*البخور والنسق الثقافي في شعر علي الدرورة
د. حسين عبيد شراد الشمري.* جامعة القادسية - كلية الاداب

.
يمثل شعر علي الدرورة نموذجًا فريدًا للقصيدة العربية المعاصرة، التي تتجاوز الكلمات إلى مساحات متعددة الحواس والذاكرة الثقافية، حيث يتحوّل البخور إلى أداة شعورية ورمزية متحركة، تربط بين التجربة الفردية والجماعية، وبين الطقس الروحي والحضور الجسدي.
يبدأ النص بقوله:
“طِفْ بِالبُخُورِ وَبِالْْعُودِ وَالصِّنْفِي وَالْجَاوِي وَأَنْعِشْ أَنْفَاسَنَا فِي هُدُوءِ اللَّيْلِ”
يتجلّى هنا البخور كعنصر أساسي في النسق الثقافي، فهو ليس مجرد عطرٍ عابر، بل وسيلة لإحياء الطقوس واستدعاء الذكرى الجماعية، واستحضار التقاليد المرتبطة بالاحتراق الرمزي والرائحة الصوفية. الحركة الطفيفة بالمبخر والاعتماد على أنواع محددة من البخور يعكس وعي الشاعر بالبعد الحسي للنسق الثقافي، حيث تتفاعل الرائحة مع الصوت والجو الروحي لتخلق فضاء شعوريًا متكاملاً.
ويتواصل النص في استدعاء العاطفة والرغبة الروحية:
“كَيْ نَرْتَوِيَ بِالْحُبِّ وَنُرَتِّلُ أَشْوَاقَنَا وَنُرَدِّدُ أَشْعَارَنَا الصُّوفِيَّة”
هنا يظهر النسق المضمر؛ الأشواق الصوفية ليست مجرد كلمات، بل طاقة متدفقة تعبر عن التجربة الحسية والجسدية والروحية في آنٍ واحد، ما يتيح للقراء التماهي مع الحالة الشعورية للشاعر والمشاركة في طقس شعوري متكامل، يعبر عن التفاعل بين الحواس والذاكرة الثقافية الجماعية.
ويستحضر النص العلاقة بين الحركة والطقوس في قوله:
“وَنَنْشُرُهَا فِي كُلِّ حِيْنٍ كُلَّمَا شَمَمْنَا الْبُخُورَ فَنُشْعِلُ الْـمِبْخَرَ بِالصَّنْدَلِ وَالْكِبَاءَ وَالرَّوَائِحَ الْعِطْرِيَّة”
إشعال المبخر ليس مجرد فعل جسدي، بل تواصل نسقي متكامل بين الحواس، الذاكرة، والجسد. الأعواد الندية هنا تمثل تورية ثقافية دقيقة؛ فالجسد يرغب في الاشتعال والدفء، بينما الأعواد الندية بطبيعتها لا تشتعل بسهولة، ما يولد توترًا نسقيًا مركبًا يعكس الصراع بين الرغبة والتحقق، وبين الجسد والطقس الرمزي. يظهر هذا التوتر كعنصر محوري في بناء النسق الشعري لدى الدرورة، حيث يتجسد في العلاقة بين الاحتراق والنديّة، بين الرغبة في الانصهار والقيود الواقعية للمواد المستخدمة.
ويتجسد الطوفان الصوفي في قوله:
“فَقَدِ انْتَعَشْنَا فِي عَالَمِ الْخَيَالِ وَاِقْتَسَمْنَا الْجَمَالَ بِالْبُخُورِ وَالْجَاوِي ثُمَّ أَشْعَلْنَا أَعْوَادًا نَدِيَّة”
يمكن قراءة هذا البيت كتجسيد للرقصة الصوفية المولوية، حيث تتحرك الأجساد في دوحة البخور، ويختلط الدخان بالرائحة والحرارة الرمزية للتماهي الروحي. الأعواد الندية التي لا تشتعل بسهولة تشكل رمزًا لصراع الرغبة والتحقق، بينما الطقس الجماعي يسمح للمتلقين بالمشاركة في هذا الاحتراق الرمزي، الذي يعكس تفاعل الحواس والجسد والروح مع النسق الثقافي.
ويكشف النص عن انسجام النسق الثقافي في قوله:
“فِي فَرَحٍ وَبَهِجَةٍ وَالْقِمَارِيُّ يَضْحَكُ لَنَا نَتَّبِعْهُ وَيَتْبَعُنَا عَطْفًا وَحُبًّا وَجَلَالًا”
يعكس هذا البيت النسق المضمر بين الطبيعة، الجسد، والذاكرة الثقافية، حيث يمثل التفاعل بين الشاعر والطبيعة مساحة حية للتجربة الجماعية. الطقس هنا ليس مجرد وصف جمالي، بل مشهد متكامل تتفاعل فيه الرائحة والحركة والصوت مع البعد الرمزي للصوفية، ما يمنح النص قوته وتأثيره متعدد المستويات.
وتتوج التجربة في ختام النص بالشعور بالاكتمال الجسدي والروحي:
“مَا أَرْوَعَ الْبُخُورَ فِي تَجَلِّيَاتٍ جَلِيَّةٍ وَكُلَّمَا حَرَقْنَاهُ اِزْدَدْنَا أُنْسًا وَأَلْقًا وَسَعَادَةً حَتَّى غَدَّتْ لَيَالِيْنَا بِالْبَهَاءِ بَهِيَّة”
يصبح البخور هنا نسقًا شعريًا متكاملًا يجمع بين الشعيرة، الرقية، الرقص الصوفي، والرائحة، ويتحقق التعارض النسقي بين الملموس والمجازي، بين الرغبة والتحقق، وبين الجسد والروح. النص يخلق فضاء شعوريًا متعدد الحواس، حيث يمتزج الطقس الثقافي بالصوفية والذاكرة الجماعية، ويتحقق الانصهار بين الحواس والتجربة الداخلية.
إن شعر علي الدرورة، من خلال هذه النصوص، يبرز قدرة الشعر على تحويل الرائحة والحركة والصوت إلى عناصر تشكل النسق الثقافي. الأعواد الندية، التوتر بين الرغبة والتحقق، الطوفان الصوفي، والتفاعل الحسي، كلها عناصر تؤسس نسقًا مضمرًا متشابكًا بين الرمزي والحسي، بين الفرد والجماعة، وبين الجسد والروح.
في ختام هذه القراءة، يظهر أن نصوص علي الدرورة دعوة للغوص في فضاء البخور الصوفي، لاستكشاف النسق الثقافي المتشابك بين الحواس والرمز والذاكرة الجماعية. هي نصوص تقدم تجربة شعرية متعددة الأبعاد، حيث يمكن للقراء والباحثين أن يجدوا فيها مناخًا شعوريًا وثقافيًا غنيًا، يجمع بين الطقوس الفردية والجماعية، والحركة الصوفية، والتفاعل الحسي والرمزي، ما يجعل قراءة شاعر البخور تجربة نقدية وثقافية متجددة وعميقة.
.



