أخبار عاجلةملفات وحوارات

حيدر حيدر رحيل صاحب الوليمة (1)

إغواء لحيدر حيدر بين تنوّع السرود و جمالية الخط

اِعمر سطايحي – الجزائر

يقينا أن العلوم والفنون، لم تعد حبيسة حدود جغرافية وجنسيات منتجيها، في عصر يوصف بالتدفّق المعرفي وسرعة انتقال ووصول المعارف، بفضل عولمة الإتصال، التي أتحاتها التكنولوجيات الحديثة. ومن هذا المنظور سعدت بحصولي على المجموعة القصصية، الموسومة ب :
« إغواء « للكاتب السوري حيدر حيدر . فأرتأيت أن اشتغل عليها نقديا.
فالمجموعة القصصية هذه، صدرت عن ورد للطابعة و النشر و التوزيع بسوريا / دمشق في سنة 2005م. و تضم ثماني عشرة قصة قصيرة، عالج من خلالها الكاتب، مواضيع جديرة بالطّرح و الدراسة، منها :
– الصيد في البحر و ما يخلّفه من كوارث إيكولوجية.
– المهرّبون و الصيّادون في خانة واحدة.
– العودة إلى الأصل فضيلة.
– روحانيات.
– بوائق :البغاء، الجنس، السُكر.
– مآلات الزواج القصري.
– لايصلح العطّار ما أفسده الدّهر.
في حين أفرد الكاتب عشر قصص تحت مسمى عريض (تموّجات)، وعناوين جزئية للقصص، التي دارت أحداثها إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، و تحديدا في مخيم تل الزعتر، إذ حصلت إشتباكات مسلحة بين القوات اللبنانية المسيحية و المقاومين الفلسطينيين، ثم النزوح نحو الجنوب.
أعود أدراجي بعد هذه التوطئة، لأشرع في قراءتي النقدية. ولعل القارئ المتطلّع إلى سبر أغوار القصص القصيرة للمجموعة « إغواء «، أن يستحضر جملة من العوامل، سواء أكانت تاريخية، سياسية، إجتماعية، أم ميتولوجيا، نظرا لخصوصيات هذا الجنس الأدبي، بدءا من العنونة التي أفردت لها دراسات تعرف بسميائية العنوان ( تيترولوجيا). على أن أكتفي بوقفة عند عنوان المجموعة (إغواء)، و هو عنوان نكرة، تفيد العموم، بخلاف المعرفة التي تدل على الخصوص. هذا على اعتبار أن العنوان هو مجموعة علامات لسانية، تتصدر النص. على حد تعبير «لوهيوك».
كما أن العنوان لا ينبغي أن يكون استهلاكيا و كأنه قائمة الأطعمة. على حد قول «لوستينغ».
و تمنيت لو كان العنوان بصيغة الجمع «إغواءات» ما دامت أحداث القصص كلها إغواءات؛ فالبحر و البراري يغويان الصيادين، والأنثى تغوي الذكر و ساحات المعارك تغوي المحاربين…
وفي وقفتي الثانية، أشير إلى ظاهرة التمازج بين فنّين عريقين، هما القصّ والرسم بالكلمات، لما بينهما من تداخل عجيب، بين تشكيل اللوحة برموزها وألوانها وخطوطها وبين الكلمات في نسقها الرمزي و تراكيبها المشبعة بعمق الدلالات ووميض المعاني والإيحاءات؛ الأمر الذي يعني وجود عطاء وفير ومتميز للكاتب حيدر حيدر، ما دام يملك دواعي القص المحبوك ووسائل التنوّع الأسلوبي.
ذلك أن البنية السردية جاءت لتمرير الخطاب بطريقة غاية في الاقتصاد والإيجاز وحتى الإضمار. وقد وضعنا الكاتب أمام مشاهدة تخيّلية روحانية، بمخاطبته الأحاسيس والوجدان. كل ذلك ينمّ عن قدرة عالية على إنتاج كتابة قوية، من غير تكلّف ولا حشي الكلام، خاصة وأن لغته – ها هنا – تشعّ فصاحة وبيانا وشاعرية.
و بالإنتقال إلى المكوّنات السردية، فهناك تركيب فنّي، تتقابل فيه مجموعة من القيم والأفكار والمواقف الواجدة لتوتر حكائي؛ ناتج عن صراع الشخصيات، الأمر الذي أدى إلى تصدّع في البنية الاجتماعية، وهو ما يستشف من متون القصص، من أن أزمتنا لا هي سياسية ولا إقتصادية، بقدر ما هي أزمة أخلاقية.
ومن المكونات السردية:
– الفضاء: الذي نعني به الحيز المكاني لمسرح الأحداث، وقد لعب دورا بارزا ومهما في البناء الجمالي للقصص. فاختيار الأمكنة خدم الأحداث و دفع بها إلى التشابك، كما وفر عنصر المفاجآة والدّهشة ( البناء الدرامي ). هذه الأماكن تمثلت في البحر، البراري، حفلات الأعراس، الرحلات، السهرات الجماعية، الصحراء، ميادين المقاومة…
وهي أماكن ممتدة، رحبة ووعرة، ساعدت على نمو الأحداث والدفع بها نحو الديمومة و الاستمرارية.
– الرؤية السردية: عندما يكون السارد شخصية أساسية و فاعلة، تتأتى له المعرفة العميقة بطبائع الشخوص القصصية، في أبعادها النفسية.
وهو مايستخلصه الدارس لمجموعة «إغواء». لكن هذا لا يعني أن الكاتب من النوع الذي يفضّل هيمنة السارد، فهو لا يمارس وصاية على شخصيات قصصه، رغم حضوره كمراقب ومتابع لحركية الأحداث.
– التبئير بنوعيه ( داخلي و خارجي ) :
ويقصد بهذه التقنية، أحد الوجهين؛ إما أن يسند الكاتب السرد إلى الشخصية، فيحكي بضمير المتكلم، وإما أن ينوب عنها بضمير الغائب. فأيّ التبئيرين آثر الكاتب في قصصه ؟
هناك خمس قصص، السرد فيها بتقنية التبئير الداخلي، أي أن البطل هو السارد بضمير المتكلم، كما في ( التطهّر، البومة الذهبية، الإنسحاب، المسافات والجوع ).
فالقاص لم يمارس وصايته على البطل، بل منحه حيزا من حرية التعبير عن مواقفه و رؤاه ومشاعره.. وهنا تحضر مصداقية السرد، و من النماذج نورد من قصة «التطهّر» : ومع أنني كنت أشتهي موته والخلاص منه في عالم اليقظة، إلا أن تلك الأحلام العجيبة كانت تشير إلى النقيض.
ومن قصة «البومة الذهبية» : كنا أربعة من الصيادين نفترش الأرض العراء.
في حين كان الكاتب يزاوج بين التبئيرين الداخلي و الخارجي، فمرة يتولى السرد بنفسه، و أخرى يترك السرد للشخصية القصصية. و هذا في ثلاث عشرة قصة.
ومن نماذج التبئير الخارجي ، الأقل مصداقية جاء في قصة «إغواء» على لسان السارد: هي لم تفسح وقتا، بعد أن رمت معطفها ومحفظتها بفوضة وجودية (السرد بضمير الغائب). و مثله كثير في قصص (دنس، ميلانة، أصداء، اعتراض، الشبكة والليلة الثانية بعد الألف).
– التواتر الزمني: نعني بهذه التقنية السردية، المسافات الزمنية بين الحدث والحكي؛ فالحدث الذي يستغرق خمس دقائق، ينقله السارد حكيا في ثوان. وهذه التقنية حاضرة بقوة وكثرة في مجموعة «إغواء» كهذه العيّنية من قصة «الإنسحاب» : (الساعة الآن تشير إلى العاشرة مساء، لقد صدرت الأوامر بالانسحاب عن طريق الجبل، خمسون مقاتلا اتجهنا شرق المعسكر و شققنا طريقنا عبر الوادي، كنا نجتاز الصخور…) إننا نثب بسرعة فهود مطاردة، تحت هذا الليل المطارِد. فهذا الحدث الذي استغرق ليلة كاملة، يتقلص زمنه إلى دقيقة أو أقل عند الحكي.

رابط تحميل الملف كاملًا

أوبرا مصر /ملفات وحوارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى