ساحة الإبداع

د. لمياء موسى تكتب ندى وآلهةُ القرية

ندى وآلهةُ القرية

كانت القرية، في عيون الغرباء، قطعة من جنةٍ أُنزِلت على الأرض. تمتدّ الخضرة فيها على مدّ النظر، تُعانق السماء من الأفق البعيد، كأن الأرض تهدهد نفسها بحضنٍ من النور والنسيم. الأنهار الصغيرة تهمس، والزهور بألوانها البهيجة ترقص في صمت، والعصافير تُقيم حفلات صباحية لا تُملّ. في المساء، كانت ندى تنظر إلى السماء وتظنّ أن النجوم توزّع ضحكاتها على من يعرف كيف يُصغي للّيل.

لكنها حين بلغت السادسة عشرة، لم تنخدع بجمال المكان. كانت ترى بأمّ قلبها ما لا يراه غيرها: خلف وجه القرية المضيء، تكمن أرواح غارقة في الظلام. قريةٌ تُقدّس ما ورثته من عادات، لا تسأل عن صِحّتها، ولا تجرؤ على النظر في وجه الحقيقة. في كل بيت، تمثالٌ غير مرئيّ، يُعبَد بلا سجود. أسماء كثيرة، ومظاهر مختلفة، لكنّهم جميعًا آلهة: العادات، الخوف، الخضوع، الصمت، و”ما يقوله الناس”.

منذ نعومة أظفارها، لم تكن تشبههم. تسأل كثيرًا، تُحدّق في الأشياء طويلاً، وتكره أن تُقاد بلا فهم. إذا قيل لها: “هكذا وجدنا آباءنا”، ردّت: “لكن من قال إن آباءنا لم يخطئوا؟” كانت كلماتها تُزلزل سكون البيوت، تُغضب الكبار، وتثير سخرية الصغار. يقولون عنها: “غريبة الأطوار، لولا أن القابلة (وداد) شهدت ولادتها في بيتنا، لقلنا إنها لا تنتمي إلينا.”

في صغرها، كانت تُسكت. وفي مراهقتها، كانت تُهمل. وفي شبابها، قررت ألا تصمت. بدأت ترى كيف تُقيّد الفتيات بسلاسل غير مرئية، كيف تُقدّم الأحلام قربانًا للرضا المجتمعي، وكيف يُطلب من الإناث أن يكنّ ظلًّا لا صوت له. رأت بعينها أُمّها تُقصي عقلها طيلة حياتها لتحظى برضا زوجٍ لا يُنصت، وجدّتها تُبرّر الظلم بحكمة “الأولين”، وخالتها تُخفي دموعها تحت وشاح العادات.

لكنها لم تُخلق لتُكرّر ما رأت. لم تكن ثائرة لأجل الثورة، بل محبة للحقّ، عاشقة للحرية، باحثة عن الله الذي لا يُشبه آلهة قريتهم. كانت تقول في نفسها: “أعبد إلهًا لا يخاف من السؤال، لا يُقفل الأبواب في وجه من يفكر، ولا يُعاقب على حبّ العقل.”

ذات مساء، بعد جدال طويل مع عمّها الذي حاول إسكاتها بزجرٍ وتهديد، جلست قرب البحيرة، تحدّق في وجه الماء. قالت بهدوء يشبه صراخًا مكتومًا: “أيها الماء، لماذا لا يرون أنهم عطاشى؟ لماذا يعبدون صدى أصواتهم، ويُصفّقون للفراغ؟”

فكيف لها أن تكون أعزّ صديقاتها فتاةً يتيمة، فقيرة، تربّيها خالة بسيطة تُدعى سنية؟
كيف لها أن تحبها كل هذا الحب؟ أن تجد في صحبتها راحة لا تجدها في دارها؟ أن تترك أطباق البطّ المُترف والأوزّ المذبوح في بيت العائلة الكبير، لتأكل بشهية من صحن بامية باردة على حصير الخالة سنية، وتقول إنه الألذ والأشهى؟

كم نصحناها، كم عاتبناها، بل كم عاقبناها، علّها تبتعد عن هدى وتصاحب بنات العائلات “المعتبرة”! لكنها لم تكن تستجيب، كانت تزداد تمسّكًا، عنادًا، وولاءً.
ذهبنا مرارًا إلى بيت الخالة سنية، غاضبين، نطلب منهما أن يصدّاها، أن يقطعا علاقتهما بها، لكن الفتاة لا تردّ إلا بالصمت، أو بالابتسامة، أو بالعودة إلى صديقتها.

وذات مساء، حين بدأت هدى تبتعد وتغلق أبوابها، دار بينهما هذا الحوار:

هدى، وقد احمرّت عيناها من الدموع:
– لا تأتي لزيارتنا مجددًا يا ندى.
فاستغربت، وسألتها:
– ولماذا؟
– والدتك جاءت غاضبة علينا… قالت أشياء كثيرة.

سكتت لحظة، ثم قالت بحزم:
– نحن أصدقاء منذ أن وعينا على الدنيا. لن أتخلى عنك أبدًا… إلا إذا كنتِ أنتِ لا ترغبين في صداقتي.
أجفلت هدى باكية، فلم تجد جوابًا.

فمدّت يديها، واحتضنتها بحرارة، وقالت لها:
– سنظل معًا طوال العمر… لا تهتمي لهم.

بهذا العناد النقيّ، وبهذا الإصرار الجميل، رفعت مطرقتها الصغيرة، وضربت بها أحد أصنام قريتها:
صنم “العنجهية”، و”النفخة الكذابة”، و”الفوارق المصطنعة بين البشر”.
كيف لفتاة كافرة بعادات القرية وتقاليدها، أن تجرؤ على ارتكاب جريمة المشاعر تلك؟ أن تشتري هدية متواضعة من مصروفها الشخصي، وتذهب لجبر خاطر الخالة نعمة وابنها محمد، بعدما طُردا من بيوت العائلة شر طردة؟
كيف لها أن ترفع رأسها عاليًا وتمشي إلى بيت “الخادمة” التي أُهينت، لا لذنبٍ اقترفته، بل لأن قلب ابنها تجرأ أن يخفق لها؟
وكيف لمحمد، ابن بائع الخضار البسيط، أن يحب؟ بل أن يتجاوز حدود طبقةٍ لا ترحم، ويخطبها من أبيها؟
نسي – أو تجاهل – أن دماءنا “الرفيعة”، كما يزعمون، لا تختلط بدماء الفقراء!
ولم يكن العقاب قاسيًا عليه فحسب، بل على أمّه أيضًا. أُهينت، وطُردت، وأُهدر كرامتهما معًا، باسم الكِبر المصقول بأوهام النسب.

طرقت الباب.
فتحت الخالة نعمة، وعلى وجهها دهشة ممزوجة بالخوف:
– ندى! ما الذي جاء بكِ يا ابنتي؟ سيغضبون… سأذهب لأنادي محمد.

دخل محمد الغرفة متثاقلاً، مطأطئ الرأس، منكسر الخاطر، صامت القلب والعين.
قالت بصوتٍ خفيض:
– جئت اليوم لأعتذر لكما، يا خالتي… عن كل ما بدر من أهلي. أرجو أن تعفوا وتصفحوا.

ردّت الخالة، بعين دامعة:
– وما ذنبكِ أنتِ، يا ابنتي؟

أما محمد، فما زال صامتًا، ينظر إلى الأرض.
أرادت كسر الحزن الساكن، فقالت له بلهجة مرحة:
– يا محمد، أنا لا أليق بك! أنت في سنتك الأخيرة في كلية الهندسة، وتليق بك مهندسة مثلك. أما أنا، فما زلت طالبة في الثانوية… أمامي سنوات طويلة.
ثم أضافت ضاحكة:
– لكني أتنبأ لك بأن تكون من أفضل المهندسين في المحافظة.

حاولت الدعابة أن تجد موطئًا، لكن الصمت ظلّ ثقيلًا.
قال محمد أخيرًا، وهو ما زال شاردًا:
– أنتِ لا تشبهينهم يا ندى… كيف للشياطين أن تلد ملاكًا؟

ابتسمت، ولم تفوّت الفرصة:
– أخطاء جينية، يا محمد.

ضحكت الخالة، رغم الحزن، لكن محمد ظل واجمًا.
قال بعدها بصوتٍ خافت:
– كنت على استعداد أن أنتظركِ عمري كله.

ابتسمت مرة أخرى، وأضافت بمكر طفولي:
– إذن… عمرك طويل جدًا يا محمد!

ابتسمت الخالة نعمة، وبدأ بعض الضوء يتسلل.
قالت أخيرًا:
– انصرفي الآن يا ندى… سيبحثون عنكِ، وقد يُعاقبونك.

وقبل أن تنصرف، وقف محمد يودّعها عند الباب، وقال وهو يحدّق في عينيها لأول مرة:
– ستتلقين اليوم عقابًا على زيارتكِ هذه.

ردّت، بابتسامة عريضة:
– لا بأس… لقد اعتدتُ على العقاب. أنا رجل في ثوب فتاة!

وأدارت ظهرها، وانصرفت.
خطوتها خفيفة، وقلبها راضٍ.
لم تكترث لما ستلقاه، فثمن الكرامة لا يُدفع بالتردد.
بجبرها لخاطر محمد وأمه، رفعت مطرقتها الصغيرة، وضربت بها أحد أصنام القرية:
صنم “أنا أفضل منه”.

هذه الفتاة… لا ندري كيف يعمل عقلها.
جرّبنا معها كل وسائل الردع، من اللين إلى القسوة، من الحرمان إلى التأنيب، ولم يفلح شيء.
كأن عقلها يسير عكس التيار، أو كأن في صدرها ساعة لا تضبطها أعرافنا ولا ترويها كتب آبائنا.

تدّعي – ويا للجرأة – أن الولد مثل البنت!
تقولها بثقة، كأنها تنطق بحقيقة لا تقبل الجدال.
كيف تجرؤ على إنكار الفارق؟ ألا تعلم أن الولد “عِزوة”، سند وامتداد؟ يحمل اسم أبيه، ويزرع جذور الشجرة في الأرض حتى تثمر نسلًا فخورًا!
أما البنت… فنقبل بها على مضض. نحمد الله على قضاء لا راد له، ثم نضع أيدينا على قلوبنا، نترقب مصيرها بخوفٍ دائم.

وحبذا ان تأتي، على هيئة “الغفير حمدان”!
قوية، صلبة، خالية من الدلال.
لكن أن تحمل في ملامحها شيئًا من الأنوثة؟ مجرد لمحة من الجمال؟
فهذا عار يجب التحوّط له.
جميلة؟ إذًا هي مشروع فتنة متنقّل، خطرٌ يستدعي الحراسة، وسبب إضافي لوأد الحرية مبكرًا.

إننا لا نخاف على بناتنا… بل نخاف منهنّ.
وهذا ما لا تفهمه ندى، ولن نفهمه نحن… طالما بقيت هي تحيا بعقلٍ لا يشبهنا.

كيف تسنّى لها أن تُدخل السرور على قلب زوجة عمّها، تلك المسكينة التي تركها زوجها وهام على وجهه ليلة كاملة، لا ندري أين ذهب، فقط لأنها – ويالها من جريمة – أنجبت بنتًا أخرى؟
أي وقاحة في هذا التكرار! أن تأتي بأنثى… ثم تكرر الفعلة!
ألم تتعلم من “خطيئتها” الأولى؟ ألا تخجل من نفسها وهي تُكثر البنات؟
لم يرَ أحدٌ زوجها منذ مساء الولادة، ولا يريد أن يرى وجه طفلته، وكأنها عار نبت من رحم امرأة.

لكنها، التي طالما كسرت أصنام العائلة، ذهبت كعادتها إلى زوجة عمّها.
أحضرت لها الطعام، وألقت عليها من نكاتها ما وسِعها المزاج، تضحك الصغيرة، وتُضحك أمها، وتضحك قلبها المُنكسر.
وفي اليوم السابع، لم تنتظر إذنًا ولا مشورة، أعدّت الموائد، وزيّنت الدار، ودعت العائلة كلّها.

كيف تجرأت؟
الولائم لا تُقام إلا احتفاءً بقدوم الذكور!
أما الإناث، فتكفيهنّ دمعة خجولة وهمسة في زاويةٍ مظلمة، هكذا تعوّدوا، وهكذا ورثوا.

لم تكتفِ بهذا التحدي، بل أسمت الطفلة بنفسها بعدما رفض الأب حتى منحها اسمًا.
ثم وقفت وسط الجمع، تتكلم بلا وجل:
“البنت والولد… كلاهما من آلاء الله على الإنسان، لا فرق بينهما إلا بما يصنعه القلب والعقل. لقد نسيتم دين محمد، وما بقي منه فيكم إلا حركات رياضية تؤدّونها في المساجد، وتجويعٌ تسع ساعات في النهار، ثم رحلات سياحية باسم العمرة والحج، تركضون فيها بين الصفَا والمروة كمن يتمشّى في سوق، وتحصلون بعدها على لقب حاجٍّ يوضع قبل أسمائكم لتُكسبوا هيبة مزيفة.”

وبفعلتها هذه ضربت مطرقتها صنمًا
(وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم).”

وأما الطامّة الكبرى، فهي حين أعلنت – دون خجل – أنها تريد أن تحب أولًا، ثم تختار من تُحب زوجًا لها.
كادت السماوات أن تتفطر من قولها، وكادت الجبال أن تنهار هدًّا!
أيّ فتنة جاءت بها هذه الصبيّة؟
كيف تجرؤ على التلفّظ بتلك الكلمة المحرّمة؟ الحب!
ألم تعلم أننا لا نحب، نحن نتزوج كما تتزاوج الدواجن والماعز؟
نتناسل كي نبقي دمنا “النقيّ” متداولًا بيننا، فلا يتسلل إليه دم غريب أو نسب غريب.

تقدّمت، وقد اشتعل في صوتها حريقُ قرونٍ من الصمت، وقالت لهم:
“إني أرى قبوركم في الجهة الغربية، أما بيوتكم، الممتدة شرقًا، فليست ببعيدة عن تلك القبور؛ كلاهما موحش، خاوٍ من الحب، من الود، من العِشرة بالمعروف.
أنتم لا تحيون، أنتم فقط تتوالدون.”
ثم أردفت وقد علا وجهها نور الإيمان الحقيقي:
“الحبّ، أيها السادة، هو أسمى ما عُرف في الوجود، هو ذروة المشاعر الإنسانية، هو ما يجعل الدنيا جنة، وما غيابه إلا جحيم مقيم.”

هاج الجمع وماج، وقالوا في غيظ مكتوم:
“حب؟ عن أي حب تهذي هذه المجنونة؟
فتّشنا في قلوبنا، قلبًا قلبًا، فلم نجد شيئًا مما تدّعي.
لا ورد، لا شوق، لا دفء…
لم نجد إلا البطين الأيمن والأيسر، والأورطي الذي يوزّع الدم.
أما ما تُسميه حبًا… فلا وجود له فينا.”

لكنها ابتسمت، كما تبتسم زهرة في وجه عاصفة، وهمست بثقة:
“ربما لأنكم لا تملكون قلوبًا أصلًا، بل مجرد مضخات صدئة.”

هذه الفتاة… خطرٌ داهم على منظومتنا الراسخة.
فهي لا تملك عقلًا يُروَّض، ولا قلبًا يقتصر على من يستحق — بحسب دفتر التصنيفات العائلي.
تحب الجميع، تُصافح الجميع، تبتسم للجميع، كأن البشر في نظرها سواسية!
تردد بلا خجل: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأكرمكم عند الله أتقاكم.”

أيُّ فكرٍ مدسوس هذا؟ ألا تدري أن الناس درجات، ومقامات، ورتب؟
وأننا، نحن، نرتدي الوجوه الخشبية حين نخالط العوام، لا بدافع الحذر، بل حفاظًا على الهيبة،
فهيبتنا ليست في الخُلق ولا العلم، بل في الصمت الثقيل، في النظرات الباردة، وفي المسافة التي نزرعها بيننا وبين الناس.

لا بد من إلقائها في نار العُرف قبل أن تأتينا بالعار.
لكننا قوم متحضرون، نعاقب بذكاء.

نارهم لم تكن من لهب، بل من سلسلة طويلة من العقوبات الذكية:
منعوا عنها مصروفها، قاطعوها اجتماعيًا، صادروا كتبها،
وقرروا تحديد مكان إقامتها في جناح البيت المعتم، لا خروج إلا بمرافقة أحد الإخوة.
نظام حماية مشدد، لا لأجلها، بل حماية لهم من عدواها،
فأمثالها تُعدي — تُعدي الأرواح بالنور، والقلوب بالرحمة، والعقول بالسؤال.

فنقبل بها على مضض. نحمد الله على قضاء لا راد له، ثم نضع أيدينا على قلوبنا، نترقب مصيرها بخوفٍ دائم.

وحبذا ان تأتي، على هيئة “الغفير حمدان”!
قوية، صلبة، خالية من الدلال.
لكن أن تحمل في ملامحها شيئًا من الأنوثة؟ مجرد لمحة من الجمال؟
فهذا عار يجب التحوّط له.
جميلة؟ إذًا هي مشروع فتنة متنقّل، خطرٌ يستدعي الحراسة، وسبب إضافي لوأد الحرية مبكرًا.

إننا لا نخاف على بناتنا… بل نخاف منهنّ.
وهذا ما لا تفهمه ندى، ولن نفهمه نحن… طالما بقيت هي تحيا بعقلٍ لا يشبهنا.

كيف تسنّى لها أن تُدخل السرور على قلب زوجة عمّها، تلك المسكينة التي تركها زوجها وهام على وجهه ليلة كاملة، لا ندري أين ذهب، فقط لأنها – ويالها من جريمة – أنجبت بنتًا أخرى؟
أي وقاحة في هذا التكرار! أن تأتي بأنثى… ثم تكرر الفعلة!
ألم تتعلم من “خطيئتها” الأولى؟ ألا تخجل من نفسها وهي تُكثر البنات؟
لم يرَ أحدٌ زوجها منذ مساء الولادة، ولا يريد أن يرى وجه طفلته، وكأنها عار نبت من رحم امرأة.

لكنها، التي طالما كسرت أصنام العائلة، ذهبت كعادتها إلى زوجة عمّها.
أحضرت لها الطعام، وألقت عليها من نكاتها ما وسِعها المزاج، تضحك الصغيرة، وتُضحك أمها، وتضحك قلبها المُنكسر.
وفي اليوم السابع، لم تنتظر إذنًا ولا مشورة، أعدّت الموائد، وزيّنت الدار، ودعت العائلة كلّها.

كيف تجرأت؟
الولائم لا تُقام إلا احتفاءً بقدوم الذكور!
أما الإناث، فتكفيهنّ دمعة خجولة وهمسة في زاويةٍ مظلمة، هكذا تعوّدوا، وهكذا ورثوا.

لم تكتفِ بهذا التحدي، بل أسمت الطفلة بنفسها بعدما رفض الأب حتى منحها اسمًا.
ثم وقفت وسط الجمع، تتكلم بلا وجل:
“البنت والولد… كلاهما من آلاء الله على الإنسان، لا فرق بينهما إلا بما يصنعه القلب والعقل. لقد نسيتم دين محمد، وما بقي منه فيكم إلا حركات رياضية تؤدّونها في المساجد، وتجويعٌ تسع ساعات في النهار، ثم رحلات سياحية باسم العمرة والحج، تركضون فيها بين الصفَا والمروة كمن يتمشّى في سوق، وتحصلون بعدها على لقب حاجٍّ يوضع قبل أسمائكم لتُكسبوا هيبة مزيفة.”

وبفعلتها هذه ضربت مطرقتها صنمًا
(وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم).”

وأما الطامّة الكبرى، فهي حين أعلنت – دون خجل – أنها تريد أن تحب أولًا، ثم تختار من تُحب زوجًا لها.
كادت السماوات أن تتفطر من قولها، وكادت الجبال أن تنهار هدًّا!
أيّ فتنة جاءت بها هذه الصبيّة؟
كيف تجرؤ على التلفّظ بتلك الكلمة المحرّمة؟ الحب!
ألم تعلم أننا لا نحب، نحن نتزوج كما تتزاوج الدواجن والماعز؟
نتناسل كي نبقي دمنا “النقيّ” متداولًا بيننا، فلا يتسلل إليه دم غريب أو نسب غريب.

تقدّمت، وقد اشتعل في صوتها حريقُ قرونٍ من الصمت، وقالت لهم:
“إني أرى قبوركم في الجهة الغربية، أما بيوتكم، الممتدة شرقًا، فليست ببعيدة عن تلك القبور؛ كلاهما موحش، خاوٍ من الحب، من الود، من العِشرة بالمعروف.
أنتم لا تحيون، أنتم فقط تتوالدون.”
ثم أردفت وقد علا وجهها نور الإيمان الحقيقي:
“الحبّ، أيها السادة، هو أسمى ما عُرف في الوجود، هو ذروة المشاعر الإنسانية، هو ما يجعل الدنيا جنة، وما غيابه إلا جحيم مقيم.”

هاج الجمع وماج، وقالوا في غيظ مكتوم:
“حب؟ عن أي حب تهذي هذه المجنونة؟
فتّشنا في قلوبنا، قلبًا قلبًا، فلم نجد شيئًا مما تدّعي.
لا ورد، لا شوق، لا دفء…
لم نجد إلا البطين الأيمن والأيسر، والأورطي الذي يوزّع الدم.
أما ما تُسميه حبًا… فلا وجود له فينا.”

لكنها ابتسمت، كما تبتسم زهرة في وجه عاصفة، وهمست بثقة:
“ربما لأنكم لا تملكون قلوبًا أصلًا، بل مجرد مضخات صدئة.”

هذه الفتاة… خطرٌ داهم على منظومتنا الراسخة.
فهي لا تملك عقلًا يُروَّض، ولا قلبًا يقتصر على من يستحق — بحسب دفتر التصنيفات العائلي.
تحب الجميع، تُصافح الجميع، تبتسم للجميع، كأن البشر في نظرها سواسية!
تردد بلا خجل: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأكرمكم عند الله أتقاكم.”

أيُّ فكرٍ مدسوس هذا؟ ألا تدري أن الناس درجات، ومقامات، ورتب؟
وأننا، نحن، نرتدي الوجوه الخشبية حين نخالط العوام، لا بدافع الحذر، بل حفاظًا على الهيبة،
فهيبتنا ليست في الخُلق ولا العلم، بل في الصمت الثقيل، في النظرات الباردة، وفي المسافة التي نزرعها بيننا وبين الناس.

لا بد من إلقائها في نار العُرف قبل أن تأتينا بالعار.
لكننا قوم متحضرون، نعاقب بذكاء.

نارهم لم تكن من لهب، بل من سلسلة طويلة من العقوبات الذكية:
منعوا عنها مصروفها، قاطعوها اجتماعيًا، صادروا كتبها،
وقرروا تحديد مكان إقامتها في جناح البيت المعتم، لا خروج إلا بمرافقة أحد الإخوة.
نظام حماية مشدد، لا لأجلها، بل حماية لهم من عدواها،
فأمثالها تُعدي — تُعدي الأرواح بالنور، والقلوب بالرحمة، والعقول بالسؤال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى