قراءة تحليلية لقصه بعنوان “مغامرة عصفور” لدكتور / صبرى زمزم بقلم/ فاتن صبحى
قراءة تحليلية لقصه بعنوان “مغامرة عصفور” لدكتور / صبرى زمزم
بقلم/ فاتن صبحى
حين يكتب د. صبري زمزم، لا يكتفي بسرد حكاية عن عصفورٍ هارب من قفصه، بل يصوغ تأملًا عميقًا في جوهر الإنسان بين الأمان والحرية، بين دفء الاعتياد ونداء المجهول.
في قصته “مغامرة عصفور”، تتحول التفاصيل اليومية البسيطة إلى مشهد رمزي نابض، تُطل منه الأسئلة الكبرى عن الوجود والرغبة والانتماء.
إنها مغامرة لا تخص عصفورًا بعينه، بل كل كائنٍ جُبل على الحلم ثم أُعيد إلى قيده، بين زهو المحاولة ومرارة الفشل.
وهنا تتجلى مهارة الكاتب في توظيف الموقف العابر ليكشف عن جدلية الأسر والتحرر، والحنين إلى المجهول، وثنائية الخوف والرغبة التي تسكن قلب الإنسان قبل جناحي العصفور.
أولًا: المغزى الفني والنفسي :-
من الناحية الفنية، تتخذ القصة من حدثٍ بسيط — هروب عصفور من قفصه — مدخلًا رمزيًا عميقًا للتأمل في جدلية الحرية والخوف، والوعي والأمان، والطبيعة الغريزية في مقابل الترويض الإنساني.
الكاتب لا يقدم مغامرةً بالمعنى التقليدي، بل رحلة رمزية من القيد إلى الوعي، ومن الطيران الجسدي إلى الإدراك النفسي.
فالتحليق هنا ليس حركةً في الهواء بقدر ما هو تجربة وجودية تُختبر فيها الذات أمام اتساع الفضاء.
وقد استخدم الراوي أسلوبًا سرديًا واقعيًا ظاهريًا، لكنه مشبع بالإيحاءات الرمزية، فالقفص ليس مجرد مكان بل رمز للنظام الاجتماعي الآمن، والشارع ليس مجرد فضاء بل رمز للفوضى والاختيار المفتوح، أما الطيران فصوت الروح حين تتوق إلى معنى الحياة الحقيقي.
أما من الناحية النفسية، فإن العصفور يُجسد الإنسان المقهور بالخوف الداخلي لا بالجدران.
لقد ولد في القفص، وشب فيه، فصار الأمان لديه مرادفًا للبقاء.
حين سنحت له الفرصة للتحليق، استجاب للنداء الغريزي للحرية، لكنه لم يكن مهيأً نفسيًا لها؛
لذا جاء طيرانه متخبطًا، غير متوازن، بين الاندفاع والتردد — في مشهد يُحاكي أول تجربة للإنسان حين يواجه المجهول دون خبرةٍ سابقة.
فما بدا مغامرة عابرة كان في العمق اختبارًا للنضج النفسي والروحي.
وحين يُعاد العصفور إلى قفصه، لا يعود مسجونًا بل مستسلِمًا لصوت الخوف القديم.
إنه لم يُهزم من الخارج، بل من داخله؛ فالحرية التي لا تتهيأ لها النفس، تتحول إلى فوضى مرعبة.
ومن هنا يتجلى المغزى النفسي العميق للقصة:
أن التحرر لا يُنال بالطيران، بل بالقدرة على مواجهة الذات بعد السقوط.
أما المغزى الفني الأجمل، فهو في توليد المفارقة الجمالية بين من يرى القفص مأوىً ومن يراه سجنًا، وبين من يظن الإطعام رعايةً ومن يدركه قيدًا.
إنها جدلية الإنسان ذاته، في كل زمان:
بين الحاجة إلى الأمان، والرغبة في الانطلاق.
ثانيًا: الثنائيات والدلالات الجمالية:-
تقوم قصة “مغامرة عصفور” على مجموعة من الثنائيات المتقابلة التي تولد توترها الفني، وتمنحها عمقها الإنساني والرمزي في آنٍ واحد.
فكل ثنائية في النص ليست مجرد تضاد، بل مسافة بين حالتين من الوعي:
١. الحرية / الأمان
“فإذا بالعصفور يستغل عدم انزلاق الباب إلى أسفل كالمعتاد… ويخرج من القفص ويحلق وأنا مازلت ممسكا بالإناءين في يدي.”
في هذا المشهد لحظة الانفلات الأولى، يتحول الخطأ البسيط في انغلاق الباب إلى نافذة قدرية تمنح العصفور فرصة للحرية، لكنها حرية مرتبكة، لم يتعلمها بعد.
جماليًا، هذا المشهد يجسد المفارقة الكبرى في القصة:
الحرية هنا لا تُمنح بقرارٍ واعٍ، بل تقع فجأة مثل زلةٍ من النظام المألوف، لتكشف أن الكائن الذي لم يتعود على الفضاء لا يعرف كيف يتعامل معه.
٢. التحليق / السقوط
“فإذا به يطير بشكل غير مستقيم فيعلو ثم يهبط ثم يعلو مرة أخرى، وهو يجرب لأول مرة الطيران خارج القفص وكأنه طيار يحلق بطائرة لم يتدرب عليها بعد.”
يستخدم الكاتب هنا صورة بصرية دقيقة تُحول الطيران إلى مجازٍ عن التجربة الإنسانية الأولى في مواجهة المجهول.
إنّ التماوج بين الارتفاع والانخفاض يجسد الصراع بين غريزة التحرر وخوف السقوط.
فالتحليق الجميل لم يدم، والسقوط لم يكن سقوطًا جسديًا، بل سقوطًا في وعي الخوف.
٣. الخلاص / العودة
“إلى أن حل التعب بالعصفور فدنا من الأرض يلتقط أنفاسه، فلم يمهله وانقض عليه ليمسكه بمهارة يحسد عليها كلاعب بيسبول محترف.”
عودة العصفور ليست فشلًا في المغامرة بقدر ما هي استسلام للحد الذي تربى عليه.
الدلالة النفسية هنا عميقة:
الحرية المتعبة تعود لتستريح في الأسر، وكأنّ الكاتب يقول إن الخلاص يحتاج نضجًا لا اندفاعًا.
وجماليًا، تأتي صورة “الانقضاض” لتكثف المفارقة: العصفور الذي حلم بالسماء يُؤخذ بالأيدي، لا بالقوة، بل بحيلة القدر.
٤. الانكسار / الاستمرار
“وكان يزقرق كأنما يحكي لزوجته مغامرته الثائرة بين زهوٍ وانكسار، وهي ترمقه بعينيها محذرة من مغبة تكرارها… فقال مغمغما: عصافير شوارع ولكنها حرة!!”
هذا الاقتباس هو ذروة الدلالة الجمالية والإنسانية للنص.
فيه تتجسد المفارقة الوجودية الكبرى:
الزهو بالحرية يقف إلى جوار الانكسار من واقع الأسر، والكاتب يجعل الصوت الأخير للعصفور – رغم ضعفه – يحمل وعيًا جديدًا:
الحرية لا تُلغى، حتى إن عجز الجسد عنها، لأنها تتحول إلى فكرة.
وجملة “عصافير شوارع ولكنها حرة” تُعدّ من أجمل الجمل في النص، إذ تختصر الموقف الوجودي كله في ومضةٍ شعرية – فهي صرخة واعتراف في آنٍ واحد.
ثالثًا: الراوي.. مرآة الرؤية وضمير الكاتب:-
يُقدم الراوي في القصة ليس كمجرد شاهد على الحدث، بل كصوتٍ تأملي يوازن بين الفعل والمغزى.
فهو لا يتدخل في حركة العصفور، بل يراقبها بعينٍ شاعرٍ وفيلسوف، حتى يتحول إلى رمزٍ للوعي الإنساني الذي يعاين نفسه من الخارج.
– الرمز.. من الواقعي إلى الوجودي:-
“فإذا بالعصفور يستغل عدم انزلاق الباب إلى أسفل كالمعتاد لسبب لا أعلمه…”
هذه العبارة تُفتَح بمفتاح الغموض: “لسبب لا أعلمه”.
الجملة الواقعية تُسلم نفسها لدهشةٍ فلسفية، وكأن الكاتب يعترف بأن ما يحدث ليس مجرد حادث عرضي، بل تدخل كوني صغير — خلل مقصود في رتابة العالم ليختبر أحد مخلوقاته معنى الوجود خارج الإطار.
فنيًا، هذه اللحظة تُحول النص من حكاية عن “تربية عصافير” إلى تجربة تحرر رمزية؛
ومن خلال هذا الانزلاق الفني، يخلق الكاتب جسرًا بين العادي والمطلق، بين قفصٍ معدني وحدود الوعي.
أما نفسيًا،
فالعصفور الخارج من قفصه يشبه الإنسان حين يُدفع لاختبار حريته دون استعداد.
لقد خرج لا لأنه أراد الهرب، بل لأن الباب انفتح.
والحرية التي تأتي دون وعيٍ كافٍ قد تتحول إلى محنة وجودية أكثر منها خلاصًا.
ذلك ما نراه في وصف الطيران المرتبك لاحقًا:
“يطير بشكل غير مستقيم فيعلو ثم يهبط ثم يعلو مرة أخرى.”
الواقعة اليومية — خروج عصفور من قفصه — تتحوّل هنا إلى رمز فلسفي للحظة الوعي الأولى:
حين يكتشف الكائن أن له جناحين، لكنه لا يعرف بعد كيف يستخدمهما.
وجماليًا،
البنية السردية تسند هذا التحول عبر مفردات الحركة (يخرج، يحلق، يعلو، يهبط)،
في مقابل ثبات الراوي (مازلت ممسكًا بالإناءين)،
فتتجسد المفارقة بين من يحيا داخل النظام (الإنسان/الأب)
ومن يجرب التمرد عليه (العصفور).
