أوبرا مصر تَنشُر “دارت الأيام” قصة قصيرة للقاص أحمد الباسوسي

حينما اتحرر من ضغط الصداع الذي يمزق رأسي معظم ساعات النهار اقفز الى نافذتي المعلقة في الطابق الثاني فوق المقهى مباشرة، اتابع حركة الناس والأيام ومسارات ضوء النهار وعتمة المساء. دائما ينتظرني النهار والناس الذين يزعقون ويتشاجرون. التوتر والقلق يمشيان بينهم وداخلهم خلال هذه الأيام التي شقلبت حال الدنيا وأفرغت جيوبهم وملأت قلوبهم رعبا من القادم منها، يمشون في الشوارع كأنهم يحدثون أنفسهم، أو يتصيدون أية هفوة للصدام مع بعضهم البعض. اصطكت عيناي بعيون امرأة مليحة، اختطفتني، شيء غامض تلبسني خلال مسافة الرؤية من نافذتي حيث أكون، الى الشارع المزدحم بالناس في الأسفل حيث تكون. كانت رأسي مرتاحة فوق المرفقين المسنودين على سور النافذة، ضربات قلبي انبهرت فجأة، تسارعت دقاتها تكاد تقفز من النافذة من شدة اللارتجاف، كياني امتلأ بطاقة غريبة اعادتني للخلف عشرون عاما، وسخونة سيطرت على جسدي لم اعهدها منذ زمن. اختفت من المشهد فجأة كأنها لم تحتمل ضجيج الشارع ولا فوضويته، ولا روائح الفقراء الغاضبون التي تمتزج بركام الحفر الناتج عن شق بطون غالبية شوارع المحروسة هذه الأيام، والمعدات الثقيلة التي تملأ تعاريجها وثناياها، اعتبروها غريما ومشاركة لهم في بقايا رغيف الخبز المتروك لهم.
ذات مساء سريع حملت لي السماء سحر العينين في مصادفة مذهلة، أو ربما ان قوة رجفان قلبي ارسلت لها اللوكيشن في تلك اللحظة حيث كنت انتصب أمام محل عصير القصب المرتكز في قفا شارعنا. اندمجنا، امتزجنا، اكتشفنا اننا نعيش حياة اسطورية، احتوينا بعضنا بعضا. اكتشفت رجولتي من جديد، واستعادت انوثتها السخية من جديد أيضا. حلقنا مع الزمن الذي لم يشعر بنا ولم نشعر به. فرت سنواته في لمح البصر، لحظة من الفرح والبهجة والمتعة لكن فرت مع الهواء، فرت معها صور وأحداث وأفكار، وعوالم اقتحمناها سويا واقتحمتنا، تغير كل شيء، العديد من معارفنا واحبائنا المشتركين ودعونا الى باطن الأرض. لكن ظلت نافذة النهار مفتوحة تبتلع آشعة الشمس كل صباح، وتبتلع معها حركات الأقدام المتعبة، وشجارات الناس الغاضبون واصواتهم القبيحة التي اصابها الوهن مثلما اصاب عيني صديقتي الجميلة، وشوارع القاهرة البائسة. بدت ملامحها تقفز بسرعة متخطية حركة الأيام ودوران الشمس ووناسة قمر شهر اكتوبر الرائع. لم تدرك حينها ان كعبها الخشبي الذي ارهقه الزمن تآكل ويكاد ينفصل عن الحذاء الأسود القديم، يدهس من دون رحمة قلبا لايزال ينبض بوهن، وبات لايعبأ بنافذة تشهد ان ثمة شيء ما خلفها لاتراه يغالبه الشغف والاحتضار. انها ذات العيون التي كانت تبرق بقوة جذب مغناطيسية مذهلة، وتشد الرحال داخل الأيام معي، تخطف كياني الذي ما توقف عن الارتجاف حتى الآن. اخبرتني في أمسية عاصفة أمطرت الكثير من العبارات المنفلتة، والرغبات الجامحة التي تسارع عقرب الساعة الجوفيال القديمة التي تخنق معصمي، ” لم يعد جنوني يتحمل المزيد من سرعة دوران الأيام، انه مفترق الطريق، ومفترق القرارات، اخترقت عالما آخر لعله يشقلب كياني الى ما هو أجمل وأريح وأوسع شهرة ومكانة، وداعا رفيق الرحلة النبيل”. هكذا خلاص، انتهى الزمن، انتهى المكان. في الأمسية التالية كانت ترقد جواري في سيارتي القديمة، لا تزال روائح العبارات المسمومة التي تلفظتها بالأمس تعبق صالونها، ولا تزال اضواء الشوارع الباهتة تتسلل داخلنا مع برودة شهر نوفمبر الحزين، وسيارات الشباب من حولنا تطيح بالهدوء والبساطة وقدرة العقل واستكانة الأرواح. ولا يزال بريق عينيها يتجاوزني في الفراغ المحيط، يتلمس عالمها الجديد حيث انتمت اليه الآن. بريق عينيها اختلف عن السابق، تحول الى لمعان من نوع ولون مختلف. لم تنبس ولم أنبس، كأن هالة الصمت التي دارت مع دوران محرك السيارة شهدت لحظة فريدة في عمر الكون، لحظة نهاية حالة أو كتلة من المعاني والأيام والأماكن تم اجهاضها بتداخل أضواء أكثر زهزهة، وتطاير أفكار سكنت رأسها قادمة من رقائق هاتفها الآي فون الذي لايكف عن الضجيج بسبب استقبال اشعارات الاصدقاء المتهافتين. قطعت السيارة في ذلك المساء الأخير طريقا احتشد بالظلام والصمت وخلق كثيرون يمشون من دون هدى، عيونهم التي تعكسها اضواء الشوارع تبدو باهتة، قلقة، غير راضية كما الحالة في صالون السيارة التي قطعت مساحة من الأرض والزمن غير محددة وغير واضحة. نزلت في مكان اشارت لي فيه ليس المكان المعتاد في كل مرة. لم يكن لدي داخل رأسي مساحة من التركيز أو الرغبة في تبيان خريطته، دفعت السيارة في أعقاب نزولها بسرعة البرق. لا يزال المساء في أوله ندي، والنسمات الرائقة الفريش التي تدخل انفي تتحرش بصدري من دون مردود يصوب مسار العودة الى ذات التراك القديم. منحني الشرود، وصدمة البريق الغامض والكلمات المسمومة قبلها فرصة ذهبية للانعزال عن الكون والوجود. كأن السيارة تمضى وحدها من دون سائق حتى استقرت تحت النافذة بالضبط. أغلقت كل شيء، السيارة، باب المنزل، باب الشقة، المصباح الكهربائي، زماني الذي فات، والذي هو قادم. لم يعد سوى زجاج النافذة الذي استعصى على الغلق، مثلما استعصى النوم المريح على مداهمتي.
أوبرا مصر ، ساحة الإبداع