فور الانتهاء من قراءَة الكتاب- في قصاصة، ثم أودعها الكتاب، حتى تعود إليها عند الحاجة. تاسعاً: حاول أن تجمع في قراءَاتك بين القديم والحديث والمعاصر، ولا تسجن نفسك في زنزانة عصر أو تيار أو شخص، لأن الإلمام بالأدب الجاهلي لا يغنيك عن الإلمام بأدب عصر النهضة، والإلمام بأدب عصر النهضة، لا يغنيك عن الإلمام بالأدب العربي المعاصر. عاشرًا: حاول أن تجمع في قراءَاتك بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية، حتى لو لم تكن متقنا للقراءَة بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو الإسبانية؛ لأن الاقتصار على التضلّع بثقافة واحدة، أشبه بالسير على رجل واحدة، ولأن في الاطلاع على أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافات متعة وفائدة كبيرتين، ولأن العصر الذي يُظلّنا صار يتطلّب الانفتاح الإيجابي المسؤول على الثقافات الأخرى، كما يتطلّب تفهّم أهمية التنوّع في أنماط التفكير.