أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

أحمد بيضون يكتب لوحة نازفة بين مطرقة السيكوبوليتيكية وسندان مرارة واقعية سحرية.

نص مبارك اسماعيل 

 

لوحة نازفة بين مطرقة السيكوبوليتيكية وسندان مرارة واقعية سحرية… يتحفنا مبارك اسماعيل 
عتبة العنوان تحمل ثنائية الحياة والموت.. فمن المدركات المسلمة أن اللوحة تصف الواقع بحذافيره كأنها ترسم الحياة وتفاصيلها بينما اقترنت باسم الفاعل (نازفة) كأنه تنزف شلالا هادرا من دماء بريئة من جراء وطيس حروب عبثية… وكأننا أمام سارد (ذكيّ) عليم تقمص شخصية (جابر) البطل الذي تدور حوله الحكاية، لما وجد نفسه أمام صورة مفزعة تتماهى مع فاجعة تيه أصاب وجوده واستحال الصمت، ذاك التنظير الذي عكسته لوحته كالمرآة تلملم اشلاء ذكريات مهلهلة على حافة طريق بلا نهاية، يشقّ على ذاك المكلومُ أن ينسى ما حدث لمصنعه ومصدر رزقه من دمار بسبب المارقين واللصوص الخارجين عن طائلة قانون، مع اندلاع ثورة أو تأتي حرب طاحنة أوزارها وتحيل السلام إلى ركان ويذهب كل شيء، يستحضر الأحداث المأساوية التي ألمَّت بأسرته كأنه يمتلك منظارا خارقا عابرا للزمن في نكوص يخترق تلك الرسمة ويمفصل أجزاء دقيقة وراء تلك الألوان الباهتة النازفة، زوجته نعيمة وابنتيه يهرعان للهرب بعدما توسد الخراب ولم تصبح سوى أطلال خيام تؤويهم بجوار غرابيب مسجد عتيق بالحي القديم، معاول القدر لم تسنح لهم ارتياد ذاك التاكسي ليقصدوا مدينة في الجوار قد تكون مناصهم وملاذهم الأخير، لكن الطوافات وقاذفات السماء الحارقة أبت أن تمهلهم البقاء خلف ساتر متهالك، من المؤكد أنه فقد ذويه كما أكد عند خط النهاية، لا غروَ بأن زخم الأحداث وشريط المشاهد المروعة تلاحقت في ذاكرة رحيل عبر سينوغرافيا ذاتية رسمها جابر في مخيلته وأضافها لعناصر الصورة الماثلة أمام مرأى عينيه؛ لا شيئاََ ينبض بالحياة سوى نزيف مستمر مذاك الحين، هكذا بالطبع ستؤول الأحداث وتنبري دائرة الصراع الداخلي والخارجي وتتجلى اللوحة كمعامل سيميائي رمزي يبرهن على أن هذا الوجود الآيل بين رحايا الحروب سيظل حياََ في وجدان الإنسانية وهذه اللوحات والصور لن تصف غصة الحقيقة بأكملها؛ كأن لسان حال القاص يخبرنا بتلك النهاية المفتوحة : أما آن الأوان كي ينتهي ذاك النزيف وتعود البشرية إلى صوابها لتضحك ألوان الصور؟!
لغة بسيطة ومتن انسيابي وتكثيف للحدث، أحسنت ودام العطاء..

(النص)

لوحة… نازفة
*مبارك اسماعيل حمد *
يحدق “جابر” في اللوحة التي رسمها أحد رفاقه في مركز الإيواء بحيرة مشوبة بالذهول، وكأنها مرآة تعكس شتات روحه. فقد رأى نفسه في الرجل المرسوم على حافة طريق مهجور، عيناه تتطلعان إلى شيءٍ لا يأتي. هو أيضًا رجل فقد كل ما يربطه بماضيه؛ ذكرياته تنساب كأنهار مجروحة، محملة بصور مصنعه الذي كان مصدر رزقه ورزق عماله. صباح ذلك اليوم المشؤوم، تحول المصنع إلى رماد، وأصبحت آلاته ركامًا. هددوه، سرقوا كل ما وقعت عليه إياديهم الملطخ بدماءنا ، ثم قتلوا عماله، ولم يكتفوا بذلك، بل سلبوه حتى جواله.
بالأمس القريب خرجنا كعادتنا عند الساعة الواحدة تماما بتوقيت الثورة تحتشد بنا الشوارع. ماذا دهاهم حتى يشعلوا حربهم اللعينة في شهر سقوط الطاغية؟

الذكريات تؤلمه كجرح مفتوح، وهو الآن يعيش مع زوجته “نعيمة” وابنتيهما “نانسي” و”رغد” تحت سقف خيمة مهترئة، لا تقيهم من مطر ولا حر ولا برد، بعدما كانوا يسكنون في فيلا مجهزة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا.

في صباحات النزوح، يراقب أطفال المركز وهم يلعبون. تتسلل ضحكاتهم إلى أذنيه فتوشك شفتاه أن ترتسم عليهما بسمة، لكنه يتذكر أن الضحك صار ترفًا لا يملكه. فمشهد مدينته التي فر من جحيم حربها يلاحقه، المدينة التي حملت تفاصيل حياته كلها: الحي القديم، المسجد العتيق حيث دفنت سرته كما أخبره والده ذات مساء، والمصنع الذي كان عنوان أحلامه. المدينة التي كانت تنهض أمام عينيه كل يوم، تتهاوى الآن طوبة طوبة، تاركة وراءها مشهد الحريق ورائحة الدم.

تعود ذاكرته إلى لحظة اتخاذ قرار الهروب. كان ينتظر عائلته عند حافة الطريق بعد أن نهبوا عربته. استأجر سيارة تاكسي وأخذ ينظر من نافذتها إلى سماء تمطر أزيز الطائرات وجحيم الرصاص. حينها رأى زوجته “نعيمة” وابنتيه يركضن باتجاهه وسط ذلك الجحيم.

في السيارة التي تقلهما شرقًا نحو المدن الآمنة، تغمغم “نعيمة” بحسرة: “لا حول ولا قوة إلا بالله… كيف تغير كل شيء بهذه السرعة؟ البيوت، الشوارع، وجه المدينة!” يلتفت “جابر” إليها، عاجزًا عن الرد. الكلمات علقت في حلقه، أمرّ من طعم الحنظل.

بينما تتحدث “نعيمة” عن احتمالية الذهاب إلى مدن أخرى، يحاول “جابر” طمأنتها رغم قلقه. لكنه يعلم أن المستقبل الذي يبحثان عنه قد يكون سرابًا آخر، فالمدينة التي يغادرونها لم تكن مجرد مكان، بل وطن أحلامهم المهددة بالزوال.
فجأة تتوقف عربة التاكسي، ويصيح السائق :الحصاحيصا.. انزلوا الكفتيريا والحمامات.
ينزلوا من العربة، ويتجهوا إلى مبنى الكفتيريا، يمسك بيدي طفلتيه. يحاول ترتيب شظايا روحه المتهالكة ورويدا رويدا يستعيد توازنه ووعيه.
يخرجه من استغراقه صوت رفيقه الرسام، وهو يربت على كتفه :”
لقد اسميتها لوحة نازفة”
اجابه جابر (وهو يخرج من ذهوله ويستعيد ربأطة جأشه:
“حقا! لقد نزفت كل اوجاعي أمامها “
مبارك اسماعيل حمد *

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى