أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

عبد العزيز معروف (أنيس الأزهر) يكتب دولة التلاوة كلمة في الجمال

دولة التلاوة

عندما شاهدتُ برنامج «دولة التلاوة» دار في عقلي عدة أسئلة:
ما سرّ هذه الأصالة المتجذّرة؟
وما هذا الحبّ الذي يجيء صافيًا، لا تشوبه المصلحة، ولا يعتريه ضعفُ العادة؟
وما هذه الروح التي تطلب في التلاوة عمقًا يتجاوز اللحن والترجيع إلى المعنى والفكرة؟

قلبتُ تلك الأسئلة في ذهني، فإذا الإجابة تتشكّل أمامي:
عقلٌ يفكر… وقلبٌ يشهد.
نعم. هكذا خُلقت علاقة المصري بالقرآن: فكرٌ يتأمل، وروحٌ تستقبل، ووجدانٌ ينطق قبل اللسان

فإن للقرآن في مصر دولة ليست تشبه دولة الأرض؛ دولةٌ لا تقوم على الحدود، بل على القلوب، ولا تعتمد على السلطان، بل على الإيمان.
دولةٌ لها سلطانها في الوجدان، وحضورها في الثقافة، وامتدادها في التاريخ.

وليست هي دولةٌ تُقام على الصوت فحسب، بل على الفكر الذي يصاحبه، والمشاعر التي تلازمه، والحضارة التي تُحيطه بقداسةٍ لا تُمسّ.
فالتلاوة عند المصري ليست ترفًا فنيًا، ولا صنعةً صوتيةً تُتقن بالمران، بل هي وجدانٌ ناطق؛ صوتٌ يُترجم ما في القلب من تعظيمٍ لكلام الله، ويكشف عن طبيعة المصري الحقيقية حين يقف بين يديه.

ومن هنا كان القارئ المصري — قديمًا وحديثًا — ذلك الصوت الذي يتكلم بلسان وجدان أمّة، ويكشف طبيعتها العميقة؛ فهو ليس مؤديًا، بل شاهدٌ وترجمانٌ وروحٌ تتجلّى في نبرةٍ من نور.
ولهذا كانت مدرستهم في التلاوة: أصالةً متجذّرة.
وهذه الأصالة ليست حفظًا لما مضى، ولا انكماشًا على ما كان يومًا؛ ولكنها قدرة الروح على أن تُضيف الجديد دائما ، أو أن تُعيد صياغته في صورةٍ تُصلح للعصر دون أن تفقد حرارة الأصل.

وهذه القدرة واضحةٌ في المصريين أوضحَ ما تكون في علاقتهم بالقرآن؛
فهم لم يكتفوا بتلاوته، بل ابتكروا في أدائه، وصنعوا مدارس صوتية ووجدانية يُرجع إليها الناس من أطراف الأرض، حتى صار كل قارئٍ منهم — إذا أتقن فنه — مرجعًا في «دولة التلاوة» التي تتجاوز المكان والزمان.

وهذا هو معنى الريادة:
أن تكون متصلًا بالجذر، مختلفًا بالثمر.
وما هذه الريادة إلا الفطرة الحية للأصالة المتجدّدة؛ لأن التقليد المحض لا يُنجب مدرسة، ولا يترك أثرًا

ولعلّ السؤال الأعمق: من أين نشأ كل هذا؟
من أين جاء هذا الامتزاج بين الفنّ والروح، وبين العقل والقلب؟
( هذا المزيج في نظري هو أركان دولة التلاوة )

والجواب:
القرآن كلام الله.
هذه الحقيقة وحدها هي التي انطلق منها المصري ليبني دولة التلاوة؛ حقيقة تُنشئ قداسة، وتمنح الصوت وزنًا، وتعطي الأداء بُعدًا لا يبلغه أي فنٍّ على الأرض.

فهناك فرقٌ بين من يتلو كلامًا ، ومن يتلو كلام ربّ العالمين.
وهذا الفرق الخفيّ لا يستطيع الناقد مهما بلغ أن يصفه، ولا يستطيع المستمع مهما أوتي من الذوق أن يخطئه؛ لأنه فرقٌ ينساب إلى القلب من غير إذن، ويُحدِث في الوجدان أثرًا لا يُقاس.

ففي كل حرفٍ يتلى أجر، وفي كل آيةٍ تتنزل أنوار، وفي كل صوتٍ يخرج من الصدر نيةٌ لا يعلمها إلا الله.
ومن هنا جاءت الهيبة التي تُصاحب التلاوة في مصر؛
هيبةٌ ليست من جمال الصوت وحده، بل من جلال القرآن الكريم وجماله

وهذه القداسة هي أيضًا سرّ ذلك الخشوع الذي تراه على الوجوه،
وسرّ تلك اللحظة التي يسكت فيها المجلس كلّه إذا بدأت التلاوة،
وسرّ تلك الدموع التي تنحدر بلا استئذان حين تبلغ الآية موضعها من القلب.

ولذلك كانت التلاوة عندهم عبادة قبل أن تكون فنًا، وصوتًا للروح قبل أن تكون طربًا للأذن.

ومن هذا الشعور تتولّد الأصالة، ومن هذه القداسة ينبع الشرف العظيم الذي حمله القرّاء، والذي جعل مدارسهم لا تزول.
ولهذا كله كانت دولة التلاوة في مصر — وسيظلّ شأنها كذلك — : عقلا يفكر وقلبًا يشهد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى