محمد رضوان يكتب التدبّر في القرار وفي أمور الحياة

التسرّع يخلق ضجيجًا داخليًا لا يُرى، لكنه يوجّه حياة الإنسان كأنه يدفعه من الخلف. بينما التدبّر، في المقابل، ليس بطئًا ولا ترددًا كما يظن البعض؛ بل هو فنّ النظر إلى الأمور من مسافة تكفي لتمييز الحقيقة من الوهم، والرغبة العاجلة من الحاجة الحقيقية، والخطوة التي تقودك إلى الأمام من تلك التي تعيدك إلى نقطة أشد ضيقًا.
التدبّر ليس رفاهية فكرية، بل مهارة وجودية. فالإنسان الذي لا يمارس التدبّر يعيش رد فعل مستمر، يتخذ قراراته تحت ضغط اللحظة، أو تحت تأثير شخص آخر، أو تحت ثقل توقعات لا تخصه. بينما الإنسان المتدبّر هو الذي يخلق لنفسه لحظة صامتة قبل كل اختيار، وكأنه يقول للدنيا: لن أتحرك إلا حين أفهم الطريق الذي أسير فيه.
والحقيقة أن معظم القرارات الخاطئة لا تأتي من نقص المعرفة، بل من غياب التروي. من الانجراف خلف العاطفة الخام، أو السرعة، أو الخوف من الفوات. كم من قرار اتخذناه لأننا شعرنا أننا “مضطرون”، ثم اكتشفنا لاحقًا أن الاضطرار كان مجرد وهم؟ وكم من خطوة رمينا أنفسنا فيها لأننا لم نمنح عقولنا وقتًا لتراجع المعنى، لا الشكل؟
التدبّر لا يعني الوقوف الطويل، بل الوقوف الكافي.
أن تنظر إلى القرار من زاويتين:
زاوية ما تريده الآن، وزاوية ما سيصنعه هذا القرار منك بعد خمس سنوات.
زاوية الراحة اللحظية، وزاوية الأثر العميق.
زاوية ما تراه، وزاوية ما قد يغيب عنك.
ولأن الحياة معقدة، فإنّ التدبّر ليس عملية عقلية فقط، بل عملية روحية أيضًا. تحتاج أن تصغي إلى ما تشعر به حين تفكّر، لأن الشعور الصادق غالبًا يكشف لك ما يحاول العقل تبريره. كثيرًا ما نعرف الجواب الحقيقي قبل أن نعترف به: نُحسّ بالراحة تجاه طريق معينة، أو بالضيق تجاه أخرى، لكننا نغطي هذا الإحساس بطبقات من المنطق. التدبّر الحقيقي هو أن نمنح هذا الإحساس مساحة ليظهر.
من الحكمة ألا تتخذ قرارًا وأنت غاضب، ولا وأنت مرهق، ولا وأنت خائف. فهذه الحالات ليست جزءًا من حقيقتك، بل سحب مؤقتة تمرّ على سماء نفسك. والتدبّر هو الانتظار حتى تعود السماء صافية بما يكفي لرؤية الاتجاهات بوضوح.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يتحوّل التدبّر إلى تردد. الإنسان المتردد لا يبحث عن الحقيقة، بل عن ضمانٍ لا وجود له. التدبّر يقول لك: افهم ما أمامك جيدًا ثم تحرك. التردد يقول لك: انتظر حتى تُلغى احتمالات الخطأ كلها. وهذا فرق جوهري.
فالحياة لا تعطيك يقينًا كاملًا، لكنها تمنحك نضجًا كافيًا لتتحمل نتائج اختياراتك حين تكون واعيًا بها.
وبين التسرّع والتردد يوجد فضاء ذهبي يُسمى “التبصّر” — أن ترى الطريق جيدًا، أن تفهم دوافعك، أن تحدد الأولويات، ثم تمشي بخطوة ثابتة دون خوف ولا عجلة.
التدبّر ليس لتحسين القرارات فقط، بل لتحسين الإنسان نفسه. فمن يتعود على التروي يصبح أكثر هدوءًا، أكثر قدرة على النظر للأمور من أعلى، وأكثر استقلالًا عن ضغوط الآخرين.
وحين يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، يبدأ في اتخاذ قرارات تقوده إلى حياة تشبهه… لا حياة فُرضت عليه.
وهكذا، يصبح التدبّر ليس مجرد مهارة، بل أسلوبًا للعيش: أن تفكر قبل أن تمضي، وأن تفهم قبل أن تختار، وأن تمشي بثقة لأنك تعرف لماذا تمشي، وليس فقط إلى أين.





