دائما ما أسمع تلك المقولة المجحفة التي يرددها البعض كثيرا، والتي تقول ( زوجة الأب خذها يا رب ) ولأنني لم أكن أتجاوز السابعة من عمري؛ كنت أراها مقولة ظالمة، لا سيما وأنا أعيش في كنف زوجة أب غاية في الرحمة والعطف والحنان؛ لدرجة أنني تعلَّقت بها أكثر من أمي التي ولدتني!
لم أكن أعرف تفاصيل الطلاق في هذه الفترة البعيدة من عمري، لكنني كنت أعرف أن أمي تنازلت عن حقها في حضانتي لأبي! واكتفت بساعة واحدة من كل أسبوع، ستين دقيقة فقط تراني فيها، وتطمئن على أحوالي! والعجيب أن زوجة أبي الطيبة كانت تسمح لها بالمجيء إلى بيتنا، وزيارتي والجلوس معي طيلة هذه الساعة، ورأيتها بعيني في كل مرَّة ترحب بها، وتستقبلها وكأنها أختها وليست طليقة زوجها، بل وكانت تطمئن على أحوالها، وتقول لها دائما :
– إذا واجهتك أي مشكلة في العمل أو في غير العمل اتصلي بي، وسوف أحلها لكِ على الفور، أنا أعتبرك أختي؛ وأريدك أن تعتبريني كذلك!
وفعلا بحكم كونها موظفة في مركز مرموق في المجلس المحلي، كانت تساعد أمي، وكانت سببا في نقلها من المدرسة النائية التي كانت تعمل فيها إلى مدرسة قريبة من سكنها.
كل أسبوع كانت أمي تأتي لرؤيتي، وتجلس معي ساعة كاملة، وكانت بعض الأمور الغريبة تحدث خلال هذه الساعة، ولم أكن أنتبه لها، ولكن تكرار هذه الأحداث المأساوية أثار في نفسي الخوف والتساؤلات، ففي إحدى المرات سقطت مروحة السقف وتحطمت، والحمد لله لم يكن أسفل منها أي واحد منا، وإلا لوقع ما لا تُحمد عقباه؛ وفي مرة ثانية انفجر جهاز التلفاز واحترق، وكاد أن يتسبب في إشعال حريق في البيت؛ وفي مرة ثالثة زوجة أبي المسكينة سقط على كتفها أحد المصابيح المثبتة في سقف المطبخ، وتهشَّم؛ وأصابها بجرح قطعي بالغ، وسالت دماؤها على البلاط حتى أصبح لونه أحمر من كثرة الدماء!
وتكرَّرت هذه الأمور الغريبة المخيفة، في كل مرة تحضر أمي؛ تقع المصائب، ويتحوَّل البيت إلى مكان منكوب، لدرجة أنني بدأت أكره الساعة التي تحضر فيها ! وسمعت أبي ذات ليلة يخبر زوجته، وهو في شدة الانفعال، ويقول لها:
– لن أنتظر حتى تقع مصيبة أخرى، لن أسمح لتلك المرأة المشؤومة بالدخول عندنا مرة أخرى، ليتني لم أستمع لكلامك عندما طلبتِ مني أن أسمح لها برؤية الولد ..
– حرام عليك تحرم أم من رؤية ابنها، مهما حصل، أرجوك راجع نفسك في هذا القرار أكيد ما يحدث لا علاقة لها به .
في المرة الأخيرة التي رأيت فيها أمي، كنت أبكي، ورغم كل محاولاتها ومحاولات زوجة أبي لتهدئتي لم أكف عن البكاء، لدرجة أنني شعرت أن قلبي سينشق إلى نصفين! لم أستطع أن أكرهها رغم كل ما كان يحدث، وكنت قلقا جدا، وخائفا مما سيقع في هذه المرة، وفي هذه المرة تم نقل أبي إلى المستشفى، إنهم يقولون أنه أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية، كان من الممكن أن يؤدي إلى وفاته! رغم أنه طيلة الأيام الماضية كان سليما معافى!
خرج أبي من المستشفى، وعاد إلى البيت، ولكن أمي لم تعد مرة أخرى، ولم أرها بعد ذلك، وسمعت من فترة أنها ماتت، ولم أحضر جنازتها لا أنا ولا أبي!
وبعد سنوات بينما كانت زوجة أبي الطيبة راقدة في فراشها، من أثر وعكة صحية تمر بها، عثرت صدفة على دفتر مذكراتها، لقد نسيته على المنضدة، رغم أنها كانت دائما تخبئه في صندوق مجوهراتها، وتحكم إغلاق الصندوق عليه!
صدمتني الخطط الشيطانية التي كانت تدبرها لتجعل من اليوم الذي تأتي فيه أمي يوما أسودا مشؤوما! وصدمني أكثر أنها لم تتورَّع عن إصابة نفسها أكثر من مرة، مرة بجرح قطعي في كتفها، ومرة أخرى في كف يدها، كل ذلك لتبدو أمي شيطانة في عيني وفي عيني أبي وفي أعين الجميع! ولم أصدِّق عيني وأنا أقرأ كيف دسَّت حبة الدواء لأبي في طعامه، تلك الحبة التي جعلته يُصاب بذلك الهبوط المفاجئ في الدورة الدموية!
ووجدتني أبكي بحرقة، وأجثو على ركبتي، وأنا أقرأ كيف أنها بواسطة وظيفتها المرموقة أفقدت أمي عملها كمعلمة في وزارة التربية والتعليم، واضطرتها للعمل بعد ذلك كعاملة نظافة في إحدى المستشفيات .