أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

حين تتوقف قليلًا لتواصل أبعد

 

في زحام الحياة وسرعتها المحمومة، صار التوقف يبدو لكثيرين نوعًا من الضعف أو التراجع، كأنّ كل سكونٍ يعني الفشل، وكلّ لحظة هدوءٍ اعترافًا بالعجز. غير أنّ الحقيقة أبسط وأعمق من ذلك بكثير، فالتوقف في كثير من الأحيان ليس انكسارًا، بل هو وجهٌ آخر للحكمة، وبابٌ خفيّ للنضج وإعادة التوازن.

الحياة، في جوهرها، لا تسير على وتيرةٍ واحدة. مثل النهر الذي يهدأ حينًا ويتدفّق حينًا آخر، تقتضي حركة الوجود أن نتوقف لنرى، أن نصغي لأنفسنا بعد طول ضجيج، أن نراجع الطريق قبل أن نغرق في العادة والمضيّ الأعمى. التوقف لا يعني أننا فقدنا الاتجاه، بل أننا نحاول أن نستعيد الرؤية. إنّه لحظة وعيٍ بين مرحلتين، مثل شهيقٍ طويل قبل الانطلاق من جديد.

كثيرون يظنون أن النجاح الحقيقي يقوم على الاستمرار الدائم، وأن الأقوياء هم الذين لا يتوقفون أبدًا. لكن الحقيقة أن من يعرف متى يتوقف هو من يعرف كيف يواصل. فالتوقف ليس دائمًا تراجعًا، بل في أحيانٍ كثيرة هو وقفة تأملٍ ضرورية قبل الخطوة التالية. لا يمكن لأحدٍ أن يركض بلا انقطاع، كما لا يمكن لقلبٍ أن ينبض بلا لحظة سكونٍ بين النبضتين. ذلك الفراغ البسيط بين النبضات هو الذي يمنحها الإيقاع والحياة، ولولاه لانكسر الإيقاع وانطفأت الحركة.

كم من إنسانٍ أرهق نفسه بالمضيّ المستمر حتى فقد متعة الطريق! إنّ الركض بلا وعيٍ يُفقدنا المعنى، ويدفعنا إلى الضياع تحت وهم الإنجاز. نحتاج أحيانًا إلى أن نتوقف قليلًا لنستعيد توازننا، لنراجع أنفسنا، لنرى هل ما زلنا نسير في الاتجاه الصحيح أم أننا انحرفنا ونحن نحسب أننا نواصل التقدم. فالتوقف يتيح لنا أن نرى الصورة كاملة، وأن نلتقط أنفاسنا، وأن نعيد ترتيب دواخلنا قبل أن نكمل الرحلة بثباتٍ ووضوح.

التوقف ليس استسلامًا، بل هو استراحة المسافر الحكيم الذي يعرف أنّ الطريق الطويل لا يُقطع دفعة واحدة. ومن يُرهق نفسه بالسير المتواصل قد لا يصل أبدًا، لأن الإرهاق لا يقل خطرًا عن التوقف. إنّ القوّة الحقيقية لا تكمن في الاستمرار وحده، بل في معرفة متى نتقدّم ومتى نهدأ. تلك المرونة الإنسانية هي التي تضمن لنا البقاء والاتزان.

حين نتوقف قليلًا، نبدأ في سماع ما كان يغيب عن أسماعنا وسط الضجيج. نصغي إلى صوت داخلنا، إلى تلك الهمسة العميقة التي تذكّرنا بما أردناه في البداية. فكم من هدفٍ فقد معناه حين تحوّل إلى عادةٍ ميكانيكية! وكم من حلمٍ جميلٍ انطفأ لأن صاحبه لم يمنحه فرصة التوقف ليتنفس وينضج! التوقف إذن ليس قطيعةً مع الحلم، بل هو عودةٌ إليه بعد أن كاد يغرق في الزحام.

إنّ الإنسان الذي لا يعرف التوقف يخشى الصمت، يخاف أن يواجه نفسه، بينما السكون في حقيقته ليس فراغًا، بل مساحة للتجدد الداخلي. في لحظات الهدوء تنضج الأفكار، وتشفى الجراح، وتعود الأشياء إلى مواضعها الطبيعية. الطبيعة نفسها تمارس هذا الإيقاع بوعيٍ عميق؛ الأشجار لا تثمر طوال العام، بل تعرف متى تنكمش لتستعد لموسمٍ جديد، والأنهار تنحسر أحيانًا لتستعيد قوتها، وحتى الأرض تحتاج إلى فترات راحة قبل أن تُنبت من جديد. فلماذا نعتقد أن الإنسان وحده قادر على الاستمرار بلا توقف؟

التوقف لحظة صدقٍ مع الذات. أن تعترف بأنك متعب، أن تتقبل أنك بحاجة إلى استراحة، أن تمنح نفسك الحق في الصمت دون أن تبرّر أو تشرح، هذا نوع من النضج لا يقل عن النجاح نفسه. فالشجاعة لا تكون فقط في التقدم، بل في معرفة متى يجب أن نهدأ. كثيرون يواصلون السير فقط لأنهم يخافون التوقف، يخشون أن يُنظر إليهم كمن تراجع، لكن الذين يعرفون قيمة أنفسهم يدركون أن الراحة ليست ضعفًا، بل استثمارٌ في القدرة على الاستمرار.

وحين يأتي وقت العودة بعد التوقف، نكتشف أن الطريق صار أكثر وضوحًا، وأننا عدنا بخفةٍ جديدة. فالتوقف لا يسرق الوقت كما نظن، بل يعيده إلينا. يجعلنا نتحرك بوعيٍ وهدوءٍ واتزان. عندها يصبح المضيّ امتدادًا طبيعيًا للسكون، لا نقيضًا له.

إنّ أجمل ما في التوقف أنه يذكّرنا بأننا بشر، وأنّ للحياة إيقاعًا داخليًا علينا أن نصغي إليه. فلا بأس أن نهدأ قليلًا حين يشتد الإيقاع، ولا بأس أن نغيب عن السباق لنستعيد قدرتنا على الفرح. فالحياة لا تُقاس بعدد الخطوات التي نخطوها، بل بجودة الوعي الذي نحمله في كل خطوة.

توقّف إذن حين تشعر أن الضجيج فيك تجاوز الحد.
توقّف لتصغي، لتستعيد نفسك، لتسترجع اتجاهك.
وحين تنهض بعد ذلك، ستجد أنك أقرب إلى هدفك مما كنت تتصور، لأنك هذه المرة تعرف إلى أين تمضي، ولماذا.

إنّ التوقف ليس نقطة نهاية، بل فاصلة في جملة الحياة. بعدها تستأنف السطر بخطٍ أوضح ومعنى أعمق. فكما أن الريح لا تتوقف لتضيع، بل لتبدّل مسارها نحو أفقٍ أبعد، كذلك نحن نتوقف لا لنهرب من الطريق، بل لنعود إليه بخطى أصدق.

وحين تتوقف قليلًا، لا تخف، فربما كان هذا التوقف هو ما سيمنحك القوة لتواصل أبعد مما كنت تتخيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى