من جهاز اللاسلكي الذي يحمله؛ جاءه الأمر بالبحث عن المجنون الذي هرب منذ دقائق من سيارة تابعة لمستشفى المجانين .
(يرتدي ملابس عادية عبارة عن قميص وبنطلون، في منتصف عقده الثالث، ومن المؤكد أنه لا يزال في محيط طريق كورنيش النيل؛ والحديقة العامة، ومعهد معلمي التربية الخاصة لذوي الإعاقة. )
ابتسم وهو يدخل الحديقة، والتي كانت مزدحمة بالناس في ذلك الوقت من النهار؛ وقال في نفسه متعجبا :
– كيف سأجده وسط كل هؤلاء البشر ؟!
أخذ يتفحص الوجوه في محاولة لاكتشافه، وأخيرا وقع بصره عليه، كان يجلس وحيدا يتأمل ظله الممدود أمامه؛ فجلس بجانبه، وحاول أن يدير معه أي حوار حتى مجيء زملائه من رجال الأمن لمساعدته؛ فقال له :
– يا صديقي ما بك تبدو حزينا؟!
رفع الشاب رأسه، والتفت إليه؛ وبمنتهى اليأس قال له :
– كيف لا أحزن، وقد فقدت اليوم آخر فرصة لي لتحقيق حلم حياتي !
– حلم حياتك، كيف ؟!
– علمت منذ قليل برسوبي في اختبار المعهد ( قال ذلك وهو يشير ناحية المعهد القريب )، ضاع تعب سنتين من عمري في المذاكرة؛ وحضور المحاضرات، كان حلم حياتي أن أنجح، وأنال هذه الشهادة، التي كانت ستمكنني من السفر.
فرح رجل الأمن؛ إذ استطاع أن يفتح حوارا معه، وبعد دقائق سيصل زملاؤه؛ ويساعدونه في تقييده؛ وتنتهي المهمة، ولكي يضمن بقاء الشاب في مكانه؛ قال له :
– السفر، عندك حق تفكر في السفر؛ والهروب من هذا البلد الذي لا يُقدِّر العباقرة أمثالك !
ابتسم الشاب؛ ورفع رأسه؛ وقال بثقة :
– العباقرة، والله العظيم أنا كنت أحق واحد بالنجاح، لولا الواسطة والمجاملات، أنا أمتلك قدرات خاصة !
– قدرات خاصة، أكيد .. .. أكيد !!
– يبدو أنك لا تصدقني، انظر .. .. انظر إلى ذلك الشاب وتلك الفتاة، في الركن البعيد هناك، هل تعرف ما يدور بينهما ؟
– أكيد لا، فالمسافة بيني وبينهما كبيرة جدا !
– أنا أسمع كلامهما، وأعرف ما يدور بينهما .
– معقول ؟
– الشاب والفتاة بينهما علاقة حب، ولكن عندما تقدَّم لطلب يدها؛ فوجئ برفض أهلها، بل وقرر أهلها تزويجها من ابن عمها !
– سبحان الله، فعلا يبدو لي أنهما على علاقة غرامية، لدرجة أنني ظننتهما متزوجين من شدة التصاقهما ببعض!
– المشكلة أن بينهما عقد زواج عرفي، لا يعلم عنه أحد، وبسبب رفض أهلها، البنت أحضرت قارورة سم، وتريد أن تشرب منها؛ والشاب يقول لها أنه لن يستطيع العيش بدونها لحظة واحدة؛ ولذلك سيشرب السم معها !
– ياه، البنت في يدها زجاجة عصير فعلا، والشاب يحاول أن ينزعها منها، كنت أظنه طماعا ويريد أن يشرب كل العصير !
– وهناك في الركن الآخر من الحديقة، هل ترى ذلك الشاب الأسمر الذي يحدِّث نفسه كالمجنون؟!
– أين .. .. مجنون؟ صحيح .. .. يبدو أنه يحدِّث نفسه بالفعل !
– إنه يائس من حياته، وقرر الانتحار !
– معقول، هو أيضا يريد أن يموت، لكنه في ريعان شبابه !!
– ألا تراه وهو ينظر للسماء؛ ألا تسمعه وهو يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يسامحه ؟!
والله أكاد أبكي مما يقوله .
– تكاد تبكي .. .. وماذا يقول ؟!
– يقول يا رب خلقتني لأعيش؛ وفتحت لي كل أبواب الرزق، لكن كل من حولي أغلقوا كل هذه الأبواب في وجهي، والحياة أصبحت صعبة جدا يا رب فسامحني !
أخيرا وصل اثنان من رجال الأمن؛ بمجرد رؤيتهما؛ أخرج القيد الحديدي من ملابسه؛ وقيَّد يدا الشاب الذي ألجمته المفاجأة !
وأثناء خروجهم من الحديقة، سمع الجميع صراخا شديدا وتجمهر الناس في الركن البعيد من الحديقة حول الشاب والفتاة، بعد أن سقطا على الأرض بمجرد أن شربا كل ما في القارورة من السم !
في نفس الوقت، سمعوا صراخا أشد قادما من ناحية الكورنيش، وتجمهرت مجموعة أخرى من الناس في المكان الذي ألقى فيه الشاب الأسمر بنفسه في مياه النيل .