حسن غريب يكتب قراءة نقديّة في لقصة”يوسف” لجمال أبو القديم

أولًا: مدخل رؤيتي عام
قصة “يوسف” تمثل نموذجًا سرديًا مكثفًا للمواجهة الأبدية بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين الروح والهوى. إنها ليست مجرد حكاية عن رجل تائب، بل هي ملحمة رمزية عن الصراع داخل الإنسان، وعن انتصار الروح المؤمنة رغم سطوة الشيطان ومكائده.
يتخذ الكاتب من الشيطان (زعنوف) راوياً للأحداث، فيكسر القاعدة السردية المألوفة، ويمنح القصة بعدًا فلسفيًا وميتافيزيقيًا، يجعل القارئ شريكًا في إعادة النظر في معنى الانتصار والهزيمة.
ثانيًا: البنية السردية
1. الراوي وموقعه:
الراوي هنا ليس محايدًا بل هو خصم مباشر للبطل، مما يخلق مفارقة فنية عميقة. نسمع الحكاية من فم زعنوف، أحد شياطين الملك الجبار، فيتحول السرد إلى اعتراف متكبر من مهزوم، يروي نصرًا زائفًا ليخفي هزيمته الحقيقية.
هذه التقنية تمنح النص سخرية مأساوية، إذ نكتشف أن الراوي الذي يظن نفسه المنتصر، هو في الحقيقة الخاسر أمام “يوسف” الذي نال الخلود بالإيمان.
2. الزمن والمكان:
الزمان غير محدد بدقة، فهو “زمن أسطوري” يمتد من ميلاد يوسف حتى شيخوخته، ويمتزج فيه الواقعي بالرمزي. المكان يتوزع بين قصر الشيطان وعالم البشر، في توازٍ رمزي بين عالمين متقابلين:
عالم الظلمة والهوى (حفلات زعنوف، الشهوات، الخمر).
عالم النور والرحمة (اللقاء مع الشاب الحافي، التحول الروحي).
هذا التقابل المكاني يعمّق البنية الجدلية للنص.
3. الحدث الرئيس:
نقطة التحول في حياة يوسف تحدث عند مشهد المرأة المظلومة والشاب الحافي الذي ينقذها. هذا المشهد بمثابة التجلي الروحي أو الصدمة الوجودية التي توقظ الضمير.
من هنا يبدأ الصراع الداخلي بين النداء الإلهي والوسوسة الشيطانية.
ثالثًا: الشخصيات ودلالاتها

1. يوسف:
يمثل الإنسان في صراعه الوجودي؛ يبدأ فاسدًا، ماديًا، غارقًا في المتع، ثم تهزه رؤية الرحمة الإلهية المتجسدة في “الشاب الحافي”، فيتطهر ويتحوّل إلى ناسك.
هو نموذج الإنسان القابل للفداء مهما بلغت خطاياه، فيحمل الاسم “يوسف” بدلالته القرآنية (يوسف الصديق) الذي يُبتلى ويصبر ويُفتن ثم ينجو بالإيمان.
2. زعنوف:
رمز الشر العقلي المتكبر، لا يكتفي بالإغواء، بل يسعى للسيطرة الفكرية والروحية.
لغته متعجرفة، خطابه قائم على التفاخر والاستعراض، لكنه في العمق كائن هشّ، ينهار أمام النور.
في نهاية القصة نكتشف أنه يحكي أكذوبة النصر، بينما يعترف ضمناً بالهزيمة حين يقول:
“آهٍ يا يوسف لو عدت لتخبرني بمن انتصرت…”
3. الشاب الحافي:
هو رمز المسيح أو الملاك أو الرحمة الإلهية المتجسدة.
حضوره ضوءي، كاشف، يفضح زيف الشهوة، ويمسّ ضمير يوسف بلمسة واحدة.
حافي القدمين لأنه يسير فوق تراب الإنسانية دون زينة أو سلطان، وبياض ثوبه يرمز إلى النقاء الإلهي.
4. عساس وزمارة وحنفيل:
وجوه أخرى للشرّ، لكنها تمثل درجات الغرور والجهل والغيرة.
الصراع بينهم يكشف أن عالم الشر نفسه مليء بالهشاشة والانقسام، فكل منهم يتفاخر بفساده وكأنه بطولة.
رابعًا: الرمزية والفلسفة
القصة لا تروي حدثًا واقعيًا، بل ترسم أسطورة رمزية عن سقوط الإنسان وقيامته.
كل تفصيل يحمل دلالة مزدوجة:
الملك: رمز للشرّ الأكبر، إبليس أو سلطان الظلام.
القصر والحفل: رمز للغرور والانحلال.
المرأة المضروبة: رمز للإنسانية المقهورة، أو للضمير المنتهك.
الثوب الأبيض الذي يوقف النزيف: رمز للتطهير والنعمة الإلهية.
الضحك الجماعي في قصر زعنوف: يوازي صراخ الملائكة في السماء، أي المفارقة بين الفرح الزائف والفرح الحق.
هذه الرموز تجعل النص أقرب إلى التمثيل الدرامي الأخلاقي (Allegory) الذي يذكّرنا بـ”مأساة فاوست” لغوته أو “الكوميديا الإلهية” لدانتي في بعدها الماورائي.
خامسًا: اللغة والأسلوب
الكاتب يستخدم لغة سردية مزيجًا من الواقعية والرمزية، فيها صور بصرية قوية وحوار حيّ.
في مشاهد القصر: اللغة فجة، مليئة بالبذاءة المقصودة، لتجسيد عالم الدنس والانحطاط.
في مشاهد الشاب الحافي: اللغة رقيقة شفافة، تميل إلى التبشير والنور.
هذا التناوب اللغوي يخدم المعنى الأخلاقي، فيُشعرك بتبدل الأجواء من العفن إلى الصفاء.
كما أن الحوار مكثف، يحمل نَفَسًا مسرحيًا، وكأن النص قابل للتحويل إلى عمل مسرحي رمزي.
سادسًا: البعد الديني والوجودي
القصة تُعيد طرح الأسئلة القديمة الحديثة:
هل يمكن للإنسان أن ينجو بعد السقوط؟
هل التوبة كافية لغفران ماضٍ مثقل بالشر؟
وهل الشيطان حقًا ينتصر حين يسقط إنسان، أم أنه يُهزم حين يثبت أن الله يغفر؟
نهاية القصة تجيب ضمنًا: الرحمة أقوى من الخطيئة.
زعنوف قد أعلن انتصاره، لكن صرخته الأخيرة تكشف العكس:
“كم وددت أن تكون نهايتك كما أخبرت هؤلاء الأغبياء… ملعون أنت يا يوسف!”
إنها صرخة حسد لا شفاء منها، دليل على أن يوسف فاز بالخلود بينما ظل الشيطان في دائرته المظلمة.
سابعًا: القيمة الفنية والفكرية
فنيًا: القصة محكمة البناء، تتصاعد دراميًا نحو الذروة، وتنتهي بانكشاف الحقيقة المعكوسة.
فكريًا: نص فلسفي إنساني، يعيد قراءة مفهوم الخلاص في سياق معاصر، حيث المال والشهوة والغرور هي آلهة جديدة.
أسلوبيًا: يوازن الكاتب بين الوصف الحسي والبعد الماورائي، فيخلق نصًا ذا طبقات تأويل متعددة.
ثامنًا: خلاصة نقدية
قصة يوسف نصّ متعدد المستويات، يجمع بين الأدب الروائي والوعظ الفلسفي، بين الرمز الديني والتجربة الإنسانية.
الكاتب جمال أبو القديم نجح في أن يجعل الشيطان يتكلم بلسان الفلسفة، ويعترف بالهزيمة دون أن يشعر، فحوّل النص إلى مرآة أخلاقية كبرى تعكس حقيقة الإنسان حين يواجه ذاته.
الخلاصة:
يوسف لم يمت كافرًا كما زعم زعنوف، بل مات مؤمنًا بربه، لأن الشيطان لا ينتصر إلا بالكذب، والكذب نفسه دليل على الهزيمة.



