محمد رضوان يكتب مقاومة الإنهاك

الإنهاك لا يأتي بصوتٍ عالٍ ولا بلحظة درامية كما تتوقع الأفلام. إنه يبدأ في التفاصيل الصغيرة: نسيان بسيط، تراجع في الحماس، ضيق خفيف لا تعرف سببه، إحساس بأن يومك أطول مما يجب. ثم يتكاثر. وكلما حاولت أن تتجاهله، ازداد رسوخًا. كأن الحياة تقول لك بلا مجاملة: هناك شيء لم تعد قادرًا على احتماله بالطريقة القديمة.
الناس غالبًا يظنون أنّ الإنهاك ضعف، لكنه في الحقيقة مجرّد نتيجة طبيعية لتجاوز الإنسان حدوده لفترة طويلة. الجسد لا يخونك، بل يكشف لك الحقيقة التي رفضت رؤيتها. والفلسفة هنا ليست كلامًا مرتّبًا بقدر ما هي لحظة صادقة تسأل فيها نفسك: لماذا أعيش وكأنني أركض بلا خط نهاية؟
مقاومة الإنهاك تبدأ من الاعتراف، وهو أصعب خطوة. الاعتراف بأنك لست مضطرًا أن تكون قويًا طوال الوقت، وأن الضغط المتواصل لا يعني تقدمًا، وأن العمل بعد نقطة الإرهاق لا يصنع نجاحًا بل يصنع نسخة متوترة منك. الواقعية تقول إننا لسنا آلات، والفلسفة تقول إن الإنسان لا يُقاس بقدرته على الاحتمال فقط، بل بقدرته على فهم نفسه.
أنت لا تحتاج إلى ثورة لتتجاوز الإنهاك، بل إلى تغييرات صغيرة:
أن تتوقف بعد كل فترة وتتحقق من نفسك كما لو كنت صديقًا تسأل عنه.
أن تفصل بين “المهم” و”الذي جعلك تعتقد أنه مهم”.
أن تمنح جسدك ما يحتاجه بدلًا من معاقبته بالمهام المتراكمة.
أن تتقبّل أن الراحة ليست خيانة الهدف، بل جزء منه.
والأعمق من كل هذا هو أن تتساءل بصدق: لماذا كل هذا الركض؟ لمن؟ وما الذي أحاول أن أثبته؟
أسئلة بسيطة لكنها تكشف الطبقة المخفية من الإنهاك؛ تلك الطبقة التي لا تأتي من العمل وحده، بل من التوقعات الثقيلة، ومن المقارنات الصامتة، ومن الشعور غير المعلن بأنك يجب أن تكون دائمًا “أفضل” مما أنت عليه.
الإنسان يُنهك حين يحوّل نفسه إلى مشروع تحسين بلا نهاية. وحين يبدأ في النظر إلى كل يوم كمباراة جديدة يجب أن ينتصر فيها. مقاومة الإنهاك هنا ليست رفضًا للعمل ولا استسلامًا، بل إعادة ترتيب: أن تعمل لأنك تريد، لا لأنك خائف من أن تتأخر عن الآخرين. أن تتحرك بإيقاعك أنت، لا بإيقاع العالم الذي لا يتوقف.
وفي لحظة ما—واللحظة تأتي دائمًا بعد صدق طويل—تكتشف أن الراحة ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية. وأن الهدوء ليس علامة كسل، بل علامة أن عقلك بدأ يتصالح مع الحياة كما هي، لا كما تُفرض عليك.
وحين تصل لهذه النقطة، سينخفض الإنهاك تدريجيًا، ليس لأنك أصبحت أقوى، بل لأنك أصبحت أصدق مع نفسك.