– اللغة التصويرية
لغة الكاتب تقوم على التكثيف والإيحاء، فهو لا يشرح ولا يعلق، بل يترك الصورة تنطق.
تتحرك الجمل بخفة جناحٍ وتختزل المعنى في إيقاعٍ بصريٍّ متدرج:
وهذا التدرج ليس لغويًا فقط، بل نغمي ودلالي؛ فالإيقاع يبدأ صاعدًا مع انطلاق العصفور، ثم يهبط تدريجيًا حتى يصل إلى الصمت التأملي، فيرسم منحنى التجربة الوجدانية للنص كله.
كما أن الاقتصاد اللفظي يمنح الجملة توترًا دلاليًا عميقًا، يجعل القارئ مشاركًا في التأويل لا متلقيًا فقط، وهي من سمات الفن القصصي الرفيع.
– القراءة الاستقرائية الكلية في مغزى النص :-
١- ما الفكرة الجوهرية التي تدور حولها القصة؟
– القصة تُجسد جدلية الحرية والانضباط في أبسط صورها الرمزية: عصفور يخرج من قفصه مصادفة، فيجرب فضاءً لم يعرفه من قبل، ثم يُعاد إلى سجنه على يد ابن الجيران، لم يدرك معنى مغامرته.
إنها مرثية صغيرة للكائن الحي الذي يطلب الحياة فيقابله العالم بالشفقة المقنعة بالحب.
٢- هل كان العصفور جبانًا أم مغامرًا؟
– العصفور مغامر بالفطرة، لم يخف الفضاء بل اندهش منه.
إنه لم يهرب ليبتعد، بل ليجرب معنى أن يكون له جناحان خارج الأسلاك.
تعبه ليس دليلاً على الضعف، بل على الجهد الوجودي في ممارسة الحرية لأول مرة.
“فإذا بالعصفور يستغل عدم انزلاق الباب إلى أسفل … ويخرج من القفص ويحلق”
– الخروج هنا ليس فعل هروب، بل ولادة ثانية فرضتها الصدفة، فصار العصفور كطفلٍ يُدفع إلى الحياة قبل أن يتعلم المشي
٣- لماذا أُعيد العصفور؟
الطفل “عمر” أمسكه بحماسة المنتصر، والراوي فرح بعودته كأبٍ استعاد ابنه.
لكن خلف هذا المشهد الحنون تكمن مأساة الحرية الموءودة باسم العناية.
الغموض النفسي في نهاية الجملة يفتح سؤالًا وجوديًا: هل السعادة في الأمان أم في المغامرة؟
٤- ما رمزية عصفورة عمر في النهاية؟
– عصفورة عمر تمثّل استمرار الدورة.
ستنتقل من قفص إلى آخر، وربما تعيش المصير نفسه.
لكن النص يُبقي الاحتمال مفتوحًا:
ربما ذات يوم، سيفتح عمر الباب لتطير — ويكمل ما بدأه العصفور الأول.
ختامًا…
في “مغامرة عصفور” لا يكتب د. صبري زمزم عن طائرٍ صغير، بل عن كائنٍ يبحث عن معنى الوجود في لحظة تحليقٍ خاطفة.
إنها قصة عن الإنسان حين يجرب للمرة الأولى أن يعيش خارج حدود المألوف، فيصطدم بأن الأمان كثيرًا ما يكون الوجه اللطيف للسجن.
فالعصفور الذي أُعيد إلى قفصه لم يُقهر بالقوة، بل بالعاطفة؛ والقيود التي أعاقته لم تكن من حديدٍ بل من حب مطمئنٍ يخشى الفقد.
وهكذا تتجاوز القصة ظاهرها البسيط لتغدو تأملًا في طبيعة الحرية نفسها: هل هي هبة تُمنح؟ أم مهارة تُكتسب؟ أم قدر لا يطيقه إلا من استعد له بالوعي؟
إن الجمال في هذا النص لا يقوم على الحدث، بل على الفراغ الذي يتركه في القلب بعد انتهائه؛
ذلك الصمت الذي يطرح سؤالًا مؤلمًا:
هل كان العصفور حقًا أسعد في القفص أم في الفضاء؟
وما الفرق بين من يعيش في أمانٍ مستعار، ومن يخاطر بلحظة نورٍ قصيرة ثم يُسقطه القدر؟
بهذا المعنى، تتحول القصة إلى مرآة إنسانية شاملة، يرى فيها القارئ نفسه وهو يتأرجح بين الخوف والرغبة، بين الألفة والمجهول، بين دفء اليد التي تطعمه، واتساع الأفق الذي يناديه.
وحين يختتم الكاتب نصه بعبارة العصفور:
“عصافير شوارع ولكنها حرة”،
فهو لا يعلن تمردًا بل يكشف عن وعي جديد بالكرامة، ويفتح الباب لتأملٍ وجوديّ عميق:
أن الحرية، مهما كانت ثمنها باهظًا، تظل أجمل مغامرةٍ وُجدت في الحياة.



