أخبار ثقافيةأخبار عاجلةالرئيسية

كتاب عن الشعر المعاصر للناقد مراشد

عمّان – متابعة أوبرا مصر

في كتابه “مقالات في الشعر الأردني والعربي المعاصر”، يقدّم الباحث والناقد الأردني د.عبدالباسط مراشدة جهداً بحثياً ونقدياً متماسكاً يرصد من خلاله التحولات الأسلوبية والفكرية في الشعر الأردني والعربي، واضعاً القصيدة الحديثة في سياقها الجمالي والثقافي الممتد من التراث إلى المعاصرة، ومن الفردي إلى الجمعي.
ويقع الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن (2025) في قرابة 200 صفحة من القطع المتوسط، ويضم مجموعة من الدراسات التي تتناول شعراء وتجارب متنوعة، بعضها يضيء على البنية الجمالية للنصوص، وبعضها الآخر يتناول القضايا المفهومية الكبرى كالتناص والهوية والمرأة والمهمشين في الشعر الأردني، مقدّماً بذلك بانوراما نقدية متكاملة عن الشعر بوصفه مرآة لتحولات المجتمع العربي في القرن الحالي.
ويوضح المؤلف في تقديمه إلى أن الدافع وراء إعداد هذا الكتاب هو قلة الدراسات التحليلية الدقيقة التي تقارب النصوص الشعرية المعاصرة في الأردن والوطن العربي، وأن هدفه هو العمل على إبراز سمات الشعرية الأردنية الحديثة من خلال تطبيق مناهج نقدية معاصرة تجمع بين التحليل النصي والقراءة التأويلية.
ويرى مراشدة أن الشعر الأردني، رغم حداثة تجربته الزمنية مقارنة ببعض الأقطار العربية، استطاع أن يواكب التيارات الشعرية الكبرى في العالم العربي، وأن يقدم خصوصيته عبر لغته وصوره وموقفه من الإنسان والأرض، ومن هنا يأتي كتابه ليشكل حلقة وصل بين النقد الأكاديمي المتخصص والنقد الثقافي الذي يخاطب القارئ العام، في لغة واضحة تجمع العمق والوضوح.
خصص الباحث الباب الأول من الكتاب لـ”قراءة في الشعر الأردني المعاصر”، قدم فيها دراسة موسعة لقصيدة “الدليل” للشاعر إبراهيم نصر الله بوصفها نموذجاً للتناص في الشعر الأردني المعاصر، محللاً بنيتها الدلالية والرمزية، ومبيناً كيف تستحضر النصوص الغائبة من التراث الديني والأسطوري لتعبّر عن أزمات الإنسان العربي المعاصر. ويحلل الباحث القصيدة باعتبارها رحلة وجودية في صحراء الروح، حيث يتحول “الدليل” إلى رمز للقيادة الروحية والسياسية، لكنه في الوقت نفسه يتحول إلى سببٍ للفناء، إذ في النهاية لم يصل أحد آخر غير الدليل، وهي نهاية ترمز إلى تضحية الإنسان في سبيل الفكرة، ويُبرز المؤلف توظيف الشاعر لعناصر من الثقافة الصوفية والقرآنية والبيئية في نسيج شعري موحد، ليؤكد أن التناص في الشعر الأردني ليس مجرد اقتباس بل إعادة خلق للنصوص القديمة داخل تجربة جديدة تنبض بقلق العصر وأسئلته الكبرى.
وفي هذا الباب يتناول الباحث أيضاً صورة المرأة في الشعر الأردني من خلال تحليل قصيدة “ذات الأبواب” للشاعر نزار اللبدي، التي تُعَدّ من النماذج الشعرية الغنية بالرموز التراثية والدرامية، إذ يفكك الناقد مراشدة بنية النص عبر مفهوم “الثنائية الضدية” بين الحياة والموت، والخصب والجدب، موضحاً كيف توظف القصيدة شخصيات أسطورية وتاريخية مثل شهرزاد، بلقيس، وهاجر، لتعبّر عن حضور المرأة بوصفها رمز الحياة والخصب والهوية، فـشهرزاد تمثل انتصار الأنثى على الموت، وبلقيس تجسد الصراع الحضاري بين الحكمة والطغيان، بينما تأتي هاجر لتختزل معنى الطاعة والخصوبة الروحية، إذ من واديها غير ذي الزرع تولد الحياة وينهض الإنسان، وهنا يؤكد الكاتب أن استدعاء هذه الشخصيات لا يأتي بوصفه محاكاة للتراث، بل بوصفه حواراً مع التاريخ والرموز في إطار فني معاصر يربط بين الماضي من جهة والحاضر من جهة أخرى.
إلى جانب ذلك يوجّه مراشدة قراءته نحو شاعر الأردن الأبرز مصطفى وهبي التل (عرار)، كاشفاً عن ملامح النزعة الإنسانية والاحتجاج الاجتماعي في شعره، ومبيناً كيف جعل من “المهمشين” بطلاً شعرياً جديداً في مقابل السلطة والطبقية، ويحلل المؤلف علاقة عرار بمفردات الحياة الشعبية، وباللغة العامية التي جعل منها أداة فنية تعبّر عن صوت الفقراء والنَّور والبدو، لا عن الهامش فقط بل عن الجوهر الإنساني المغيّب في المركز، ويشير إلى أن اختيار عرار لعناوين من مثل: “عشيات وادي اليابس” يعكس انتماءه لمجتمع البسطاء، كما أن توظيفه للمحكية لم يكن خروجا على الفصحى بل تمرّداً على سلطة اللغة المهيمنة، وفي قراءة عميقة لديوان “العبودية الكبرى”، يرى مراشدة أن الشاعر قدّم صورة طبقية مقلوبة جعل فيها الفقراء أكثر نقاءً من الأغنياء، مؤسساً بذلك لشعرية أردنية مبكرة تنحاز للحرية.
ويُبرز مراشدة أن الشعر الأردني لم يكن معزولاً عن الهمّ العربي العام، بل كان مرآةً لأسئلة الإنسان العربي في الحرية والوجود والانتماء. ومن هنا تتقاطع قراءاته بين المحلي والعربي، فيرى في شعراء الأردن جزءاً من حركة شعرية أوسع تحافظ على جذورها وتبحث عن صوتها في الوقت ذاته.
خُصص الباب الثاني من الكتاب لــ”قراءة في الشعر العربي المعاصر” وفيه تناول مراشدة قصيدة “سوق القرية” للشاعر عبد الوهاب البياتي، موضحاً تعدد دلالاتها إذ أن اللغة أو اللفظة الواحدة تحوي أكثر من صورة تتكئ على أبعاد تراثية ‏ تحوي قصصاً تامة، فاللفظة علاوة على تعدد دلالاتها فهي صورة بذاتها أو أكثر من صورة، وعليه فإن اللغة الشعرية تصبح مكثفة تحوي صوراً متعددة متراكمة مما يؤدي إلى قبول النص لأكثر من قراءة نقدية.
ودرس الباحث هنا أيضاً “محورية الزمن في قصيدة دار جدي للسياب”، موضحاً أن الزمن وفقاً لمفهومه المعجمي محايداً بمعنى أن المعجم يفسر معنى اللفظة ولا يظهر دلالاتها النفسية والاجتماعية، إذ يتباين طرح المعجم عن الطرح الأسطوري الذي يشكل دلالات فكرية وفنية، وأن التفسير الأسطوري للزمان يومئ إلى بعد فلسفي.
وفي هذا الباب قدم الباحث كذلك دراسته حول “التّراث بين البارودي والسيّاب”، موضحاً التراث في شعر البارودي رائد مدرسة الإحياء والسيّاب رائد الشعر المعاصر، وطبيعة توظيف التراث عند الاثنين للخروج إلى فهم طبيعة وظيفة التراث وكيفية التعامل مع النصوص والمراجع والتقاليد الفنية القديمة.
كما قدم د.عبدالباسط إلى “قراءة موازنة ما بين القصيدة العربية التقليدية والموشح الأندلسي” بين فيها ملامح التطور والتجديد في القصيدة العربية للوصول إلى الموشح الأندلسي ومدى تطوره عن النص التقليدي للقصيدة العربية الكلاسيكية.
يتكئ الكاتب مراشدة على منهج نقدي يجمع بين التحليل النصي والقراءة الثقافية، فلا يكتفي بتفكيك الصورة الشعرية أو الإيقاع، بل ينفذ إلى ما وراء النص من دلالات اجتماعية ونفسية، لغته النقدية متماسكة وأنيقة، تخلو من التعقيد الأكاديمي، وتميل إلى التوضيح عبر الأمثلة الشعرية الدقيقة. ويستند إلى طيف واسع من المراجع النظرية الحديثة مثل البنيوية والتناص والحوارية، من دون أن يغرق في التنظير، محافظاً على قربه من النصوص، ويظهر في معظم مقالات الكتاب حرص المؤلف على إظهار الصلة العميقة بين الشعر الأردني والتراث العربي، دون أن يتحول هذا التراث إلى قيد؛ فالتناص، والرموز القرآنية، والأسطورة، كلها عناصر يستعيدها الشعراء ليؤكدوا استمرار الهوية الثقافية في مواجهة التحولات السريعة للعصر الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى