الأديب القدير جعفر العقيلي يكتب تنازلات قصة قصيرة

تنازُلات
كان «عبّود»• قد انتهى لتوّه من الحديث عن برج «الحَمَل» في برنامجه الشهير، حين استقر المؤشـر على إذاعة محلية لا يعرف «هادي» لها اسماً، فالمحطات التي تبث على الموجة القصـيرة ليست مما تستهويه متابعته، لكن ما عساه يفعل ليتخلص من رتابة قيادة السـيارة في رحلته الطويلة إلى عمله!
ولهذا، شاءت الظروف «الموضوعية» كما يدعوها، أن تعرّفه على مذيعات بلكنات مضحكة، وبرامج بفقرات غبية، وأغنيات بكلمات تافهة، كما كتب ذات يوم على مدونته الإلكترونية.
«على مولود برج الثور أن يتهيأ ليوم مليء بالمشاحنات»، قال قارئُ الحظّ كما لو كان يُسَمّع درساً كُلِّفَ بحفظه أمام معلم الصف. وبعد هنيهاتٍ من موسـيقى غير مستساغة، واصل كأنه يُصلح ما أفسده في عبارته الأولى: «لكن بالإمكان تفادي ذلك». وبعد فاصلٍ آخَر، ختمَ بقوله كأنما يخاطب «هادي» وحدَه من بين جميع المستمعين: «سـيكون اليوم عصـيباً لمواليد الأيام الأولى من شهر أيار، إلّا إذا مشوا الحيط الحيط، وقالوا يا ربي الستر، كما يقول المثل».
«وأمشـي الحيط أيضاً! ألا تكفي تباشـير الصباح وموشّحاته!»، هذا ما تمتم به «هادي» الذي ياما تمنّى لو أن له من اسمه نصـيباً، وفور أن انتهى من تنهيدةِ ضـيق، كان المذياع قد أصابه الخرسُ بكبسةٍ واحدة، لا إرادية.
تعاقبت الأحداث في مخيلته؛ استيقاظه على رنة هاتف لم تنقطع إلّا عندما «فتح الخطَّ»، ليقول له صوتٌ أجشّ كأنما يصـرخ في أذنه: «عفواً يا أخي.. النمرة غلط». كانت الساعة لم تبلغ السادسة والربع من شـروق يومٍ أيلوليّ عكّره الغبارُ وصبغه بلون أصفر يبعث على الكآبة.
ليس ذلك فحسب، فقد اكتشف أن «الحنفية» تنقّطُ طيلةَ الليل دون أن ينتبه إليها أحد من عائلته. «هذه قلّة مسؤولية» قال لزوجته التي أدارت له ظهرها متثائبةً في طريقها إلى المطبخ لتعدّ له «سندويشة» قبل أن تعود أدراجها لتخبره أنْ لا خبز في البيت.
الأكثر بعثاً على الضـيق، أنه حين فكّر بارتداء البذلة «الكُحْليّة» لتمنحه «حضوراً رسمياً» عند لقائه المديرَ العام هذه الظهيرة ليطلب منه زيادة راتبه، وجد ربطة العنق خاصَّتها في الغسـيل، فاكتفى بما جادت به علاّقةُ الملابس!
لم يزعجه أمرُ الماء أو الخبز أو البذلة قدر ما أغاظه أن ردّاً أو توضـيحاً من أيّ نوع لم يبدر عن زوجته، كأنما هو غير موجود. كأنما ما يهمّمه ليس في واردِ انشغالها!
كل ذلك وأكثر توالى على مخيلته وهو يواصل طريقه إلى مكتبه. كان لن يهتم بـ«عبّود» وتنبؤاته لو أن ما حدث له ومعه صباحاً لم يحدث. لكن المقدمات تقود إلى النتائج كما تعلّمَ في «المنطق». أيُعقَل أن يلازمه الضـيقُ طيلةَ نهاره؟! هو أحوج ما يكون إلى الاستعداد النفسـي ليحاورَ مديره في مطالبه «المحقّة»، بل كيف سـيكون بإمكانه إدارة الاجتماع مع فريقه الصغير الذي يتربّص كل عضوٍ فيه به، ليخطّئه أو يثبت له فشل رأيٍ تبنّاه أو اجتهادٍ طرحه لتطوير العمل.. كأنما هم «ضـرائر» له، لا زملاء تجمعهم مصلحة المؤسسة التي يعملون بها.
زفر بشدة ونفخ الهواء بفمه مُصدراً صوتاً طويلَ المدى يشبه الذي يفحّ في الخارج مُنْذراً بزوابع في طريقها لاجتياح المدينة. ثم نفض رأسَه، أو نفضَ الأفكار من رأسه وهو يحادث نفسه: «تصدّقه يا أهبل؟ ما قاله مجرد كلام. منذ متى أصبحت العرافةُ علْماً»، لكنه ما لبث أن استعاد وقائع الصباح مرة أخرى، كأنما يبحث عن مسوّغ ليقنع نفسه بوجاهة توقّعات «عبّود».
فورئذٍ، أسعفته الذاكرة في استحضار تقريرٍ ينطوي على قدْر من العلمية جاء فيه أن مواليد البرج نفسه يتقاطعون في بعض السمات الشخصـية، وأن طرائق تفكيرهم متقاربة، وأنّ لكلّ برج مساراً فلكياً يمكن من خلال تتبعه توقّع مزاج الشخصـية وردود فعلها إزاء المواقف المتشابهة.
نَدَتْ عن وجهه علامةٌ تشـي بعدم الرضا، وفضّل حينها لو أن «نومةً راحت عليه»، وغاب عن عمله. ماذا كان يجري؟ على الأرجح أن شـيئاً لن يتغير. سـيمضـي اليوم كما مضـى غيره، وسـيتصل «هادي» بأحد زملائه هاتفياً ليخبره عند الظهيرة أنه متوعك ولا يمكنه المجيء. وسـينعقد اجتماعُ فريقه من دونه، وربما يتأجل إلى يوم غدٍ، فلا شـيء فيه يتطلب صفةَ الاستعجال. أما لقاؤه بالمدير فربما أن إرجاءه إلى زمن آخر مما قد يفيده.
«كل تأخيرة فيها خِيْرة»، هكذا قال لنفسه مقنعاً إياها بصواب الاتجاه الذي اتخذه تفكيره، فالمدير منشغل هذه الآونة في مسائل الميزانية العمومية للمؤسسة، ولن ينْصت إليه كما يأمل، لهذا السبب على الأقل. أما بعد أسبوع مثلاً، فسـيكون موقفه أقوى.
هزّ رأسه مطمئناً إلى ما انتهى إليه، لكن مما أصابَ مزاجه في مقتلٍ من جديد، تُذَكُّره أنه في حقيقة الأمر، في طريقه إلى العمل! ورغم الحجج التي ساقها قبل قليل، إلّا أنه لم يمتلك ما يكفي من الشجاعة ليدير المقود عائداً إلى بيته، أو إن شاء، ذاهباً نحو مقهى يعدّل فيه مزاجه المشوّش بـ«نَفَس أرجيلة» وكأسٍ من الشاي.
وما دام الأمرُ يسـير على هذا النحو، قرر «هادي» أن يتجنب كل ما يثير الأعصاب خلال يومه. فلا يريد أن ترافقه الكآبةُ في العمل، ولا أن يصطحبها إلى البيت عند عودته، ذلك أنّ «اللّي فيه مكَفّيه» كما يقال في العادة، فكيف وزوجته متبرّمة من الدرجة الأولى، وأبناؤه «كثيرو غَلَبة» من طرازٍ رفيع!
هذا ما دفعه إلى عدم خوض نقاش حدّي مع زملائه خلال الاجتماع الذي انعقد فعلاً، رغم ما ذهب إليه بعضهم من اقتراحاتٍ لم تلقَ إعجابه بشأن تطوير العمل. وقد غالبَ الكلام غيرَ مرة وبلَعَهُ غيرَ نادمٍ ليحبط ما خطّط له «عبّود».
وعندما حان وقتُ مقابلة المدير، وجد أمامه سحنةً عابسة حدسَ أن صاحبها مهيأٌ للإغماء إن سمع كلمة تتعلق بزيادة الراتب. لذا «أخذها من قصـيرها»، وقال للمدير إنه يتفهم وضع المؤسسة، وإن زيارته هذه ليست إلّا للتحية، أما مطلبه القديم الجديد بشأن تحسـين وضعه، فربما يُناقَش في مقبل الأيام «إن كان ذلك ممكناً».
نجح «هادي» في تفادي كل ما اعتقد أنه قد يعكّر مزاجه في العمل، ليقطع الطريق على «عبّود» ويغيّر من مآلات توقّعاته. وفي طريق عودته، بدا له أن مشاعره تجاه يومه «محايدة».
وصل إلى البيت، فوجد أبناءه يتحلّقون حول طاولة الطعام، تذكّر عندئذٍ أنه لم يَشْتَرِ خبزاً كما أوصته زوجته التي وَدَّ لو يسمع منها عبارة «يعطيك العافية». اتّجه إلى الحمّام ليغسل يديه، فاغتمّ لصوت الماء الذي تتابعت قطراته برتابة قاتلة من الحنفية. وحين لاحت منه نظرة إلى سلّة الغسـيل لمحَ ربطة العنق ملقاة بلا اكتراث في وسطِها.
خرج «هادي» من الحمّام مغتاظاً، وقد أدرك أن «تقْيَتَهُ» والحيطان التي سايرها «طلباً للستر»، لم تخلّصه من براثن ما توقّعه «عبّود» له صباحاً.. فما كان أمامه سوى أن يقفل باب غرفة النوم على نفسه ويلقي رأسه بين كفّيه قبل أن يجهش في بكاء طويل.