أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

علاء العلّاف مرض الادّعاء: حين يختنق الفكر بالغرور

مشكلتنا اليوم مع بعض من لا حضور لهم في ساحة الفكر أو الأدب، أنهم لا يجدون طريقًا للظهور إلا بتشويه الآخرين، ما إن يشعر أحدهم أنه مهمّش حتى يبدأ بالانتقاص من غيره، ظنًّا منه أن التّقليل من شأن الآخرين يرفع من قيمته، والغريب أن بعض هؤلاء لم يكن معروفًا أصلًا، ثم إذا به يتحدث كأنه المعلم الأول، وصاحب الفضل على الجميع، تراهم يزعمون أنهم علّموا هذا الشاعر أو ذاك الكاتب، وأنهم كانوا يكتبون لغيرهم خفْيةً، كأنهم هم الذين اخترعوا اللغة وأسسوا البيان! هذه ليست سوى أعراضٍ لنقصٍ داخليّ، يحاول صاحبه تعويضه بادّعاء التفوق،

فالشّخص الواعي لا يحتاج إلى أن يطعن في غيره ليُثبت ذاته، ولا إلى أن يتقمّص دور المفكر حتى يلفت الأنظار إليه… الكاتب الحقيقيّ يُعرف بأثره وسلوكه، لا بادّعائه أو صراخه، ومن المؤسف أن نرى من يسعى إلى الشّهرة عبر الإساءة، في حين أن سلوكه أبعد ما يكون عن الفكر والثّقافة، فالمعرفة لا تُكتسب بالكلمات الكبيرة، بل بالعمل والصدق والاتّزان، اليوم، لا يحتاج أحد إلى أن يتعلّق بشخص أو يصدّق من يزعم أنه المصدر الوحيد للعلم؛ فكل شيء متاح: الكتب والمراجع والمكتبات، ومن أراد أن يتعلم فلْيقرأْ، أما الكذب والافتراء فهما الطريق الأقصر إلى السقوط، لأن الكلمة الزائفة لا تعيش طويلًا، وإن صعدت لحظة فإنها تهوي سريعًا تحت ثقل الحقيقة…

ليست الفصاحة استعراضًا للّغة، بل هي وضوح في التعبير وجمال في البيان… لا يُقاسُ الرجل الفصيح بعدد المفردات التي يحفظها، بل بقدرته على أن يُعبّر بصدقٍ وسلاسةٍ ووعي. وكل كلمة في لسانه تنبض بالمعنى كما تنبض الحروف بصوتها الخاص ومن أراد أن يكون كاتبًا مؤثرًا فعليه أن يتسلح بالمعرفة الحقيقية:

أن يعرف تاريخ أمته ويتأمّل أحداثها السّياسية والثّقافية، وأن يقرأ علمَ الاجتماع ليدرك طبيعة الظّواهر والطّبقات الاجتماعيّة، وأن يتعمق في علم النفس ويفهم مدارسه من فرويد إلى غيره، وأن يغوص في الفلسفة العامّة وما تتضمّنه من علاقة بين الفكر واللغة، وبين الفن والخيال والمخيّلة… هذه هي أسس الثّقافة الرّفيعة التي تبني الكاتب الحقيقيّ، لا الادّعاء والتّشهير، وما أجمل أن يدرك المرء أن الكلمة الصادقة وحدها هي التي تبقى، أما الزيف فيذوب مهما حاول صاحبه أن يلمّع صورته، إن أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان هو أن يعيش بدور البطولة في رواية لم يكتبها وأن يحاول أن يصعد على أكتاف الآخرين ليبدو أطول مما هو عليه، فهذا المرض لا يقتل صاحبه فحسب، بل يفسد الذّوق العام ويشوّه معنى الإبداع… لذلك، قبل أن نتحدث عن الفكر واللّغة والفصاحة، علينا أن نتحدث عن الأخلاق… فهي الجذر الذي يمدّ الكلمة بالحياة، والميزان الذي يفرّق بين المبدع والمتظاهر… أما من يجعل الكذبَ وسيلةً للشهرة، فمصيره النسيان مهما تكلّم وادّعى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى