أخبار عاجلةدراسات ومقالات

د. حسين عبد البصير يكتب إشكالية الصراع بين الشرق والغرب

في رواية "بنات بالتيمور" للروائي المصري محمد عبد الحافظ ناصف

تدخل رواية “بنات بالتيمور” للكاتب المصري محمد عبد الحافظ ناصف في إطار الروايات التي تعالج قصة الصراع الأبدي الدائر بين الشرق والغرب منذ فجر الرواية العربية وإلى الآن. وتدور أحداثها بين مدن ثلاث. وهي مدينة بالتيمور، أشهر وأهم مدن ولاية ميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، والقريبة من مدينة واشنطن دي سي العاصمة الأمريكية المعروفة، ومدينة القاهرة، العاصمة المصرية العتيقة، ومدينة المحلة الكبرى، المدينة الإقليمية الصغيرة في محافظة الغربية في وسط دلتا النيل المصرية.


تقوم بنية الرواية على إذكاء الصراعات وتعدد مستوياتها ودلالاتها داخل عمق النص الأدبي. ويتصدر مشهدية وسردية الرواية بطلان وهما فاروق وحسن. ويحدث أحيانًا بعض التماهي بين بطل الماضي وبطل الحاضر (والكاتب). ونرى معظم الأحداث والشخصيات من خلال ارتباطهم بهما، ومن خلال رؤية الرواي العليم المسيطر على كل الأحداث في أربعين فصلاً، هي جل بناء العمل الروائي. وجاء الفصل الأخير منها على شكل إهداء من الكاتب إلى شخصية فاروق، والذي يحبه جدًا، والذي يتمنى أن يكون مثله، غير أنه لا يستطيع. قدما بطلا الرواية، فاروق وحسن (والكاتب)، من المحلة الكبرى إلى بالتيمور في ظروف مغايرة، وفي زمن مختلف، بهدف مختلف ذلك الذي ترك كل منهما مصر من أجله إلى فضاء الولايات المتحدة الأمريكية الفسيح. تركز الرواية على التحديات والصعوبات التي يواجهها فاروق، المصري المغترب الغارق منذ سنوات عدة في الولايات المتحدة الأمريكية ذات الأجواء الباردة، والذي يبحث جاهدًا لبناته عن الأمان وسط الكثير من الصعوبات التي تواجه الإنسان المصري الشرقي في الغرب الأمريكي القاسي. وكإنسان مصري عربي مهاجر وكزوج وكأب، فقد تحمل بكل الحب والصبر والمعاناة تبعات قراره بالهجرة الأبدية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وتقدم الرواية جاهدة المجتمع الأمريكي بكل ما له وعليه. وتذكر سبب هجرة البطل فاروق من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حين خاف من ملاحقة الأمن له بعد القبض على عدد من زملائه، وبعد أن شعر بأن هناك عيونًا غير ظاهرة تلاحقه في كل مكان يذهب إليه؛ لذا فقد قرر الخروج الآمن من مصر، بعد أن شجعته على ذلك زوجته سنية.
عند فاروق ولد واحد اسمه رضوان، وثلاث بنات. وهن “إيمان”، و”سناء”، اللتان ما تزالان تدرسان بالجامعة، والابنة الكبرى “ياسمين” التي تخطى عمرها الثلاثين عامًا. ومن هنا جاء صراع فاروق الأبدي المزلزل له بشدة؛ بسبب نتيجة تأخر سن زواج ابنته الكبرى، وقلقه أن يكون نفس المصير هو مصيرالبنتين الأصغر سنًا؛ لذا فإن تأخر سن زواج بناته في زمن الرواية ومستقبلاً هو أزمته الحقيقية. والغريب في الموضوع، والذي يزيد الأمر تعقيدًا، هو رفضه ألا يزوج بناته إلا من مصري. ويعد هذا الشرط الصعب هو أحد أبرز أسباب أزمة ذلك الأب المصري التعيس في أمريكا.
في وطنه البديل الجديد، الولايات المتحدة الأمريكية، اشتد الصراع داخل نفس فاروق، وحاول الغلق على أولاده؛ مخافة أن يتأثروا بعادات المجتمع الأمريكي الغريبة عن المجتمعات العربية؛ وذلك حتى يحافظ عليهم بقدر الإمكان. ويعاني ذلك المهاجر العربي من معظم الأشياء وبشدة وعلى مستويات متنوعة ومتعددة داخل المجتمع الأمريكي. ولعل أبرز أنواع تلك المعاناة التي يكتوي بنارها ليل نهار هو صراعه الداخلي مع ذاته وأسرته؛ بسبب صرامته في تربية أولاده وخوفه الشديد عليهم من الذوبان في عادات المجتمع الأمريكي المغايرة للعادات المصرية.
تعد شخصية حسن القادمة من مصر هي الشخصية المقابلة والمفارقة لفاروق، والنسخة الأحدث منه، والتي تحب فاروق وتختلف معه، والتي تملك قرارها ومصيرها، ولها القدرة على الاختيار، وليس الاذعان والندم والمعاناة مثلما يحدث مع فاروق. تعمق الرواية من الصراع بين حسن وذاته ومعاناته وخوفه من السفر حتى لا يفقد أباه المريض، عبد الرحمن، وتوضح بجلاء معاناة أهل المريض، خصوصًا أمه، السيدة الصابرة فتحية. وفي النهاية، لم يجد مفرًا من السفر إلى أمريكا. ووصل حسن إلى جامعة ميرلاند بمدينة بالتيمور، كواحد من أحد المعلمين المصريين المبعوثين من مصر للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة ستة أشهر. لقد اضطر حسن إلى ترك أسرته في المحلة الكبرى، خصوصًا أباه المريض، عبد الرحمن، بعد أن حاول مرارًا أن يرجئ سفره، لكن باءت كل محاولاته بالفشل. ومن خلال حسن وما يصادفه في الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث وشخصيات ومن خلال عين الرواي العليم، نتعرف إلى شخصيات عدة سواء في مصر أو في الولايات المتحدة الأمريكية قدمها الروائي بعينه الراصدة والمبدعة والملمة بكل التفاصيل.
في الولايات المتحدة الأمريكية، زاد تعلق الكثيرين بحسن، خصوصًا طالبة الفنون الجميلة ليدجيا. وحاول حسن الاندماج في مجتمعه الجديد والتعبير عن نفسه فيه، فنشر قصيدة أولى له باللغة الإنجليزية بجريدة الجامعة عن هذه البنت الأمريكية التي تركاها والداها المنحرفان قبل أن تصل إلى سن الرشد، وهو سن الستة عشر عامًا. يرى حسن أمريكا برؤية مطابقة لكل ما يؤمن به سكان العالم الثالث. ويصفها بأنها مثل الحذاء الثقيل الذي تدوس به عليهم من أجل مصلحتها ومصلحة أصدقائها. ويدين حروبها وإبادتها للهنود الحمر. وفي سياق السرد الروائي، ذكر الكاتب بعض الأمور السياسية التي رفضها أو اختلف معها سواء في مصر أو الولايات المتحدة الأمريكية مثل سياسة الرئيس محمد أنور السادات في التعامل مع إسرائيل، وكذلك اليسار المصري، ورأيه في الإخوان المسلمين، وعلق الكاتب على الحرية الجنسية في أمريكا، وأشار إلى الكثير من معاناة المصريين والعرب في بلاد الغرب الأمريكية.
يعد الصراع مع الآخر الأمريكي أهم وأبرز الإشكاليات التي تبرزها الرواية على الكثير من صفحاتها، مثل العنصرية التي يتعرض لها العرب هناك، مثلما حدث مع فاروق في بداية عمله بها، والعنصرية ضد كل ما هو عربي من قبل بعض الأمريكيين العنصريين، وكذلك من بعض الممارسات العنصرية داخل الحرم الجامعي، مثل تعليق بعض الملصقات المسيئة للبنات المسلمات المحجبات على الرغم من أن أمريكا تذكر دومًا أنها تراعي احترام القانون وتحترم الأقليات. ويوظف الكاتب الزمن كلعبة دالة لها أدواتها وصراعاتها الخاصة في أكثر من موضع من هذه الرواية الفاتنة. ويظهر كذلك في الرواية الصراع المصريين الأزلي في مصر مع العادات والتقاليد، ويبرز أيضًا الصراع الحضاري المتنامي بين الشرق والغرب.
جاءت لغة الرواية في شكل أدبي راقٍ بسيط وعميق ودال معًا. والحوار مكثف وكاشف ومعبر. وتم رسم وتقديم الشخصيات بكل أبعادها بمهارة وبشكل لافت. وتدفع الأحداث الرواية إلى الأمام، إلى النهاية المحتومة. ووصفت الرواية الأماكن بكل تفاصيلها المكانية بمنتهى البراعة. وجاء توظيف الزمن بشكل مميز. وأفاد الكاتب من اللعب بالزمن بين الماضي والحاضر. وجاء البناء الفني للرواية محكمًا للغاية.
لقد نجح الكاتب المصري محمد عبد الحافظ ناصف في تقديم الحياة بأمريكا بشكل كاشف، يُضاف إلى الكثير من الروايات العربية التي صورت أمريكا والحياة فيها، والتي أظهرت زيف الحلم الأمريكي، والذي يتوهم، مع الأسف، الكثير من المصريين والعرب وجوده.
تعد رواية “بنات بالتيمور” هي الرواية الأولى لمحمد عبد الحافظ ناصف. وصدرت في 2023 عن “دار الفاروق للاستثمارات الثقافية” المصرية في 271 صفحة من القطع المتوسط. والكاتب من مواليد مدينة المحلة الكبرى عام 1967. وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية. وقام بدراسات عليا في التربية المستمرة في جامعة ميرلاند في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو عضو اتحاد الكُتّاب المصريين، وأتيليه القاهرة، ودار الأدباء، ونقابة المهن التمثيلية، والمجلس الأعلى للثقافة، واللجنة العليا لجائزة الدولة للمبدع الصغير.وهو كاتب مسرحي مصري، وروائي، وقاص، وكاتب أطفال، وسيناريست، ومترجم. وله الكثير من الأعمال المسرحية، وفي أدب الطفل، والقصة القصيرة، والرواية، إضافة إلى الأعمال النقدية والترجمة. وفي هذا الصدد، فقد أصدر عددًا كبيرًا من المجموعات القصصية مثل”الفاوريكة”، و”من حكايات البنت المسافرة”، و”مقاعد خالية”، و”طائر الليل”، و”فاتحة السندباد”. كما أصدر عددًا من روايات الناشئة مثل “أحلام النهار”، و”الثائر الصغير”، و”أبو الهول: معبد الأسرار”. وقد حصل على عدة جوائز في المسرح، والقصة القصيرة، وأدب الطفل، والدراما التليفزيونية. فعلى سبيل المثال، قد فاز بعدة جوائز مثل جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي عن مسرحية “طلوع النهار أول الليل” عام 1998، ومسرحية “وداعًا قرطبة” عام 2003، وجائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلى المصري للثقافة عن مسرحيتي “أرض الله” و”الفلنكات” عام 2001، وجائزة رابطة العالم الإسلامي عن مسرحية “سجين الهاء والواو”. وفي القصة القصيرة، فاز بجائزة محمود تيمور عن مجموعة “الفاوريكة” 1998، وفي أدب الطفل جائزة قصور الثقافة في قصة الطفل عن مجموعة “مدرستي يا مدرستي” عام 1996، ومجموعة “ابتسامة القمر” عام 2004. وفي الدراما التليفزيونية، فقد فاز بأحسن عمل درامي للطفل عن عروضه المسرحية مثل “طلوع النهار أول الليل”، و”الفلنكات”، و”وداعًا قرطبة”، و”طلوع النهار”، و”رقصة الفئران الأخيرة”، و”النهر”، و”حضرة صاحب البطاقة”، و”الغد”، و”حارة الموناليزا”، و”حكايات رمضان أبو صيام”، وغيرها.

د.حسين عبدالبصير
عالم الآثار المصرية ومدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى