د. محمد سعيد شحاتة يكتب التقنيات السردية في قصيدة لوحة تجريدية
للشاعرة لبنى حمادة
(الجزء الأول)
لقد أصبح من الثابت بين الدارسين أن قصيدة النثر العربية انفلتت من أسر التقليد، واتجهت بقوة نحو إيجاد شعرية جديدة متسقة مع سياق ثقافي وحضاري فرض على الإبداع والمبدعين ضرورة كسر القيود والأعراف المتوارثة من غنائية مفرطة إلى تدفق هادئ ينبني على تشكيلات فكرية عميقة للمعنى، والدفع بالعادي والهامشي إلى متن الفعل الشعري؛ ليشكِّل أساسًا متينا في إنتاج الدلالة، والكشف عن وعي الشاعر الحداثي بالعالم المحيط به، والمتفاعل معه، والمندمج مع أنسجته الفكرية والاجتماعية والإبداعية، والكاشف عن انحيازاته الجمالية المبتعدة عن المتوارث من حيث الشكل والرؤية، ولا ينفي ذلك وجود تنويعات إبداعية مغايرة تستند إلى المتوارث والمقولات الثابتة التي أنتجتها أجيال من المبدعين في فترات زمنية سابقة عبَّروا عن سياقهم الثقافي والحضاري، واندمجوا مع أنسجتهم الفكرية والاجتماعية والإبداعية في زمنهم، كما لا ينفي ذلك وجود انتقادات حادة لقصيدة النثر العربية تنزع أحيانًا إلى تتبع هذه القصيدة في مسيرتها وعبر محطاتها المختلفة، وترى أنها تتجه إلى التقليد هي الأخرى وسوف ينتهي بها الأمر إلى أنماط شكلية لا إبداع فيها، كما تنزع تلك الانتقادات أحيانا أخرى إلى نفي صفة الشعرية عن قصيدة النثر العربية، وترى أنها وليد هجين لا يمكن أن يستمر طويلا، وأنه يحمل في طياته عوامل هدمه، وكل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن قصيدة النثر العربية حركت المياه الراكدة، وأنتجت نقاشًا لا يمكن تجاهل أسبابه ومضامينه ونتائجه، ولا يمكن للناقد الجاد والمبدع الواعي والمثقف العميق غضُّ الطرف عن التشكلات الثقافية المتنوعة التي تشارك في هذا النقاش، ومنطلقاتها الفكرية التي تحركها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. وقد كانت قصيدة النثر العربية – وما زالت – تسعى إلى تجديد نفسها من خلال وجود أصوات إبداعية متنوعة، أو وسائل تعبيرية مختلفة، أو موضوعات مغايرة لم يكن الإبداع ليتطرق إليها في السابق، أو دمج عناصر إبداعية مختلفة، والاستفادة من وسائلها التعبيرية المتنوعة، كل ذلك في محاولة جادة ليستمر نهر القصيدة في التدفق، ولا شك أن نزوع المبدعين الشباب – وبخاصة إذا كانوا مثقفين – إلى اتخاذ قصيدة النثر شكلا من أشكال التعبير يمدُّ تلك القصيدة بماء الحياة، ويجعل نهرها يتدفق وسط حقول الثقافة؛ لتنبت في أرض الإبداع أشجارٌ مختلف أوانها.
وسوف نتوقف هنا مع قصيدة (لوحة تجريدية) لشاعرة من جيل الشباب الذين يعوَّل عليهم في تغيير البيئة الثقافية؛ لتكون أكثر نقاء وحيوية.
من الملاحظ أن النص يبدأ من الحركة إلى الثبات، ومن الحيرة إلى اليقين، ومن التيه إلى الاهتداء، ومن البحث المتواصل والدوران إلى الوصول، ولكن الثبات واليقين والاهتداء والوصول لا يعني الارتكان إلى يقين المعرفة، والاهتداء إلى طريق الخلاص، والوصول إلى الحقيقة العارية عن الرتوش، ولكنه الوصول والاهتداء إلى معرفة كيفية التعامل مع المتناقضات، وليس التخلص منها والقضاء عليها، تلك المتناقضات التي تملأ الحياة، والتي تشكل أهم أسباب التيه والحيرة والحركة، ومعنى ذلك أن الوصول لا يحمل بالضرورة معاني الراحة والهدوء والسكينة بقدر ما يحمل معاني الإحباط واليأس من تحقيق اليقين، ومن ثم لا يبقى أمام الأنا الشاعرة سوى البحث عن كيفية التعايش وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الحيرة والتيه، وأن اليقين الذي وصلت إليه الأنا الشاعرة ما هو إلا وهم كبير؛ لأنه ليس يقينًا بالمعنى الحقيقي، بل يقين ألا يقين لشيء، وأن الخلاص وهم، وأن على الإنسان أن يتعايش مع هذه المتناقضات، ويدير حياته من خلالها؛ لأنها هي التي أصبحت تحكم الحياة، وتتحكم في مفرداتها. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة عنوان النص، والوصول إلى دلالاته العميقة المتخفية وراء صياغة مغلقة يمكن أن تقودنا إلى دلالة منفتحة؛ ذلك أن الشاعرة انطلقت في صياغتها للعنوان من فهم عميق لطبيعة الصورة في بناء قصيدة النثر؛ فاستخدمت عنوانا دالا وغير دال في الوقت نفسه، أما من حيث كونه دالا فهو مكون من ألفاظ معينة ذات دلالة محددة/ لوحة تجريدية، وأما من حيث كونه غير دال فإن العنوان لا يحيلنا مباشرة إلى عناصر فاعلة في النص يمكن الاستناد إليها واتخاذها هاديا يهدي المتلقي في دروب النص وشعابه وتضاريسه المتنوعة، بل جاء العنوان نكرة موصوفة؛ فقد وصف اللوحة بأنها تجريدية، وكلا اللفظين جاء نكرة (لوحة – تجريدية) ومن المعروف أن النكرة تدل على معنى عام في نطاق جنسه، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، إنه عنوان دلالي في المقام الأول، ومن ثم فإن عناصر الصورة المشكلة لهذا العنوان تكمن في إحالة المتلقي إلى الحقول الدلالية المرادة من الأنا الشاعرة؛ لأن “النسق اللغوي له طاقته التعبيرية الخاصة به، وهي لها – في نسق النص – قدرة على صياغة الوعي فيما يتجاوز المدرك الخارجي، ولذا فقد تكون الوحدات اللغوية ذات موضوعات ذائبة، وليست انعكاسًا للخارج” (د. رجاء عيد، القول الشعري: منظورات معاصرة، ص 198)، وكل هذا التوصيف السابق للعنوان يدفعنا إلى قراءة النص لفهم العنوان، وقراءة العنوان لفهم النص، بمعنى أننا نقرأ النص؛ لنفهم المقصود من اللوحة التجريدية الواردة في العنوان، ثم نعود لقراءة العنوان لتفسير ما ورد في النص من خلال النافذة الدلالية للفظ اللوحة التجريدية، وبذلك يصبح العنوان والنص وجهين لعملة واحدة، بمعنى أن كلا منهما يفسر الآخر، ويفتح مغاليق دلالاته.
العنوان مفتاح تأويلي:
سوف نتوقف في حديثنا عن عنوان النص ودلالاته أمام ثلاث نقاط رئيسية، هي المعنى اللغوي للعنوان ودلالاته، والتكييف النحوي ودلالاته، وأخيرًا التكييف البلاغي؛ في محاولة أولى لاستكشاف عوالم النص، وإيجاد طريق بين دروبه وشعابه للاهتداء إلى ما يريد البوح به من رؤية فكرية، وما اختاره من انحياز جمالي، أما بالنسبة للمعنى اللغوي للفظين الواردين في العنوان (لوحة تجريدية) فإن له دورا كبيرا في إنتاج الدلالة، وتوجيه المعنى في النص؛ فقد ورد لفظ (لوحة) في المعجم بدلالات متعددة؛ فاللوحة هي اللوح من الورق الغليظ أَو النسيج يصوَّر فيه منظرٌ طبيعيٌّ أَو مشهدٌ تاريخيٌّ أَو نحوُ ذلك تصويرًا فنيًّا، واللَّوْحَةُ هي صفيحة عريضة من الخشب أو المعدن أو غيرهما، ولَوْحة التَّسمير هي لَوْحة خشبية تثبت على جدار كي تدقّ فيها المسامير، واللَوْحة الزيتيَّة هي التي تكون مرسومة بألوان ممزوجة بالزيت، واللَوْحة التذكاريّة هي صورة مرسومة لتسجيل حدث ما، واللوحة في مجال الثقافة والفنون هي مشهدٌ من مشاهد مسرحيّة أو غيرها، واللوحة الحيّة هي مشهد مسرحيّ ساكن، ومعنى ذلك أن النص سوف يقدم لنا مشهدًا يصور فيه الأحداث التي يراها تصويرًا فنيًّا، ويمكن أن يكون هذا المشهد جدارية، بمعنى أن يشهد على أحداث محددة، أو يكون شاهدًا على زمن معين، أو رؤية فكرية محددة، أو يقدِّم تصوُّرًا معيّنًا للأنا الشاعرة، ويكون هذا التصور شاهدًا على مرحلة من مراحل حياتها، أو يقدِّم رؤية محددة ترى أنها ضرورية؛ لتسجل من خلالها موقفها ورؤيتها لما يدور حولها من أحداث، وفي جميع الأحوال فإن استخدام لفظ لوحة في العنوان يشير بوضوح إلى أن الأنا الشاعرة تريد أن تقدم مشهدًا معينًا لأحداث محددة، أو مرحلة من مراحل حياتها، فإذا ذهبنا إلى اللفظ الثاني من العنوان/ تجريدية فإننا سوف نكون أمام إشكالية كبرى؛ لأن ذلك لا بد أن يحيلنا مباشرة إلى دلالة لفظ تجريدية، والتَّجريديّة لها معانٍ كثيرة على حسب العلم الذي ترتاده، فهناك التجريد في الصرف، ويعني خلوّ الكلمة من الحروف الزائدة، والتجريد في النحو تعرية الكلمة من الزوائد، والتجريد في الفكر عملية فكرية يعزل فيها الإنسان صفة أو علاقة عزلا ذهنيًّا، ويحصر فيها التفكير، والتجريد في البلاغة هو أن ينتزع الإنسانُ من نفسه شخصًا يُخاطبه، اللغة تنزع إلى التجريد، والتجريد في الفلسفة والتصوُّف هو مذهب فلسفيّ يميل إلى المساواة من حيث القيمة بين المجرّدات والمحسوسات، والتجريد في الفن هو مذهب من مذاهب فن الرسم الحديث، لا يهتم بمعالم الصورة والواقع، وفيه يطلق الفنَّان العنان للخيال لِتُمَثِّلَ الأَشْكَالُ وَالأَلْوَانُ حَقِيقَتَهَا الكَامِنَةَ فيها مع تجريد الموضوع من ظواهره وأشكاله المألوفة، وقد ازدهرت التجريدية التعبيرية بعد الحرب العالميّة الثانية حتى بداية الستينيَّات، والتّجريديّة من المصطلحات الفنية وتعني فنّ التعبير عن فكرة أو شعور دون الرجوع مباشرة إلى العالم المحسوس مع استخدام المادة والألوان والخطوط من أجل ذاتها، ويقوم جوهر التجريد – كما ترى سارة عابدين – على التعبير عن الأفكار والخيال والمشاعر؛ لأن المهم في الفن ليس تقليد الطبيعة، بل التعبير عن المشاعر من خلال اختيار الألوان والخطوط، كما أن فناني التجريد يريدون التركيز على المشاعر والأفكار عبر خلق قصة يتابعها كل متلقٍ حسب خلفيته النفسية والثقافية والإنسانية. أي أن العمل التجريدي يحتمل أكثر من تأويل حسب رؤية كل متفرج. (سارة عابدين، كيف نفك شفرات اللوحات التجريدية؟ (بتصرف) https://linksshortcut.com/wtsDB) ويتميز الفن التجريدي بمجموعة من المميزات كما ترى هناء المعطي، من أهمها أنه يعدُّ من أهم الأساليب الفنيّة التي استوعبت الاتجاهين العقلي والعاطفي، ويشمل الاتجاه العقلي القاعدة، والنظام، والتناغم، والبناء، أمّا الاتجاه العاطفي فهو الجانب الرّوحيّ، وقد حقق الفن التجريدي توازنًا بين عقل الفنان وخياله بشكل يبتعد عن التقليد مع احتواء أيّ تجديد يدعم التشكيل، ويتمثّل ذلك بوجود تفسير عقليّ للتطورات الفنيّة التي توجِد توازنًا بين الشّعور الدّاخليّ للفنان وما يرسمه بيده من أشكال مُجرّدة، مُرورًا بالألوان وتناسقها وتباينها، والملمس، والخطوط، والمساحات، فتظهر العمليّة الفنيّة كاملةً على نحو مُتناغم بإيقاع مُتّزن. (هناء المعطي، مفهوم الفن التجريدي (بتصرف) https://linksshortcut.com/XWzPC) كما أن الفن التجريدي يعتمد على ما يصدر من الروح الإنسانية بشكل مُطلق، بالإضافة إلى الاستناد إلى ما هو وراء الأمر الواقعيّ، فإذا انتقلنا إلى العنوان نحاول أن نستجلي دلالة هذه المعاني للوحة التجريدية فإننا نرى أن النص يريد أن يبين لنا أنه يعبر عن الأفكار والخيال والمشاعر الحقيقية، وليس ما ينبغي أن يقال، أي أنه يعبر عن جوهر الإنسان ومعاناته الحقيقية، ولا يقدم لوحة زائفة لا تعبر عن الواقع الإنساني، وإذا كان فنانو التجريد يريدون التركيز على المشاعر والأفكار عبر خلق قصة يتابعها كل متلقٍ حسب خلفيته النفسية والثقافية والإنسانية فإن النص يركز على الأفكار والمشاعر عبر تصوير تعبيري، ويترك للمتلقي تأويله على حسب خلفيته النفسية والثقافية والإنسانية، فمن المتلقين من ينظر إلى هذه الأفكار الواردة في النص من الزاوية الاجتماعية، وأثر منظومة القيم، ومنهم من ينظر من الزاوية الفكرية، ومنهم من ينظر من الزاوية النفسية، وتفاعل العناصر الاجتماعية والثقافية في إنتاج هذه المعاناة الإنسانية، وهكذا ينظر كل متلق من زاوية مختلفة، وإذا كان الفن التجريدي يحدث توازنًا بين الاتجاهين العقلي والعاطفي فإن النص يقدم تصويرًا للاتجاهين العقلي والعاطفي للأنا الشاعرة، ومن ثم فإن اختيار لفظيْ لوحة تجريدية عنوانًا للنص كان ذا دلالة عميقة في فهم ما يدور في لاوعي الأنا الشاعرة لحظة صياغة النص. إن دلالة العنوان/ لوحة تجريدية من حيث المعنى هي أن النص سوف يقدم لنا تصويرًا لحركة الفكر والشعور لدى الأنا الشاعرة في لحظة معينة تجاه أحداث أو مواقف محددة من حياة تلك الأنا الشاعرة، وترصد من خلال هذا التصوير حركة النفس والفكر والوجدان، وما يعتمل في اللاوعي من إحباط ويأس ومحاولات دائبة للخروج من هذه الحالة، وبحث عن يقين، وفي النهاية تصل إلى أنه لا أمل في الخلاص، وأن الحل الوحيد هو التعايش مع تلك الخيوط المتشابكة من المتناقضات، وإذا ركزنا النظر على الجذر اللغوي للفظ تجريدية فإننا نرى أن النص سوف يقدم هذا التصوير مجردًا من التبريرات أو التأويلات، بمعنى أنه سوف يصور ما يراه دون أن يفسره؛ ليترك للمتلقي حرية التأويل والتفسير.
ومن حيث التكييف النحوي فقد جاء العنوان جملة اسمية، حُذِف أحد طرفيها، والتقدير (هذه لوحة تجريدية/ النص لوحة تجريدية) وهي جملة بسيطة تتكوَّن من ركنين أساسيين هما المبتدأ المحذوف/هذه/ النص، والخبر المذكور/لوحة موصوفا بالتجريد، أي أن الجملة تمَّ توسيعها باستخدام النعت/ تجريدية، ومن المعروف أن أي زيادة في المبنى تقابلها زيادة في المعنى، ولا تشتمل الجملة الاسمية على زيادات أخرى في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى، وكأن النص أراد منذ البداية أن يضع المتلقي في بؤرة تفكيره بأن يأخذ الدلالة مأخذًا مباشرًا من خلال دلالة الألفاظ الواردة، وأنه لا يريد زيادات في المعنى سوى الوصف الذي سيكون محور الأحداث، أي أن الزيادة هنا تصف هذه الأفكار المذكورة في النص، ولكن ذكر الخبر/ لوحة في حد ذاته قد يطبع هذه الأفكار بطابع التنوع من خلال الدلالة اللغوية للكلمة/لوحة؛ لأنها تحمل كل معاني التنوع؛ فاللوحة تتكون من عناصر متعددة، وألوان مختلفة، وكتل لونية مختلفة كذلك في الحجم والامتداد على فضاء النص، ولا يحتاج العنوان إلى إضافات أخرى؛ إذ اكتفى بدلالة الألفاظ الرئيسية الواردة، ويراها دالة بعمق عما يريد.
ومن حيث التكييف البلاغي تكوَّن العنوان من جملة خبرية لفظا ومعنى، أي أنها تقدم خبرًا للمتلقي (لوحة تجريدية) وهي جملة ابتدائية من الناحية البلاغية، أي جاء العنوان جملة خبرية لا تحمل أي أداة دالة على التوكيد، ومن ثم فهو خبر ابتدائي، ويبين الخطيب القزويني أنواع الخبر في كتابه (الإيضاح في علوم البلاغة) فيقول (فإن كان المخاطب خالي الذهن بحكم أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم ….. وإن كان متصوّر الطرفين مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر حسن تقويته بمؤكد، وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار…… ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا، والثاني طلبيًّا والثالث إنكاريًّا) (الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 28، 29) ومن هنا قلنا إن العنوان قد استخدم الخبر الابتدائي الذي يكون فيه الكلام خاليًا من التوكيد، وهو ما يدل على أن المتلقي خالي الذهن متقبِّل للخبر دون شك أو إنكار؛ لأنه يرى أن الواقع المعاش يعبر عن دلالة المعنى الذي يحمله العنوان، ومن زاوية أخرى فإن مجيئ العنوان خبريًّا يدل على أن وقائع الأحداث في النص، وما يثيره من قضايا قابلة للتصديق والتكذيب، أي قابلة أن يناصرها البعض فيراها حقيقية ودالة، ومن ثم يتخذ الموقف الذي أراده النص، وأن يراها البعض الآخر غير حقيقية وغير معبرة عن الاستنتاج الذي أراده النص، ومن ثم لا يتخذ الموقف نفسه الذي اتخذه النص، وهذه الزاوية من النظر تستند إلى كون الأسلوب الخبري محتملا للصدق والكذب في ذاته، وقد فسَّر الخطيب القزويني الصدق والكذب للخبر بقوله (صدقه – أي الخبر – مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه للواقع، وقال بعض الناس: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبِر – أي المتكلم – صوابا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له) (الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 25) لقد نجح النص من خلال استخدام العنوان خبريًّا في الكشف عن الدلالة، وتعانقت العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها – المعنى اللغوي والتكييف النحوي والتكييف البلاغي – في الولوج إلى عالم النص، ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية، ذلك أن إنتاج الدلالة يتم من خلال التفاعل الديناميكي بين النص والقارئ، فتصبح القراءة بذلك عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، ومن هنا اكتسب العنوان أهميته في التأويل من حيث كونه نصًّا قصيرًا، أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، على أننا ينبغي أن نشير إلى أن ما قدّمناه من محاولة استنطاق للعنوان تبقى مجرد محاولة للقراءة لا تصادر على أي قراءة أخرى قد تتفق أو تختلف معها؛ لأن التعدد التفسيري للنص يثريه ويعطيه قدرة على مواصلة الحياة، واختراق حاجز الزمن.
حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان:
تحدثنا في البداية عن أن النص يبدأ من الحركة إلى الثبات، ومن الحيرة إلى اليقين، ومن التيه إلى الاهتداء، ومن البحث المتواصل والدوران إلى الوصول، ولكن الثبات واليقين والاهتداء والوصول لا يعني الارتكان إلى يقين المعرفة، والاهتداء إلى طريق الخلاص، والوصول إلى الحقيقة العارية عن الرتوش، ولكنه الوصول والاهتداء إلى معرفة كيفية التعامل مع المتناقضات، وليس التخلص منها والقضاء عليها، ومعنى ذلك أن الوصول لا يحمل بالضرورة معاني الراحة والهدوء والسكينة بقدر ما يحمل معاني الإحباط واليأس من تحقيق اليقين، ومن ثم لا يبقى أمام الأنا الشاعرة سوى البحث عن كيفية التعايش وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الحيرة والتيه، وهذه الحركة المتدافعة للمعنى في النص تقودنا إلى تقسيمه إلى سبعة مقاطع، يضيء كل مقطع من مقاطع النص زاوية من زوايا الرؤية، فإذا وصلنا إلى المقطع الأخير تنغلق الدلالة، ويغلق النص أبواب الرؤية، وتسكن حركة التأويل، ويستقر في ذهن المتلقي ما أراد أن يبوح به النص.
– 1 –
كثوبٍ ضربتهُ شمسُ أغسطسَ الحارقةُ
من طولِ الانتظارِ خلفَ زجاجِ الفتارينِ
رأسي تلهو بهِ التساؤلاتُ كثُلةِ من الكثبانِ المتحركةِ
على زوايا الارصفةِ
جسدي يعدو بين الأزقةِ
يتلصصُ خلف الأبوابِ المواربةِ
رغم قناعتي أن لا محطَ لالتقاطِ الأنفاسِ
وغالباً لا سبيل للوصولِ..
لم أفرطْ في شىءٍ مني سوى نسخي الساذجةِ
تلك التي لم تعلمْنِي سوى الصبرِ
تركتُها أسفلَ لافتةٍ صدئةٍ
ممهورةٍ بختمٍ ” لا تصلحُ للاستخدامِ “
ربما تلعنُها الكرما فتعودُ لي غرابًا أو دودةَ قزِ
تبدو الأنا الشاعرة في هذا المقطع من النص متجمدة خلف زجاج الفتارين بما يحمله ذلك من جمود شكلي، وعرض ظاهري للمارة؛ كي يشاهدوا ما يريدون من غير أن يكون لهم قدرة حقيقية على الفعل، ومعنى ذلك أن قول النص (الانتظارِ خلفَ زجاجِ الفتارينِ) ذو دلالتين، الأولى الثبات والجمود بما يشبه فقدان الحركة والفعل الإنساني، والمشاعر، والدلالة الثانية العرض أمام المتفرجين، أو المارة يتفحصون ملامح هذا المعروض خلف الفتارين، ولكن الحقيقة أنه لا جمود ولا ثبات، بل غليان يتحرك في الصدر والرأس (رأسي تلهو بهِ التساؤلاتُ – جسدي يعدو بين الأزقةِ – يتلصصُ خلف الأبوابِ المواربةِ – غالبا لا سبيل للوصول) وهنا المفارقة الأولى التي تحكم الدلالة، وهي الجمود الظاهري والغليان الحقيقي، فالرأس موَّارة بالأسئلة التي لا إجابات عليها، وهي تساؤلات متنقلة بين الموضوعات والحكايات المتنوعة، وهي أسئلة متشابهة، وتقود إلى حقيقة واحدة تكاد تقضي على الأنا الشاعرة، وتمحو ملامحها، وتغيِّبها فلا يبقى لها أثر، وقد بدا ذلك من خلال استخدام ألفاظ دالة (ثلة من الكثبان الرملية المتحركة) لأن الكثبان متشابهة، وتتحرك من مكان إلى آخر، أي أن الأسئلة في رأس الأنا الشاعرة متحركة ومتنقلة بين الموضوعات وهي أسئلة متشابهة في عمقها وملامحها، واستخدام لفظ الكثبان المتحركة يدل على أن هذه الأسئلة قاتلة؛ لأن الكثبان المتحركة هي بطبيعتها تدفن كل شيء داخلها فلا يبقى له أثر، ثم تنتقل الأنا الشاعرة إلى ملمح آخر في قولها (جسدي يعدو بين الأزقةِ – يتلصَّصُ خلف الأبوابِ المواربةِ) فلفظ (يعدو) يدل على البحث المستمر عن إجابات للأسئلة التي تلهو بالرأس، واستخدام لفظ الأزقة يدل على أن البحث عميق؛ إذ إنه يدخل في أزقة الفكر ويبحث عن إجابات لأسئلة وجودية وليس أسئلة سطحية عامة، ويحاول أن يجد إجابات من خلال التلصص على الأبواب المواربة، أي من خلال البحث خلف الأشياء، ومحاولة اكتشاف حقيقتها؛ ذلك أن (الأبواب المواربة) لا تكشف صراحة ما وراءها، ولكنها في الوقت نفسه لا تُخفي تماما كل ما وراءها، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تحاول من خلال اللمحات التي قد تبدو هنا أو هناك أن تجد إجابات شافية لما يلهو برأسها من أسئلة تموج ولا تهدأ حركتها لتكتشف في النهاية أن الوصول مستحيل، وأن الإجابات الشافية ضرب من الخيال؛ فهي تقرُّ في نهاية المقطع بالعجز التام في قولها (وغالبا لا سبيل للوصول) وهذه الجملة تحمل أكثر من دلالة عند تفكيكها؛ فهي تتكون من (لا) النافية للجنس واسمها وخبرها، وتعني (لا) النافية للجنس نفي خبرها عن جنس اسمها، والخبر هنا لفظ الوصول، والاسم لفظ سبيل، ومعنى ذلك نفي الخبر/ الوصول عن جنس الاسم/ سبيل، أي نفي أي سبيل يمكن أن يكون مؤديًا للوصول، ونلاحظ أن لفظ سبيل قد ورد نكرة، وهو ما يدل على العموم والشمول، أي عموم أي سبيل أو طريق يمكن أن يؤدي إلى الوصول، أي الوصول إلى إجابات شافية لما يدور في ذهن الأنا الشاعرة من أسئلة تلهو برأسها، كما أن هذه الجملة جملة اسمية، والجملة الاسمية في عرف البلاغيين تدل على الثبات، ومعنى ذلك أن نفي الوصول إلى إجابة شيء ثابت ولن يتغير – وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل لاحقا – إن المقطع الأول من النص يمثل مدخلا أساسيًّا يمسك بخيوط الدلالة التي سوف تتوزع فيما بعد عبر النص بأكمله، ومن ثم فإن فهم هذا المقطع سوف يكون هاديًا لنا في دروب النص وشعابه، ومن الملاحظ أن الألفاظ في هذا المقطع قد جاءت كلها ذات دلالات عامة، بمعنى أنها لا تعطي ملامح محددة للدلالة، فالأسئلة لا نعرف كنهها؛ فهي أسئلة هكذا جاءت في النص، ولكن النص لم يقل لنا ما هي الأسئلة المطروحة، كما استخدم لفظ الأبواب المواربة ولم يقل لنا النص أين تلك الأبواب وما كنهها، ولا يوجد شيء يمكن أن نصفه بأنه معروف سوى لفظ رأسي، وقد اكتسب دلالته من إضافته إلى ياء المتكلم الدالة على الأنا الشاعرة، أما بقية الأشياء فهي وإن جاءت معرفة من حيث اللفظ فإن دلالتها عامة وغير محددة، تقول (رأسي تلهو بهِ التساؤلاتُ كثُلةِ من الكثبانِ المتحركةِ – على زوايا الارصفةِ – جسدي يعدو بين الأزقةِ – يتلصصُ خلف الأبوابِ المواربةِ – وغالباً لا سبيل للوصولِ) ثم يأتي القسم الثاني من هذا المقطع (لم أفرطْ في شيء مني سوى نسخي الساذجةِ/ تلك التي لم تعلمْنِي سوى الصبرِ/ تركتُها أسفلَ لافتةٍ صدئةٍ/ ممهورةٍ بختمٍ ” لا تصلحُ للاستخدامِ “/ ربما تلعنُها الكرما فتعودُ لي غرابًا أو دودةَ قزِ) يبدأ هذا القسم من المقطع بالنفي الدال على تبرئة الأنا الشاعرة من التقصير الذي يمكن أن تتهم به (لم أفرط في شيء مني) ولكن هذا النفي لم يلبث أن يتحول إلى إقرار عندما تقول (سوى نسخي الساذجة تلك التي لم تعلمني سوى الصبر) وهذا يعني أنها تعترف بسذاجتها أي أنها غير منسجمة مع واقع ليس من طبيعتها، وهذا يمثل أول دخول للمعنى ونسج لخيوط الدلالة؛ فالأنا الشاعرة تقر بسذاجتها، والسذاجة هنا تعني أنها لم تكن تفهم طبيعة ما يدور حولها من مفردات الحياة والناس، ثم تقر الأنا الشاعرة مرة أخرى بأن هذه السذاجة لا تصلح حين تقول (ممهورةٍ بختمٍ “لا تصلح للاستخدام”) أي أن هذه الطبيعة/ نسخي الساذجة لا تصلح أن تكون حاكمة للحياة ولا متحكمة في سيرورتها؛ نظرًا لطبيعة الناس والأشياء المتلونين الذين لا تصلح معهم الطبيعة الساذجة التي تتسم بها الأنا الشاعرة، وينتهي هذا المقطع بجملة دالة في قولها (ربما تلعنُها الكرما فتعودُ لي غرابًا أو دودةَ قزِ)وهنا نستعدّ لانفتاح الدلالة أكثر في المقطع الثاني من النص.
وقد اتسم هذا المقطع بالحركة على الرغم من اشتماله على جمل اسمية كثيرة، وهي تدل على الثبات، ولكن الجمل الفعلية ذات الفعل المضارع قد منحت المقطع حركة وحيوية تتناسب مع دلالات الجمل والمعنى المراد من هذا المقطع بحسبانه مدخلا للنص يمسك بخيوطه؛ كي يوزعها فيما بعد على المقاطع المختلفة توزيعًا محكمًا، (تلهو – يعدو – يتلصصُ – أفرطْ – تعلمْنِي – تصلحُ – تلعنُها – تعودُ) وعلى الرغم من أن الأفعال المضارعة تدل على التجدد والحركة والاستمرار فقد انقسمت هذه الأفعال المضارعة إلى قسمين، الأول أفعال مثبتة تحمل دلالة الزمن الحاضر، وهي الأفعال (تلهو – يعدو – يتلصصُ –تلعنُها – تعودُ) وهي أفعال تتناسب في دلالتها مع الحركة والمعنى المراد نقله إلى المتلقي، فالأسئلة الكثيرة التي تدور في الرأس ولا تهدأ حركتها جاء معها الفعل المضارع (تلهو) والجسد المتحرك الذي يبحث دائما عن معنى للوجود جاء معه الفعل المضارع (يعدو) وبحثه الدائم خلف الجمل والألفاظ والأحداث، ومحاولة فهم حقيقتها جاء معه الفعل المضارع (يتلصص) وهي أفعال متناسبة تمامًا مع حركة المعنى والدلالات المرادة، وسوف نتوقف أما مع الزاوية البحثية في مكانها من الدراسة، ثم يأتي الفعلان المضارعان المثبتان الأخيران (تلعنها – تعود) في هذا المقطع مسبوقين بما يدل على عدم اليقين في قولها (ربما تلعنُها الكرما فتعودُ لي غرابًا أو دودةَ قزِ) وهو ما سوف يكون مقدمة للمقطع التالي، أما النوع الثاني من الأفعال المضارعة في هذا المقطع فهي أفعال مضارعة منفية، وهي (لم أفرطْ – لم تعلمْنِي – لا تصلحُ) والفعلان الأولان مسبوقان بحرف (لم) التي تقوم بتحويل الحدث من الحاضر إلى الماضي إضافةً لتوقع حدوث الفعل في المستقبل، ومعنى ذلك أنها لم تفرط في الماضي سوى في نسخها الساذجة، أي أنها كانت ساذجة في الماضي، ولكن استخدام الحرف (لم) يدل على أن هذه السذاجة يمكن أن تستمر معها في المستقبل، وهو ما يشير إلى أنها لن تتعلم من دروس الماضي، وفيه إشارة إلى طبيعة الأنا الشاعرة، وينسحب هذا التأويل أيضًا على الفعل (لم تعلمني) فهو مسبوق بحرف (لم) ومن ثم ينطبق عليه التأويل السابق، أما الفعل (لا تصلح) فهو مسبوق بحرف النفي (لا) وهذا الحرف إذا سبق الفعل المضارع فإنه لا يقيّده بزمن على الأرجح، وإن كان النحويون يرون أنها – أي لا النافية مع الفعل المضارع – تجعله خالصًا للمستقبل، يقول ابن يعيش “أما (لا) فحرفٌ نافٍ أيضا موضوع لنفي الفعل المستقبل” (ابن يعيش، شرح المفصّل 5/ 33) وقد تحتمل (لا) النافية دلالة زمنيْ المتكلم والمستقبل، وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على ذلك، وإذا أخدنا هذا المعنى إلى الفعل الوارد في النص (لا تصلح) وجدنا أن عدم الصلاحية سارية في زمن التكلم – أي الزمن الحاضر – وممتدة إلى الزمن المستقبل، وهذا يعني أن الطبيعة الساذجة للأنا الشاعرة لا تصلح للاستخدام في الزمن الحاضر وممتدة إلى الزمن المستقبل (ممهورةٍ بختمٍ ” لا تصلحُ للاستخدامِ )؛ ذلك أنها إذا كانت غير صالحة للاستخدام في هذا الزمن الحاضر فإن هذا الحكم يكون أولى في الزمن المستقبل؛ نظرًا لتطور الزمن، وتغير الطبيعة البشرية للناس نتيجة تغير الأحداث ومجرياتها، ويقودنا ذلك كله إلى انفتاح الدلالة أكثر في المقطع الثاني من النص الذي يقودنا إلى أفق أوسع.
– 2 –
لا يقينَ يعرفُني إلا أني هنا رغماً عني
ولا وهمَ أصدقهُ سوى الموتِ ..
كلفظةٍ تترجمُها عقولُ العوامِ “الخلاص”
عدا ذلك ضبابيٌ مبهمٌ
ذاكرتي علامةُ تعجبٍ تجيدُ الطيرانَ وتكرهُ التكيفَ
أنبشُ عن أبي فأجدُ صورةً مشوشةً لمبنى مهجورٍ وشريطةً سوداءَ
أمي الغارقةُ في نهرِ البكاءِ .. سمكةُ مالحةُ
و إخوتي غيمةُ مرتعدةُ
أفتشُ عن لفظةٍ منتفخةٍ تشبهُ “حبًّا”..
فلا أجدُ إلا جثامينَ باردةً
وأرواحاً تتساءلُ كيف رُفعت السماءُ
ولماذا هبطنا نحن؟
يبدأ المقطع باستخدام جملة اسمية منفية (لا يقين يعرفني) وتمثل هذه الجملة مرتكز الرؤية في هذا المقطع، ومن الملاحظ أن الجملة مبدوءة بلا النافية للجنس، وهي أداة تستعمل لنفي الحكم نفيًا عامًّا عن جميع أفراد جنس الاسم الواقع بعدها، أي لا يوجد يقين من أي نوع أو زاوية، ويؤكد ذلك مجيء لفظ (يقين) نكرة والنكرة تدل على العموم والشمول في نطاق جنسها، ومعنى ذلك أن كل ما يمكن أن نتخيل أنه يقين لا يعرفها، أي لا يعرف الأنا الشاعرة (لا يقين يعرفني) بيد أنها – الأنا الشاعرة – تستثني شيئًا واحدًا يمكن أن تطلق عليه اسم اليقين وهو وجودها رغمًا عنها؛ فهي لم تختر وجودها، وهذا اليقين أو ما تراه يقينًا هو نابع من واقع تعيشه، ولا يمكن أن تنكره، ثم تنتقل إلى يقين آخر ملموس وهو الموت، وتسميه الوهم، وهو في الحقيقة ليس وهمًا من وجهة نظرها؛ لأنه الخلاص الحقيقي، وهذا يعني أن الأنا الشاعرة ترى أن الموت هو الخلاص الحقيقي لحالة عدم اليقين التي تعيشها، وهذا الاستثناء لحالتيْ اليقين – وجودها رغمًا عنها والموت – لا ينفي الأساس الذي انطلقت منه وأثبتته في بداية المقطع، وهو عدم وجود يقين (لا يقين يعرفني) فحقيقة هذا الاستثناء هو أنه نتيجة توصلت إليها، ولذلك تقول بعد ذلك مباشرة (عدا ذلك ضبابٌ مبهمٌ) أي أن كل شيء لا يعطيها إجابة واضحة عما تبحث عنه، ثم تبدأ الأنا الشاعرة في توضيح عناصر البحث حولها التي كانت تتمنى أن تجد إجابة واضحة، أو توصيفًا واضحًا عنهم، وهذه العناصر هي (الأب – الأم – الإخوة – الحب/ المحبوب) وقبل أن تبدأ في مناقشة هذه العناصر تؤكد على صفة أساسية في شخصيتها حين تقول (ذاكرتي علامةُ تعجبٍ تجيدُ الطيرانَ وتكرهُ التكيفَ) ومن الملاحظ في اختيار الكلمات أنها دائمة البحث، وأن ذاكرتها لا ترضى بالمألوف، وتبحث عما وراء الأشياء، واختيار لفظ الطيران يدل دلالة واضحة على ذلك؛ فالطيران يعني التنقل من مكان إلى آخر، وبطبيعة الحال تكون الأماكن التي تتنقل فيها مختلفة من زوايا كثيرة، ولكنها لا تستقر في مكان؛ لأنها تكره التكيف، بمعنى أنها تكره أن تتآلف مع الواقع الذي لا يناسبها، ومن ثم تتنقل باستمرار، وهو ما سيكون له أثر بالغ في حركة المعنى في النص، ثم تبدأ في مناقشة عناصر اليقين التي يمكن أن تستند إليها، فتأتي الأبوة أولا (أنبشُ عن أبي فأجدُ صورةً مشوشةً لمبنى مهجورٍ وشريطةً سوداءَ) لقد انتفت معاني الأبوة، بمعنى أن الأبوة بالمفهوم الحقيقي غائبة؛ فصورة الأب صورة مشوشة، وليس هذا فقط، ولكنها أضافت إليها صورة أخرى، وهي أن هذه الأبوة تشبه المبنى المهجور، وهو ما يوحي بغياب عناصر الحياة عن هذا المبنى/ الأبوة، ثم تضيف صورة أخرى (شريطة سوداء) فتكون صورة الأبوة صورة سلبية إلى أبعد الحدود، وهذه الصورة السلبية لا يمكن أن تمنح اليقين؛ فهي مشوهة من زوايا كثيرة، من ناحية المظهر الخارجي للأبوة/ صورة مشوشة؛ فالصورة المشوشة هي الصورة الغير الواضحة الملامح، ولا يمكن توصيفها توصيفًا صحيحًا أو دقيقًا، وهي – صورة الأبوة – مشوهة كذلك من ناحية الجوهر الداخلي؛ لأنها تشبه المبنى المهجور، ولا شك أن المبنى المهجور غير صالح للحياة، ولا توجد فيه مقومات هذا الحياة من حيث الأمان؛ فهو مصدر خوف، ومن حيث الترتيب الداخلي، وتراكم الأتربة نتيجة أنه مهجور، ومعنى ذلك أن الأبوة لم تعد صالحة من حيث المظهر الخارجي، ولا من حيث الجوهر الداخلي، نتيجة تراكم التشوهات، وتفسخ منظومات القيم، وتداخل الرؤى، وانهيار المعاني الحقيقية للأبوة التي تحقق الأمان لمن هي مسؤولة عنهم، ومن ثم فإن هذه الأبوة لا تستطيع أن تمنح الأنا الشاعرة اليقين الذي تبحث عنه، ثم يأتي العنصر الثاني من العناصر التي يمكن أن تمنح اليقين، وهو الأم، ونلاحظ أن الأنا الشاعرة تصف هذه الأمومة أيضا بصفات سلبية؛ إذ تصفها بصفتين تعطلان فعاليتها (أمي الغارقةُ في نهرِ البكاءِ .. سمكةُ مالحةُ) ومن الممكن اعتبار التركيب السابق جملة واحدة فتكون كلمة (أمي) مبتدأ وكلمة (الغارقة) صفة، وتكون كلمة (سمكة) خبرًا، ويمكن اعتبار هذا التركيب جملتين، فتكون كلمة (أمي) مبتدأ، وكلمة (الغارقة) خبرًا، والألف واللام فيها تدل على الاستغراق، وهي أشبه بقوله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه) فالألف واللام في كلمة (الكتاب) دالة على الاستغراق في الصفة، وإذا صحَّ هذا التأويل فإن الدلالة تكون أعمق بكثير؛ لأنها تدل لفظا على غرق الأم في البكاء من خلال استخدام لفظ (الغارقة) وتدل معنى على غرق الأم في البكاء من خلال استخدام الألف واللام للاستغراق أي الاستغراق في الصفة، وهي هنا البكاء، ثم يكون قولها (سمكة مالحة) جملة اسمية أخرى، فتكون كلمة (سمكة) خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره هي، وكلمة (مالحة) صفة، وبذلك تكون الجملتان متعادلتين من ناحية الدلالة السلبية، وكذلك من ناحية التكوين، وسوف نعود إلى ذلك بالتفصيل عند حديثنا عن التشكيلات اللغوية للنص، ولكننا ننشغل هنا فقط بدلالة التركيب وأثره في حركة المعنى، وإذا كانت الأنا الشاعرة نفت عن الأبوة قدرتها على منح اليقين فإنها هنا أيضا تنفي عن الأمومة قدرتها على منح اليقين؛ لأنها فاقدة للعطاء من خلال غرقها في البكاء، أي الحزن، والغارق يحتاج إلى من ينتشله، وينقذه، ولا يستطيع هو أن ينقذ غيره، ومن ثم لا يمكن أن تمنح اليقين من هذه الزاوية، وكذلك لا يمكن أن تمنح اليقين من زاوية أخرى، وهي الوصف بالملوحة (سمكة مالحة) ولا شك أن الوصف هنا وصف سلبي للغاية، ثم يأتي العنصر الثالث الذي يمكن أن يمنح اليقين، وهو الإخوة، ولكنهم أيضًا لدى الأنا الشاعرة غير قادرين على ذلك؛ لأنهم لا يملكون القدرة الحقيقة على العطاء (و إخوتي غيمةُ مرتعدةُ) وإذا كانت قد وصفتهم في البداية بالغيمة التي يمكن أن نتوهم من خلالها أنها قادرة على العطاء/ المطر فإذا بالأنا الشاعرة تصف هذه الغيمة بالمرتعدة، وإذا تخيلنا أن المرتعدة تدل على الرعد فهي من هذه الزاوية الرؤيوية تحمل معاني التخويف، وليس اليقين، ومعنى ذلك أن الإخوة مصدر تخويف ورعب للأنا الشاعرة وليسوا مصدر يقين، وإذا تخيلنا أن المرتعدة تدل على الارتجاف أي الخوف فإنها أيضا غير قادرة على منح اليقين من هذه الزاوية الرؤيوية؛ لأن الخائف لا يمنح يقينًا، ومن خلال الزاويتين الرؤيويتين تتجلى الصورة السلبية للأخوة، ومن ثم تنفي الأنا الشاعرة عنها إمكانية أن تمنح اليقين، ثم يأتي العنصر الرابع في تلك المنظومة المتخيَّلة لمنح اليقين، وهو الحبيب، ولكنه لم يكن أحسن حالا من العناصر الثلاثة السابقة؛ إذ جاء موصوفًا بالسلبية هو الآخر (أفتشُ عن لفظةٍ منتفخةٍ تشبهُ “حباً”.. فلا أجدُ إلا جثامينَ باردةً وأرواحًا تتساءلُ كيف رُفعت السماءُ ولماذا هبطنا نحن؟) ولكننا نلاحظ في الحديث عن الحبيب أن الأوصاف جاءت أشد عنفًا، وإغراقًا في السلبية؛ لأن الحبيب هو اختيار لمن يمكن أن نتخيله مانحًا لليقين، ولكن هذا الاختيار أصبح وهمًا، ومن ثم جاءت الأوصاف عنيفة في سلبيتها بالقياس للعناصر الثلاثة الأولى؛ فقد بدأت الأنا الشاعرة بأولى الأوصاف (منتفخة) وهو ما يوحي بمطلق السلبية؛ لأن الانتفاخ لا يعبر عن حقيقة، ومن ثم لا يمكن أن يكون يقينًا، وإذا لم يكن هو في حقيقته يقينًا فكيف يمكن أن يمنح اليقين؟! ثم جاء التوصيف التالي والمرتبط بالأول (تشبه حبًّا) لتعبر عن كونها ليست حبًّا حقيقيًّا، وإذا لم يكن كذلك فهو إذن وهم ولا يقين له، وهذا الوصف يؤكد الوصف (تشبه) السابق (منتفخة) ثم تتوالى الأوصاف (جثامين – باردة – أروحا تتساءل …) فاللفظ الأول/ جثامين لا يدل على الحياة، بل يمكن أن نحمله على المعنى السلبي وهو الموت، ويؤكد ذلك اللفظ الثاني/ باردة، فالبرودة يمكن حملها على معنيين: الأول يؤكد معنى الموت المعنوي للجثامين، أي جثامين ميتة في عطائها؛ فهي ليست قادرة على العطاء، والمعنى الثاني البرودة في المشاعر ، أي جثامين مشاعرها باردة، ومن ثم تحول الوصف من أناس باردون إلى جثامين باردة، أي على الرغم من أنهم بشر إلا أنهم لا يملكون القدرة على العطاء الروحي، ومن هذه الزاوية الرؤيوية هم غير قادرين على منح اليقين للأنا الشاعرة، ثم يأتي الوصف الأخير لهذا العنصر الرابع/ الحبيب (وأرواحًا تتساءلُ كيف رُفعت السماءُ ولماذا هبطنا نحن؟) وهذا الوصف يحمل دلالتين: الأولى أن هذا العنصر وممثليه لا يملكون اليقين؛ فهم في حيرة من أمرهم، ولا يملكون إجابات عن أسئلتهم، ومن ثم لا يمكن أن يمنحوا اليقين؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، أما الدلالة الثانية فهي أن هذه الأرواح/ الحبيب تهيم في أسئلة وجودية لا إجابات يقينية عليها؛ لأنها تبحث فيما وراء الطبيعة، فهي أسئلة ميتافيزيقية، والمفروض في هذا الحبيب أن يبحث عن الطبيعة وليس ما وراء الطبيعة، ومن ثم فهو غير قادر هو الآخر على منح اليقين الذي تبحث عنه الأنا الشاعرة، وهنا تصل الرؤية في هذا المقطع إلى نهايتها المحتومة التي تتعانق مع البداية (لا يقينَ يعرفُني إلا أني هنا رغمًا عني .. ولا وهْمَ أصدقهُ سوى الموتِ ..كلفظةٍ تترجمُها عقولُ العوامِ “الخلاص” عدا ذلك ضبابيٌ مبهمٌ) لتتحول حركة المعنى في النص إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية من أجل الكشف عن ملامحها.
– 3 –
عرفتُ الكثيرَ من الرجالاتِ
فكنتُ الندبةَ الأكثرَ عمقاً في أرواحِهم
وكانوا مفتاحَ اللغزِ المتناميِ في روحي
عرفتُ الكثيرَ حتى أجدتُ تشريحَ تلك المضغةِ الساكنةِ فيّ
عالقةٌ بجلدي رائحةُ الحزنِ كهبةٍ تقيني شرَ تقلباتِ الدهرِ
والبذرةُ المغروسةُ في ظهري لم تطرح بعد على حوافِ القدرِ
حفظتُ الكثيرَ من الأسماءِ ومازلتُ أتعثرُ على العتباتِ
حفظتني كثيرٌ من الوجوهِ
ومازلتُ مشردةً على أرصفةِ اللقاءِ الأخيرِ
يسلط هذا المقطع الضوء على تجارب الأنا الشاعرة، وهو ما يعدّ تطورًا منطقيًّا لحركة المعنى؛ إذ بعد أن سلبت – في المقطع السابق –القدرة على منح اليقين من العناصر الرئيسية المنتظر منها ذلك كان من المنطقي أن تتحدث عن تجاربها التي أعطتها هذه القدرة على التحليل والوصول إلى تلك النتيجة الصادمة، ويمكن تقسيم هذا المقطع إلى قسمين، جاء القسم الأول منه موجزًا بدأته الأنا الشاعرة بإشارة عامة (عرفت الكثير من الرجالات) ومن المعروف أن لفظ (رجالات) تقال في موضعين: الأول إذا كانت جمعًا لكلمة (رجال) فهي بذلك جمع للجمع، والموضع الثاني أن تقال لأشراف القوم وعظمائهم، وعلمائهم، ومن خلال هذه الدلالة اللغوية يمكننا تأويل المعنى، فقد يكون المقصود أن الأنا الشاعرة قد عرفت كثيرًا من الرجال، ومن ثم فإن خبراتها كبيرة في الحكم على الأشياء، وهذا يبرر لها استنتاجاتها التي توصلت إليها في المقطع السابق، وكذلك ما يمكن أن تستنتجه فيما يأتي في المقاطع التالية، بمعنى أن استخدام هذا اللفظ (الرجالات) يمنحها مصداقية الحكم على الأشياء؛ لأنها أصبحت خبيرة بطبائع الناس، وقادرة على الحكم عليهم، أما إذا نظرنا إلى لفظ (رجالات) بمعنى أشراف القوم وعظمائهم وعلمائهم فإن التأكيد على مصداقية حديثها يكون منطقيًّا أكثر؛ إذ إنها لم تختلط بعامة الناس، ولكن اختلطت بعلمائهم وأشرافهم وعظمائهم الذين لديهم الحكمة والعلم والمعرفة الشاملة ببواطن الأمور ودقائقها، ومن ثم فإن حديثها ليس عشوائيًّا، أو من فراغ، ولكنه حديث العالم ببواطن الأمور، والمدرك لحقائق الأشياء، والقادر على التوصيف والاستنتاج الصحيح، ثم تنتقل بعد هذا التمهيد المهم إلى جدلية العلاقة بينها وبين من عرفتهم من الرجالات، فتقول (فكنتُ الندبةَ الأكثرَ عمقًا في أرواحِهم وكانوا مفتاحَ اللغزِ المتناميِ في روحي) نلاحظ أن العلاقة هنا علاقة جدلية، بمعنى أنها أثرت فيهم وتأثرت بهم، ولم تكن العلاقة بينها وبينهم علاقة تلقي المعرفة منهم والخبرة فقط؛ فقد كانت الندبة الأكثر عمقًا في أرواحهم، بمعنى أنها كانت أكثر تأثيرًا فيهم، وتأثيرها كان أكثر عمقًا من تأثير غيرها، وهنا تتجلى شخصيتها المؤثرة، وهذا يؤهلها للحكم على الأشياء والاستنتاج الصحيح، واستخدام لفظ (الندبة) يشير بوضوح إلى عمق التأثير واستمراره، أما هم/ الرجالات فقد استطاعوا حلّ اللغز المهيمن على تفكيرها، والمتحكم في علاقاتها التي يحكمها البحث عن اليقين، لقد كان هذا اللغز يتنامى داخلها، ولا تجد له حلًا، ولكن علاقاتها بكثير من الرجالات قد كان مفتاح هذا اللغز، ثم تختتم الأنا الشاعرة هذا القسم من المقطع بالكشف عن اللغز المتنامي حين تقول (عرفتُ الكثيرَ حتى أجدتُ تشريحَ تلك المضغةِ الساكنةِ فيّ) ففي بداية الجملة تعود وتؤكد على معرفتها بالكثير من الرجالات (عرفت الكثير ….) وكانت النتيجة الوصول إلى الحقيقة التي تؤرقها (تشريح تلك المضغة الساكنة فيَّ) ولكنها ما زالت لم تكشف بصورة قاطعة عن تلك المضغة ومواصفاتها، أو كيف سكنتها حتى أصبحت مهيمنة عليها، وهنا يأتي القسم الثاني من هذا المقطع الثالث تكشف فيه الأنا الشاعرة عن بعض ملامحها؛ إذ تقول:
عالقةٌ بجلدي رائحةُ الحزنِ كهبةٍ تقيني شرَ تقلباتِ الدهرِ
والبذرةُ المغروسةُ في ظهري لم تطرح بعد على حوافِ القدرِ
حفظتُ الكثيرَ من الأسماءِ ومازلتُ أتعثرُ على العتباتِ
حفظتني كثيرٌ من الوجوهِ
ومازلتُ مشردةً على أرصفةِ اللقاءِ الأخيرِ
يبدأ هذا القسم برصد أول ملمح من ملامح الأنا الشاعرة، وهو الحزن، ولكننا نلاحظ أنها تجعل الحزن صفة ملازمة لها لا يفارقها؛ فرائحته عالقة بجسدها، ولكن الحزن هنا يتجلى في صورة إيجابية؛ إذ يقيها تقلبات الدهر، فهو يحميها ولا يدمرها، ثم تنتقل إلى صفة أخرى حين تقول: (والبذرةُ المغروسةُ في ظهري لم تطرح بعد على حوافِ القدرِ) إنها غير قادرة على العطاء؛ فالبذرة المغروسة في ظهرها لم تطرح بعد، واستخدام لفظ البذرة يدل على العطاء؛ لأنها مؤهلة للنمو والازدهار، ولكنها ما زالت بذرة لم تنْمُ بعد، ومن ثم لا امتداد لها – أي الأنا الشاعرة –على أرض الواقع، ثم تعود للحديث مرة أخرى عن تجاربها وخبراتها المكتسبة، ومن ثم قدرتها على التحليل والوصول إلى اليقين، ولكنها ما زالت غير قادرة على ذلك (حفظتُ الكثيرَ من الأسماءِ ومازلتُ أتعثرُ على العتباتِ .. حفظتني كثيرٌ من الوجوهِ ومازلتُ مشردةً على أرصفةِ اللقاءِ الأخيرِ) إن تجاربها لم تقدر على منحها اليقين المرجو، ولا هي قادرة أيضًا على الوصول بها إلى مستقرّها المراد، على الرغم من أنها معروفة من الجميع وعارفة بكثير من الوجوه، وهي إشارة إلى تعدد خبراتها واشتهارها بين الجميع من الأسماء المشهود لها بالعلم والخبرة بأنها تملك كل آليات العطاء، ومع ذلك فهي ما زالت تتعثر على العتبات، وما زالت مشردة تبحث عن اللقاء الأخير، أي تبحث عن ضفة ترتاح عليها، وتجد فيها أجوبة يقينية لتساؤلاتها التي تلهو برأسها كما ورد في بداية النص (رأسي تلهو بهِ التساؤلاتُ كثُلةِ من الكثبانِ المتحركةِ على زوايا الارصفةِ .. جسدي يعدو بين الأزقةِ .. يتلصصُ خلف الأبوابِ المواربةِ رغم قناعتي أن لا محطَ لالتقاطِ الأنفاسِ وغالباً لا سبيل للوصولِ) ويبدو أنها تدور في حلقة مفرغة؛ لأنها أقرت منذ البداية ألا محط لالتقاط الأنفاس، ولا سبيل للوصول، ومعنى ذلك أن ما تفعله ما هو إلا فعل عبثي؛ لأنها تدرك تمامًا، ومنذ البداية ألا سبيل للوصول، لقد صوَّرت حركة المعنى في المقاطع الثلاثة الأولى حالة البحث والحيرة وعدم اليقين التي هيمنت على الأنا الشاعرة، ويقينها أن الوصول إلى إجابات يقينية على تساؤلاتها التي تلهو برأسها محال، وهنا ينتقل النص إلى المقطع الرابع؛ لتنكشف الدلالة أكثر، ويتحرك المعنى نحو زاوية أخرى من زوايا الرؤية.
– 4 –
أبحثُ عن الربِ ..
أناديهِ في عتمتيِ فلا يجيبُ
أدورُ أسفلَ المداراتِ الكبرى.. لا أرى
أحلقُ ..لا أبصرُ
لكني أطفوُ كنجمةٍ تحبُ كل شيء حيٍ..
أختلس حياةً بمعناها الواسعِ
دون أن يهتمَ أحد من أي عجينٍ شُكلت
أفكاري الوجوديةِ كطائرٍ من نورٍ
وأفكاري العبثيةِ قبسٍ من نارٍ
حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي
في هذا المقطع تصبح الدلالة أكثر انفتاحًا؛ إذ تصرح الأنا الشاعرة ببعض الأسئلة التي تلهو برأسها حين تقول في البداية (أبحث عن الرب …) وليس بالضرورة هنا أن يكون لفظ الرب جاء على حقيقته، ولكنه قد يشير فيما يشير إلى التساؤلات عن كل ما هو ميتافيزيقي، والأسباب الكامنة وراء الأشياء، وقد يكون هذا التأويل أكثر قبولا إذا عرفنا أن الأنا الشاعرة أشارت في السابق إلى ذلك، ولكن بحثها لا يجد له شاطئًا تستقرُّ عليه، وعندما تدور أسفل المدارات الكبرى لا ترى، وعندما تحلق لا تبصر، وفي جميع الأحوال فإن بحثها لم يصل إلى نتيجة، ولذلك تعود إلى الواقع لتجد نفسها تطفو كنجمة تحب كل شيء حي، أي أنها ترى أن البحث في الميتافيزيقا لا طائل وراءه، ولا إجابة شافية يمكن أن تستريح إليها نفسها، أما الواقع الحي فهو الشيء الحقيقي الملموس الذي يمكن أن تتفاعل معه، وتعيشه وترى فيه نفسها، ولذلك نراها تختلس حياة بمعناها الواسع دون البحث عن ميتافيزيقا الأشياء، فلا أحد يهتم من أي عجين شكّلت، بمعنى أن الناس تعيش حياتها دون أن تبحث عن بداياتها الأولى، أو أن البحث عن البدايات الأولى لا معنى له، ولا تأثير له في سيرورة الحياة الواقعية، ولا أثر له في الواقع المعيش، فالناس تعيش حياتها، وإن لم تعرف بداياتها في الوجود، ودون أن تبحث عن إجابة للأسئلة الوجودية الكبرى، ولكن الأنا الشاعرة لا تهدأ نفسها على الرغم من كل ما سبق، ولذلك نرى حيرتها تطل من بين سطورها؛ إذ تعود فتقول (أفكاري الوجودية كطائر من نور .. وأفكاري العبثية قبس من نار .. حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) وإذا وضعنا هذا القول أمام قولها في المقطع نفسها (لكني أطفوُ كنجمةٍ تحبُ كل شيء حيٍ.. أختلس حياةً بمعناها الواسعِ) نجد القولين يكادان يتقابلان، فهذا القول يثبت أنها مقتنعة بالحياة في معناها الواسع دون البحث عن إجابة لتساؤلات وجودية كبرى؛ لأنها تساؤلات تجعل الإنسان يزداد حيرة، ولا تصل به إلى يقين، ولكن ذلك يكاد يتناقض مع قولها بعد ذلك مباشرة (حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) وهو ما يعبر بصورة ما عن الحيرة التي تعيشها الأنا الشاعرة، ولكن اللافت في قولها (أفكاري الوجودية كطائر من نور.. وأفكاري العبثية قبس من نار.. حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) أنها وصفت الأفكار مرة بأنها وجودية، ومرة أخرى بأنها عبثية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى معنى قد يبدو للوهلة الأولى أنه غير مرتبط بالمعنيين السابقين/ أفكاري الوجودية وأفكاري العبثية، وفي الخبر الأول للأفكار كان وصفها بأنها كطائر من نور في إشارة واضحة إلى أن هذه الأفكار تخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، أي تكشف الرؤية والطريق الصحيح، وفي الخبر الثاني عن الأفكار كان وصفها بأنها قبس من نار، وهذا يعيدنا إلى الإشارة القرآنية في قصة النبي موسى إذ رأى نارًا، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ (سورة القصص، الآية 29) وفي آية أخرى يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِذۡ رَأى نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى﴾ (سورة طه، الآية 10) ومن الملاحظ أن قبس النار ذو دلالتين: الأولى الإيناس؛ إذ ورد المعنى في الآيتين (آنست نارا) فهي مصدر أنس واطمئنان، والدلالة الثانية التدفئة (لعلكم تصطلون) أي أن النار تنقذكم من برودة الجو، وهو مصدر هلاك للإنسان الباحث عن قبس النار، وإذا نقلنا هاتين الدلالتين إلى النص فإن الأفكار التي قد تبدو عبثية (أفكاري العبثية قبس من نار) هي مصدر خلاص للإنسان من الهلاك، وهي كذلك مصدر أنس واطمئنان، وإذا كان النص في هذا المقطع لم يصرح بماهية هذه الأفكار فإننا يمكن أن نستنتج بعض ملامحها من خلال تلمُّس بعض الإشارات الواردة في بعض الجمل، مثل (أبحثُ عن الربِ – قبس من نار) فالجملة الأولى تشير إلى الأفكار المتعلقة بالفكر الديني، ولذلك جاء وصفها بالوجودية (أفكاري الوجودية) والجملة الثانية تشير إلى الأفكار المتعلقة بالمرأة؛ إذ وردت – كما أشرنا سابقا – هذه الأفكار في قصة النبي موسى – عليه السلام – مرتبطة بأهله، وهو ما يبرر ربطنا التأويلي بينها وبين المرأة، وقد وصف النص هذه الأفكار بالعبثية (أفكاري العبثية … قبس من نار) ووصفها بالعبثية يشير إلى أن البعض يرى أنها أفكار مستوردة ولا مكان لها في بيئتنا الاجتماعية، ولذلك فإنها تعبث بالمنظومة الاجتماعية المتوارثة، على أن الأنا الشاعرة أشارت إلى أن هذه الأفكار كطائر من نور في وصف مباشر بأنها تحمل الخير والهداية وليست عبثًا، ولا هي خروج عن منظومات المجتمع المتوارثة، ثم تختم الأنا الشاعرة هذا المقطع بأن هذه الأفكار تثير حروبًا (حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) ووصف الحروب بأنها أهلية تشير إلى أنها بين أناس ينتمون إلى منظومة اجتماعية واحدة؛ لأن الحروب الأهلية لا تكون إلا بين أهل مجتمع واحد. لقد أعربت السطور الشعرية عن رؤية فكرية عميقة في النص، تتخفى أحيانا، وتتجلى أحيانا أخرى، ولكنها تمسك بتلابيب الرؤية الفكرية، وتتحكم في حركتها صعودًا وهبوطًا في النص، وتتابع الأنا الشاعرة حركة المعنى؛ لتتكشف الرؤية وتنفتح الدلالة أكثر في المقطع الخامس؛ إذ تضيء في هذا المقطع زاوية أخرى من زوايا الرؤية الفكرية المتخفية في النص.
– 5 –
غامرتُ كثيراً
واستسلمتُ أكثرَ
حتى صارَ جوابي الأصحُ ..
ألّا جوابَ
ضاجعتني الحروف حتى علقتَ بين خيوطِ المجازِ وكذباتِه اللذيذةِ
فكنتُ الجرحَ والسكينَ والدمَ في قصيدةِ القبيلةِ
اعترتني نشوةُ الوصولِ على شطآنِ الوقتِ حين ركبتُ صهوةَ الزمكانِ
لكني عجزتُ عن التحررِ من شظايا اللحظةِ العالقةِ فيّ
مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري
والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي
مازالت تتسكعُ الحكايا خلف رهبتي
وصوتٌ ما يُربكُني كلما قالت امرأة .. مدد
مازالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماءِ
يهللُ الجميعُ على أثرها…الله
يأتي هذا المقطع محاولة ضمن المحاولات المستمرة من الأنا الشاعرة للوصول إلى يقين ولكنها لن تستطيع الوصول، ويمكن تقسيم هذا المقطع من النص إلى أربعة أقسام، يبدأ القسم الأول بقولها:
غامرتُ كثيرًا
واستسلمتُ أكثرَ
حتى صارَ جوابي الأصحُ ..
ألّا جوابَ
في هذا القسم من المقطع تلخص الأنا الشاعرة تجربتها في ألفاظ موجزة لا تحتمل تأويلا أو مراوغة (غامرت كثيرا واستسلمت أكثر) وهكذا في كلمتين تحملان كل عناصر التجربة التي خاضتها في سبيل الوصول إلى يقينها المنشود، والمغامرة على الرغم من أنها أصبحت كلمة متداولة فإنها تحمل كل معاني الإصرار والمحاولات المستمرة؛ لأن المغامرة تجربة مثيرة وغير عادية يمر بها الشخص، وقد تكون أحيانًا جريئة وخطرة مع نتائج غير مؤكدة، وعادة يكون الخطر جسديًّا، وأحيانا يشير المصطلح للخطر المعنوي أو النفسي، وتجارب المغامرة تخلق الإثارة النفسية والفسيولوجية لدى المغامر، ومن الممكن أن تكون إيجابية أو تكون سلبية، وعادة تتسم المغامرات بالمخاطرة سواء كانت مخاطرة نفسية أو جسدية (ينظر: مغامرة – ويكيبيديا، بتصرف) ومن الألفاظ المصاحبة لكلمة المغامرة هي المخاطرة والمجازفة، وقد ورد الفعل (غامر) في المعاجم العربية دالا على المخاطرة والمجازفة (غامَرَ بــــــ) يغامر، مُغامَرةً، فهو مغامِر، والمفعول منه مغامَرٌ به، وغَامَرَ فلانٌ: رمَى بنفسه في الشدائد، وغَامَرَ فلانًا: باطَشَه وقاتله ولم يُبال الموتَ، فهو مُغامِر، وغامر فلانٌ بماله، أي جازف به، وعرَّضَه للخطر) ومعنى ذلك أن لفظ المغامرة مصحوب دائما بالمخاطرة والمجازفة والمقاتلة، وعدم المبالاة بالأهوال والشدائد التي يتعرض لها المغامر، وإلى جانب ذلك فإن المغامرة غير مؤكدة النتائج؛ فالمغامر يواجه ما يواجهه وهو يعلم تماما أن النتائج المرجوة قد لا تتحقق، ولكنه يقوم بالمغامرة المحفوفة بالمخاطر، وهنا تأتي الكلمة الثانية التي استخدمتها الأنا الشاعرة (واستسلمت أكثر) لتكون نتيجة عادية لا غرابة فيها؛ لأن المغامرة ليس بالضرورة أن تحقق أهداف المغامر، ولكن الأنا الشاعرة وصلت إلى نتيجة أخرى غير التي كانت تتوخَّاها، وهي ما أقرت به في السطر الأخير من هذا الجزء من المقطع (حتى صارَ جوابي الأصحُ ..ألّا جوابَ) لقد توصلت إلى أنه لا جواب لأسئلتها التي تسعى وراء معرفة إجاباتها، فهل فشلت مغامرة الأنا الشاعرة؟ الحقيقة أنها لم تفشل؛ لأنه ليس بالضرورة أن تجد ما كانت تبحث عنه، ولكنها قد تجد شيئا آخر غير متوقع، وهو ما حدث لها؛ إذ كان جوابها الأصح، ولم تقل الصحيح، هو أنه لا جواب، أي لا إجابة على أسئلتها، فهل تسرَّب اليأس إلى الأنا الشاعرة بعد وصولها إلى هذه النتيجة؟ هنا يأتي القسم الثاني من هذا المقطع، فتقول:
ضاجعتني الحروف حتى علقتُ بين خيوطِ المجازِ وكذباتِه اللذيذةِ
فكنتُ الجرحَ والسكينَ والدمَ في قصيدةِ القبيلةِ
يبدأ هذا القسم بفعل قد يبدو غريبًا في البداية (ضاجعتني الحروف) وكان من المتوقع أن تقول (ضاجعتُ الحروف) ولكن التأمل في الصيغة المستخدمة يقودنا إلى الدلالة الحقيقة المتخفية وراء هذا الاستخدام؛ فلفظ (ضاجعتني) يدل على أنها/ الأنا الشاعرة هي التي سوف تحمل المعنى، أي أن الحروف سوف تلقي بأسرارها للأنا الشاعرة لتلد الأنا الشاعرة هذه الأسرار على هيئة صيغ معبرة عن الدلالة المبتغاة، ولو قالت (ضاجعتُ الحروف) لكانت الدلالة مختلفة؛ لأنها في هذه الحالة ستكون الأنا الشاعرة على دراية بما يحدث وبالإجابات الحقيقية، وهذا يتناقض تمامًا مع فكرة المغامرة والبحث عن إجابات لتساؤلاتها التي تلهو برأسها؛ فلا معنى للمغامرة إذا كانت النتائج معروفة مسبقًا، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا في الجزء المتعلق بالتشكيلات اللغوية في النص، ثم يأتي التعبير الثاني في هذا السطر الشعري (حتى علقتُ بين خيوطِ المجازِ وكذباتِه اللذيذةِ) وهو يعبر بوضوح عن عدم الوصول إلى ما تريده الأنا الشاعرة، وقد بدا ذلك في قولها (خيوط المجاز) وهما لفظان محملان بكل معاني المغايرة للحقيقة؛ فلفظ المجاز في الأساس يقابل لفظ الحقيقة، وهذا يعني أن ما علقت به الأنا الشاعرة هو خيوط للمجاز أي للوهم أو لما هو غير حقيقي؛ فالمجاز هو استخدام الألفاظ في غير معانيها الحقيقية، وهذا يعني أن الأنا الشاعرة لم تستطع الوصول إلى حقيقة مؤكدة يمكن أن تستند إليها، وهذا يؤكد ما قالته في القسم السابق من هذا المقطع (حتى صارَ جوابي الأصحُ ..ألّا جوابَ) ويؤكد ذلك قولها عن المجاز (وكذباته اللذيذة) أي أن الناس تميل إلى المجاز/ ضد الحقيقة، وتستمتع بذلك/ اللذيذة، أو أنها لا تريد أن تعرف الحقيقة، ومن ثم كان قولها (فكنتُ الجرحَ والسكينَ والدمَ في قصيدةِ القبيلةِ) في هذه الجملة البسيطة في ألفاظها العميقة في دلالاتها تعبر الأنا الشاعرة عن قضيتها الكبرى التي هي في الحقيقة رسم لملامح البنية العقلية والفكرية لمجتمعها، ومن الملاحظ في هذه الجملة استخدام ألفاظ قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المعجم اللغوي للنص (الجرح – السكين – الدم – القبيلة) فما علاقة هذه الألفاظ بالنص ورؤيته الفكرية المتخفية وراء تلك الشبكة من العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية شديدة؟ تبدأ هذه الجملة بالفعل الناسخ (كنتُ) مع اسمه الدال على الأنا الشاعرة؛ فالأنا الشاعرة هنا تتحدث عن نفسها من خلال الضمير/ التاء في (كنتُ) ثم يأتي خبر الفعل الناسخ صادمًا/ الجرح، فأي جرح تتحدث عنه؟! ولم تتوقف عند هذا الحد، بل تابعت بمعطوفات (والسكين – والدم) أي أنها/ الأنا الشاعرة كانت السكين الذي جرح، كما كانت هي الجرح نفسه، وكانت الدم الذي سال من الجرح، الحقيقة أن الأنا الشاعرة تعبر هنا عن تساؤلاتها التي ظلت تلهو برأسها كما ورد في مطلع النص، وهي تساؤلات مشروعة ومنطقية، ولكن هذه التساؤلات لا إجابات يقينية عليها، وتقودنا إلى صراعات وخلافات لا حدود لها، تنعكس على أصحاب هذه التساؤلات أنفسهم، كما بدا من خلال (فكنتُ الجرحَ والسكينَ والدمَ في قصيدةِ القبيلةِ) فالأنا الشاعرة/ العقلية الباحثة عن اليقين هي السكين، وهي الجرح، وهي الدم، أي أن كل شيء ينعكس عليها/ الأنا الشاعرة/ العقلية الباحثة عن اليقين بتساؤلاتها المستمرة، ويؤكد هذا التوجُّه في التأويل اللفظ الرابع المستخدم في هذه الجملة، والمشار إليه سابقا، وهو لفظ (القبيلة) ومن المعروف أن هذا اللفظ يشير إلى التجمع البشري المنسجم في عاداته وتقاليده التي تمثل منظومة قيمه الحاكمة لأفراده، والمتحكمة في قراراتهم وبنى تفكيرهم، فإذا كانت الأنا الشاعرة هي السكين الذي جرح قصيدة القبيلة، أي منظومتها المتوارثة التي تستند إليها، وتتباهى بها/ قصيدة، فمعنى ذلك أن تساؤلاتها التي ظلت تلهو برأسها هي المسؤولة عن هذا الجرح والدم الذي سال، بيد أننا نلاحظ أن الأنا الشاعرة أشارت إلى أنها هي الدم (فكنت الجرح والسكين والدم) وهذا يعني أن النتيجة محسومة ضدها وضد تساؤلاتها، وليس معها ومع البحث عن إجابات لهذه التساؤلات، مما يعني بطريقة أو بأخرى الحكم على القبيلة/ المجتمع بأنه تقليدي، وأن محاولات الخروج على هذه التقليدية محكوم عليها بالفشل، ومن ثم كان قولها في بداية هذا المقطع (غامرت كثيرا واستسلمت أكثر حتى صار جوابي الأصح ألا جواب) منطقيًّا، وكان منطقيًّا كذلك استخدامها لفظ المغامرة/ غامرتُ؛ لأنه كما أشرنا سابقا أن المغامرة لا تستدعي بالضرورة أن تكون نتائجها مؤكدة، ويؤكد هذه الزاوية التأويلية ما أشار إليه النص سابقا في قوله (أفكاري الوجودية كطائر من نور .. وأفكاري العبثية قبس من نار.. حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) فليس من العبث أن ترد ألفاظ مثل (أفكاري الوجودية – أفكاري العبثية – حروب أهلية – شياطين العالم في رأسي) فمن المؤكد أن هذه الألفاظ لها ارتباط وثيق بحركة المعنى في النص، وكذلك لها ارتباط وثيق بالرؤية الفكرية التي أخفاها النص خلف شبكة العلاقات اللغوية المتشابكة، وأراد من المتلقي أن يكتشفها؛ إذ ترتبط بالرسالة التي أراد النص إيصالها إلى المتلقي، ويراوغ في إخفائها؛ كي يشعر المتلقي بنشوة الاكتشاف حين يكتشفها، ثم تتخذ الأنا الشاعرة من إقرارها السابق (علقتُ بين خيوطِ المجازِ وكذباتِه اللذيذةِ) مدخلا للقسم الثالث من هذا المقطع؛ إذ تقول:
اعترتني نشوةُ الوصولِ على شطآنِ الوقتِ حين ركبتُ صهوةَ الزمكانِ
لكني عجزتُ عن التحررِ من شظايا اللحظةِ العالقةِ فيّ
مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري
والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي
مازالت تتسكعُ الحكايا خلف رهبتي
وصوتٌ ما يُربكُني كلما قالت امرأة .. مدد
مازالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماءِ
يهللُ الجميعُ على أثرها…الله
في هذا القسم الثالث من المقطع تأخذنا الأنا الشاعرة في جولة للبحث عن تاريخ هذه النتيجة التي وصلت إليها (جوابي الأصح ألا جواب – كنتُ الجرح والسكين والدم في قصيدة القبيلة) لتصل إلى أن الأمر متوارث، وليس جديدًا (اعترتني نشوةُ الوصولِ على شطآنِ الوقتِ حين ركبتُ صهوةَ الزمكانِ لكني عجزتُ عن التحررِ من شظايا اللحظةِ العالقةِ فيّ) حين تبدأ بالبحث في الزمان والمكان، أي تاريخ المكان وحركة الإنسان فيه، وكانت تشعر بالنشوة لكن لم تستطع أن تجد اختلافًا، أو إجابة عن تساؤلاتها (عجزتُ عن التحررِ من شظايا اللحظةِ العالقةِ فيّ) وهنا المقابلة واضحة بين (صهوة الزمكان – اللحظة العالقة فيّ) فالتعبير الأولى يشير إلى الماضي، والتعبير الثاني يشير إلى الحاضر/ الأنا الشاعرة/ اللحظة العالقة فيَّ، وكأن الأنا الشاعرة لا ترى فرقًا بين البنية الفكرية في الماضي والبنية الفكرية في الحاضر، فكلتاهما وجهان متشابهان وإن اختلف الزمان أو المكان، ومن ثم فلا أمل في وجود يقين تبحث عنه الأنا الشاعرة، وهنا جاء قولها مباشرة (مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري) أي أن المعاناة التي عاناها من سبقوها على هذا الدرب محفورة في صدرها، ثم ينتقل النص بعد ذلك إلى إيراد جملة ذات دلالة مهمة في هذا السياق حين يقول (والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي) وما المفردة التي أشعلها الثائرون في رأسها سوى تلك الأفكار التي تلهو برأسها كما ورد في بداية النص، وهو ما أدى إلى وصف أفكارها مرة بأنها كطائر من نور، ومرة أخرى بأنها قبس من نار مع اختلاف الصفة في كل مرة للفظ أفكاري (أفكاري الوجودية كطائر من نور.. وأفكاري العبثية قبس من نار.. حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي) ثم تصور ذلك كله بأنه حروب أهلية، وإيراد هذه الجملة (والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي) يدل على أنها هي الفكرة نفسها التي تمسك بتلابيب الرؤية في النص؛ إذ تكررها الأنا الشاعرة بأكثر من صيغة وفي أكثر من مكان في النص، كأنها تريد أن تظل تلك الفكرة حاضرة في ذهن المتلقي دائما، وتكون مصباحه في أثناء تجواله بين شعاب النص وأوديته وتضاريسه المختلفة، ثم ينتقل النص إلى القسم الرابع والأخير من هذا المقطع، فتقول:
مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري
والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي
مازالت تتسكعُ الحكايا خلف رهبتي
وصوتٌ ما يُربكُني كلما قالت امرأة: مدد
مازالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماءِ
يهللُ الجميعُ على أثرها…الله
تبدأ الأنا الشعرية هذا القسم بالالتفات إلى زاويتين متضادتين (الماضي – الحاضر) أما الماضي فيمثله قولها (مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري) وأما الحاضر فيمثله قولها (والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي) ولكن اللافت للنظر أن الأنا الشاعرة هي القاسم المشترك بين الزاويتين المتضادتين بحضورها في القولين السابقين من خلال الضمير المتصل الياء (صدري – رأسي) واستخدام الفعل (ما زال) يدل على الاستمرار، وتتوالى الاستخدامات على المنوال نفسه؛ إذ تقول (مازالت تتسكعُ الحكايا خلف رهبتي – ما زالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماء) وفي المقابل تقول (وصوت ما يربكني كلما قالت امرأة: مدد – يهلل الجميع على أثرها .. الله) وهذا القسم من المقطع يحمل الكثير من الدلالات؛ ففي بدايته تقرّ الأنا الشاعرة بأن الراحلين حاضرون في ذهنها بقوة، وجراحهم لا تغيب عنها؛ ففي كل مساء يأتون بذكرياتهم وجراحهم، ويملؤون صدرها ألـمًا، واستخدمت لفظ المساء؛ لأنه يدل على الاستغراق في التأمل، واستخدمت لفظ ما زال؛ لتدل على الاستمرارية التي لا تنقطع، ولا يقتصر التذكر على جراح الراحلين فقط، بل يمتد إلى حكاياهم التي تتحكم في الأنا الشاعرة، فتهيمن الرهبة عليها خوفًا من أن تكون مثلهم، ثم تقرُّ الأنا الشاعرة بأن الألم يعتصرها حين تقول (ما زالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماء) دلالة على اليأس من الخلاص، وبخاصة أن هذا الإقرار يأتي بين ظاهرتين: الأولى بدت من خلال قولها (وصوتٌ ما يُربكُني كلما قالت امرأة: مدد) وقد يعبِّر ذلك عن انهزامية المرأة، ورضاها على ما يرتكب في حقها، بل التوحد معه والترويج له من خلال القول (مدد) وهو لفظ يقال في البيئة الصوفية عندما يشعر الصوفي بالذوبان في الحالة التي يعيشها، ويغيب عن العالم المحسوس ليعيش في عالم آخر، أما الظاهرة الثانية فإنها تتبدى في قول الأنا الشاعرة (يهللُ الجميعُ على أثرها…الله) في إشارة واضحة عن الرضا التام، والإعجاب الشديد بما قالته المرأة في الظاهرة الأولى (مدد) ولفظ الجميع هنا يأخذنا إلى دلالة المجتمع، كأن المجتمع كله يريد أن تعيش المرأة هذه الحالة من التوحد والاندماج مع ما هو سائد، ولذلك كانت تعبيرات الأنا الشاعرة عميقة الدلالة حين قالت (صرخاتي تتلوى كأوتار صماء) إذ اشتمل التعبير على أكثر من كلمة دالة (صرخاتي – تتلوى – صماء) فكلمة صرخاتي جاءت جمعًا لتدل على أنها ليست صرخة واحدة، كما تدل على رفضها التام وثورتها على ما يحدث، أما كلمة تتلوى فمن الواضح أنها تدل على الألم الشديد، ثم يأتي التعبير الأخير/ كأوتار صماء ليكون خاتمة دالة على أن صوت الأنا الشاعرة غير مسموع، ولا يجد له صدى في أي مكان، وهو ما جعلها تصف أفكارها بالعبثية؛ لأنها لا تجد استجابة فعلية لها، ثم ينتقل النص إلى المقطع السادس لتكتشف الأنا الشاعرة الحقيقة المريرة التي ظلت تتهرب من الإقرار بها، على الرغم من أن ملامحها كانت تطل برأسها من خلال المقاطع السابقة، فتنتقل الأنا الشاعرة إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية الفكرية، وتنقل جزءًا آخر من رسالتها إلى المتلقي.
– 6 –
عرفتُ كيف أتقي شرَ النهارِ والبحرِ
كيف أعيدُ تدويرَ قماشةَ التاريخِ لأصنعَ قصصًا محشوةً تخدعُ البشرَ تمامًا بوداعتِها
عرفتُ سرَ اللعبةِ
لكن لم أنجُ بعدُ من نعومةِ الموسيقى وأشباحِي الراقصة بكفِ الليلِ
صرتُ عنقاءَ بجناحين من جنونٍ واختلافٍ
أحلقُ هربًا من أقصى العتمةِ إلى قلبِ الضوءِ.. والعكسُ
أسقطُ رأسًا على عقبٍ دون إصابةٍ ترصدُها” X-ray ”
يبدأ هذا المقطع بالفعل (عرف) متصلا بتاء الفاعل الدال على المتكلم/ الأنا الشاعرة، ولكن النص يكسر أفق التوقع؛ فقد كان من المتوقع أن تقرّ الأنا الشاعرة من خلال الفعل (عرف) أنها وصلت إلى اليقين، أو وصلت إلى الطريق الموصلة إلى اليقين، ولكننا نفاجأ أنها تقول (عرفت كيف أتقي شر النهار والبحر) أي أنها عرفت كيفية التعامل مع الأشياء، واتقاء شرها، ولم يتعلق الأمر بتساؤلاتها التي كانت تلهو برأسها في بداية النص، كما لم يتعلق بأفكارها الوجودية، أو أفكارها العبثية، وهنا نتوقف أمام لفظيْ (النهار – البحر) نتعرف على أسباب وردوهما في هذا المكان من النص، وماهية الشر الكامن فيهما، أما لفظ النهار فإنه يرتبط بحركة الناس، والسعي في الحياة، وهذه الحركة وذلك السعي ينتج عنهما حوارات ونقاشات تتعلق بمفردات الحياة، والأنا الشاعرة وأفكارها الوجودية، وأفكارها العبثية، وتساؤلاتها التي لا تنتهي، كل ذلك لا ينفصل عن حركة الحياة، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة عرفت كيفية اتقاء شر حركة الناس في المجتمع في أثناء النهار، والتي تتعلق بالضرورة بما تطرحه الأنا الشاعرة من أفكار وجودية ترتبط بوجود الإنسان وحركة حياته، كما ترتبط بأفكارها العبثية التي تتعلق بالمرأة ووجودها في منظومة الحياة الناشئة عن النهار، وترتبط كذلك بالتساؤلات التي ظلت تلهو برأس الأنا الشاعرة، وأما لفظ البحر فإنه يحمل معنى الغموض والامتداد واللانهائية، وإمكانية الهلاك فيه، ومن ثم فإن معرفة كيفية اتقاء شره ضروري من وجهة نظر الأنا الشاعرة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الأنا الشاعرة تشير إلى أنها أصبحت جزءاً من منظومة التعايش مع الواقع بكل تناقضاته ومآسيه، ومأساوية أفكاره؛ إذ أصبحت – الأنا الشاعرة – تمارس الخداع الذي يمارسه الآخرون (كيف أعيدُ تدويرَ قماشةَ التاريخِ لأصنعَ قصصًا محشوةً تخدعُ البشرَ تمامًا بوداعتِها) ونلاحظ في هذا السطر الشعري ورود ألفاظ (تدوير – قصصا – تخدع – وداعتها) وكل كلمة من هذه الكلمات تحمل دلالة محددة في سياقها؛ فالأنا الشاعرة وجدت أن طرح الأسئلة مباشرة لا يجدي نفعًا، ويجلب الكثير من الصراعات، ومن ثم لجأت إلى إعادة تدوير قماشة التاريخ، أي استغلال التاريخ، وقصصه من أجل خدمة أهدافها، ولكنها لا تورد القصص بسياقها التاريخي المعروف، بل تعيد تدويرها، أي تعيد استخدامها في أغراض أخرى غير الأغراض التي وردت في سياقها التاريخي المعروف؛ ذلك أن إعادة التدوير للأشياء يعني إعادة استخدامها في غير ما كانت عليه، وهو تعبير يشير إلى الأشياء التي استهلكت، وتم الاستغناء عنها، فيصبح إعادة تدويرها ضروريا؛ من أجل إعادة استخدامها مرة أخرى، فإذا نقلنا هذه الدلالة إلى قول الأنا الشعرية (عرفت ……. كيف أعيدُ تدويرَ قماشةَ التاريخِ لأصنعَ قصصًا محشوةً تخدعُ البشرَ تمامًا بوداعتِها) فإن هذا يعني أنها عرفت كيفية استغلال القصص التاريخية، وأحداث التاريخ من خلال توظيفها في خدمة أهدافها، وتلاحظ أنها تقول عن هذه القصص بأنها (…. محشوة تخدع البشر تماما بوداعتها) أي أنها تصوغ هذه القصص بحرفية عالية بحيث لا يستطيع البشر أن يدركوا الهدف الخفي للأنا الشاعرة، وتقوم بإيداع هذه القصص ما تريد من أفكار وجودية، أو أفكار عبثية ظلت تلهو برأسها طويلا، وأخيرا اهتدت إلى كيفية التعبير عن أفكارها، ولكنها تقر بأنها لا تنجو أحيانا؛ إذ تقول:
لكن لم أنجُ بعدُ من نعومةِ الموسيقى وأشباحِي الراقصة بكفِ الليلِ
صرتُ عنقاءَ بجناحين من جنونٍ واختلافٍ
أحلقُ هربًا من أقصى العتمةِ إلى قلبِ الضوءِ.. والعكسُ
أسقطُ رأسًا على عقبٍ دون إصابةٍ ترصدُها” X-ray ”
على الرغم من أنها اهتدت إلى طريقة رأتها معبرة عما تريد من خلال التخفي وراء صياغات متقنة لأفكارها، فإنها أحيانا تشعر أنها بذلك تعيش في العتمة؛ لأنها تريد أن تعبر عن أفكارها صراحة دون مواربة أو التخفي وراء قصص تاريخية أعادت تدويرها ببراعة، فتلجأ إلى طريقتها الأولى ظنًّا منها أنها تستطيع ما تريد، ولكنها تسقط دون أن يلاحظ أحد سقوطها، فتقول (أحلقُ هربًا من أقصى العتمةِ إلى قلبِ الضوءِ.. والعكسُ … أسقطُ رأسًا على عقبٍ دون إصابةٍ ترصدُها” X-ray ” ) لقد استطاعت الأنا الشاعرة أن تنقلنا ببراعة إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية كاشفة عن رسالتها الفكرية التي أودعتها النص، وتقودنا بذلك إلى النهاية في المقطع السابع.
– 7 –
بارعةً..
ألضُمُ طرفي الكرةِ الأرضيةِ بخيطٍ من حريرٍ
أرعى مخاوفي ،أهشُ عليها
أنثرُها أجنحةً..
وأتبعُها إذا تبقى في العمرِ عمرٌ
مارستُ ألفَ عادةٍ جديدةٍ
شرعتُ قوانيني الخاصةَ
رسمتُني أنهاراً من فكاهةٍ وخبثٍ
خنادقَ من رحيلٍ
جنازاتٍ لأجسادٍ باليةٍ
حكايا انهزامٍ
و انتصاراتٍ شبهَ عظيمةٍ
كتبتُني حتى استحال على عقلي الخلاصُ مني
تمر الأيام..
ومازلتُ أُحييني في نصٍ لأقتلَني في آخر
لعلني أتشظى ذاتَ نصٍ..
اتلاشى بتأنٍ وهدوءٍ.
يبدأ المقطع بلفظ (بارعة) وهو اللفظ المعبر بوضوح عن النتيجة التي وصلت إليها الأنا الشاعرة، وهي البراعة في جمع المتضادات والمتناقضات في بوتقة واحدة، ثم صياغتها صياغة متقنة تبدو من خلالها مغايرة تماما لطبيعتها (ألضُمُ طرفي الكرةِ الأرضيةِ بخيطٍ من حريرٍ .. أرعى مخاوفي ،أهشُ عليها .. أنثرُها أجنحةً) وهو ما عبرت عنه في المقطع السابق بقولها (عرفت كيف أتقي شر النهار والبحر) ولكنها إذا كانت في المقطع السابق قد أشارت بأنها عرفت فإنها في هذا المقطع قد أشارت بأنها برعت، وهو تطور منطقي؛ لأنها عرفت كيفية الجمع بين المتناقضات/ طرفي النهار والبحر، وحوَّلت القصص التقليدية المتوارثة إلى صياغة جديدة أودعت فيها ما تريد من أفكار في خداع متقن بحيث تكون وادعة يتقبلها الجميع دون أن يفتشوا وراء أهدافها الحقيقية، ثم أتقنت هذا الفعل حتى صارت بارعة فيه، وهو ما ورد في هذا المقطع (ألضمُ طرفي الكرةِ الأرضيةِ بخيطٍ من حريرٍ .. أرعى مخاوفي ،أهشُ عليها .. أنثرُها أجنحةً) والمتضادات المشار إليها هنا هي ما تدل عليه الكلمات (طرفي الكرة الأرضية) فالطرفان بالضرورة مختلفان؛ لأنهما يشيران إلى الشرق والغرب أو الشمال والجنوب، وإن كانت الإشارة إلى الشرق والغرب أكثر قبولا؛ لأن كلا منهما يدل على ثقافة محددة ومغايرة تماما للثقافة الأخرى، وكأن الأنا الشاعرة تريد أن تشير إلى أنها تجمع بين متناقضات نظرتين مختلفتين للأشياء وللوجود، وهو ما يعطي للنص امتدادًا أكبر، وبعدا فكريًّا أعمق، ثم تتابع الأنا الشعرية سرد خداعاتها التي أتقنتها وبرعت فيها، وصارت تمارسها كأنها تتنفسها، فتقول (مارستُ ألفَ عادةٍ جديدةٍ .. شرعتُ قوانيني الخاصةَ .. رسمتُني أنهارًا من فكاهةٍ وخبثٍ .. خنادقَ من رحيلٍ .. جنازاتٍ لأجسادٍ باليةٍ .. حكايا انهزامٍ .. و انتصاراتٍ شبه عظيمةٍ) وكل ما يمكن أن تمر من خلاله أفكارها الوجودية، أو أفكارها العبثية، أو تساؤلاتها التي تلهو برأسها، ومن الملاحظ أنها متناقضات تجمع بينها (فكاهة وخبث – حكايا انهزام – انتصارات عظيمة) وكل ذلك هو من إتقانها (رسمتني أنهارًا …..) واستخدام لفظ (أنهارًا) جاء دالا بعمق على المعنى المراد؛ فالأنهار جارية ومتدفقة، وكذلك الحكايا والقصص التي تنسجها الأنا الشاعرة لا تتوقف، والأنهار مياهها عذبة صالحة للشرب، وكذلك قصص وحكايات الأنا الشاعرة المنسوجة بعناية فائقة ارتدت ثوب الوداعة والبراءة؛ لتكون صالحة للقبول في المجتمع التقليدي الذي يرفض أفكارها الوجودية وأفكارها العبثية، ولا يتقبل تساؤلاتها اللاهية بعقلها، ومياه الأنهار سبب للحياة، وكذلك قصص الأنا الشاعرة وحكاياتها المتنوعة سبب لاستمرار أفكارها ووجودها؛ فقد أصبحت لا تستطيع التخلي عن هذه الحيل البارعة في التوغل في عقول الآخرين الذين كانوا رافضين لأفكارها وغير آبهين لتساؤلاتها، فتقول (كتبتُني حتى استحال على عقلي الخلاصُ مني .. تمر الأيام.. ومازلتُ أُحييني في نصٍ لأقتلَني في آخر .. لعلني أتشظى ذاتَ نصٍ.. اتلاشى بتأنٍ وهدوءٍ) وهنا تصل الأنا الشاعرة إلى النتيجة المحتومة، وتلقي عصا الترحال، ويصل النص إلى نهايته وتنغلق الدلالة، ومع هذا المقطع من النص يبدو السؤال المنطقي بعد هذا التجوال عبر دروب النص وشعابه وأوديته هو: هل الأنا الشعرية الواردة في النص هي الأنا بالمفهوم المباشر، أو أنها تمثل كل الأنوات الشعرية الأنثوية، أي تمثل الأنا المبدعة الأنثوية بصفة عامة؟ من الملاحظ منذ الوهلة الأولى أن الشاعرة تعمد أحيانا إلى نزع الطبيعة الفيزيائية عن الشخصيات الواردة في النص، وإلباسها طبيعة تجريدية، بحيث تمثل قيمًا عامة، وليست أنواتٍ محددة بأعيانها، وبذلك تصبح ذات طبيعة إدراكية عامة، فالأنا الشعرية في النص تمثل شريحة أنثوية عامة في المجتمع، تلك الشريحة الحائرة بين تناقضات المجتمع وانحيازاته غير المنطقية أحيانا، والظالمة أحيانا أخرى، والباحثة عن اليقين وسط هذه التناقضات، سواء أكانت تناقضات اجتماعية أم تناقضات فكرية، أو حتى تأويلية لبعض القضايا ذات الطابع الديني، ومن ثم وجدناها تصف أفكارها مرة بأنها وجودية، وأخرى بأنها عبثية، وثالثة بأنها تساؤلات تلهو برأسها، وفي كل ذلك لا تبدو الأنا الشعرية هنا مجرد أنا منفردة باحثة عن يقين، ولكنها أنا إدراكية سائلة بين أنوات كثيرة في المجتمع، أو بمعنى آخر تمثل أنوات كثيرة في المجتمع، كما أن الأسئلة المبحوث عن إجاباتها تتخلى عن طبيعتها المباشرة لتصبح أسئلة أجيال، وأسئلة وجود، وكذلك الأحداث الواردة في النص تصبح أحداثا فيزيائية، بمعنى أنها ليس المقصود بها الأحداث الواردة بعينها في النص، ولكن المقصود دلالاتها، وإذا كانت الأنوات والأحداث، وكل ما ورد في النص قد تحول كله إلى طبيعة إدراكية فإن التصرفات ومنظومة القيم كذلك يمكن أو تدخل ضمن هذا الإطار العام، لقد تشابكت أحداث النص وأنواته وأسئلته في الكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية، وهذا ما سوف نتناوله لاحقا ضمن نظرنا إلى النص من زاوية تأويلية أخرى؛ لنحاول الكشف بوضوح عن الرؤية الفكرية، والبرهنة على أن النظر إلى النص من زوايا تأويلية مختلفة يكشف تناسقية بناه الفكرية واللغوية والجمالية، وكلها تتعاضد في الكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية بين أنسجة النص المختلفة.
لوحة تجريدية
لبنى حمادة
كثوبٍ ضربتهُ شمسُ أغسطسَ الحارقةُ
من طولِ الانتظارِ خلفَ زجاجِ الفتارينِ
رأسي تلهو بهِ التساؤلاتُ كثُلةِ من الكثبانِ المتحركةِ
على زوايا الارصفةِ
جسدي يعدو بين الأزقةِ
يتلصصُ خلف الأبوابِ المواربةِ
رغم قناعتي أن لا محطَ لالتقاطِ الأنفاسِ
وغالباً لا سبيل للوصولِ..
لم أفرطْ في شىءٍ مني سوى نسخي الساذجةِ
تلك التي لم تعلمْنِي سوى الصبرِ
تركتُها أسفلَ لافتةٍ صدئةٍ
ممهورةٍ بختمٍ ” لا تصلحُ للاستخدامِ “
ربما تلعنُها الكرما فتعودُ لي غرابًا أو دودةَ قزِ
لا يقينَ يعرفُني إلا أني هنا رغماً عني
ولا وهمَ أصدقهُ سوى الموتِ ..
كلفظةٍ تترجمُها عقولُ العوامِ “الخلاص”
عدا ذلك ضبابيٌ مبهمٌ
ذاكرتي علامةُ تعجبٍ تجيدُ الطيرانَ وتكرهُ التكيفَ
أنبشُ عن أبي فأجدُ صورةً مشوشةً لمبنى مهجورٍ وشريطةً سوداءَ
أمي الغارقةُ في نهرِ البكاءِ .. سمكةُ مالحةُ
و إخوتي غيمةُ مرتعدةُ
أفتشُ عن لفظةٍ منتفخةٍ تشبهُ “حباً”..
فلا أجدُ إلا جثامينَ باردةً
وأرواحاً تتساءلُ كيف رُفعت السماءُ
ولماذا هبطنا نحن؟
عرفتُ الكثيرَ من الرجالاتِ
فكنتُ الندبةَ الأكثرَ عمقاً في أرواحِهم
وكانوا مفتاحَ اللغزِ المتناميِ في روحي
عرفتُ الكثيرَ حتى أجدتُ تشريحَ تلك المضغةِ الساكنةِ فيّ
عالقةٌ بجلدي رائحةُ الحزنِ كهبةٍ تقيني شرَ تقلباتِ الدهرِ
والبذرةُ المغروسةُ في ظهري لم تطرح بعد على حوافِ القدرِ
حفظتُ الكثيرَ من الأسماءِ ومازلتُ أتعثرُ على العتباتِ
حفظتني كثيرٌ من الوجوهِ
ومازلتُ مشردةً على أرصفةِ اللقاءِ الأخيرِ
أبحثُ عن الربِ ..
أناديهِ في عتمتيِ فلا يجيبُ
أدورُ أسفلَ المداراتِ الكبرى.. لا أرى
أحلقُ ..لا أبصرُ
لكني أطفوُ كنجمةٍ تحبُ كل شىءٍ حيٍ..
أختلس حياةً بمعناها الواسعِ
دون أن يهتمَ أحد من أي عجينٍ شُكلت
أفكاري الوجوديةِ كطائرٍ من نورٍ
وأفكاري العبثيةِ قبسٍ من نارٍ
حروبٌ أهليةٌ بين شياطينِ العالمِ في رأسي
غامرتُ كثيراً
واستسلمتُ أكثرَ
حتى صارَ جوابي الأصحُ ..
ألّا جوابَ
ضاجعتني الحروف حتى علقتَ بين خيوطِ المجازِ وكذباتِه اللذيذةِ
فكنتُ الجرحَ والسكينَ والدمَ في قصيدةِ القبيلةِ
اعترتني نشوةُ الوصولِ على شطآنِ الوقتِ حين ركبتُ صهوةَ الزمكانِ
لكني عجزتُ عن التحررِ من شظايا اللحظةِ العالقةِ فيّ
مازالَ جرحُ الراحلينَ ينزُ كل مساءٍ في صدري
والمفردةُ التي أشعلَها الثائرونَ تتقدُ برأسِي
مازالت تتسكعُ الحكايا خلف رهبتي
وصوتٌ ما يُربكُني كلما قالت امرأة .. مدد
مازالت صرخاتي تتلوى كأوتار صماءِ
يهللُ الجميعُ على أثرها…الله
عرفتُ كيف أتقي شرَ النهارِ والبحرِ
كيف أعيدُ تدويرَ قماشةَ التاريخِ لأصنعَ قصصاً محشوةً تخدعُ البشرَ تماماً بوداعتِها
عرفتُ سرَ اللعبةِ
لكن لم أنجُ بعدُ من نعومةِ الموسيقى وأشباحِي الراقصة بكفِ الليلِ
صرتُ عنقاءَ بجناحين من جنونٍ واختلافٍ
أحلقُ هرباً من أقصى العتمةِ إلى قلبِ الضوءِ.. والعكسُ
أسقطُ رأساً على عقبٍ دون إصابةٍ ترصدُها” X-ray ”
بارعةً..
ألضُمُ طرفي الكرةِ الأرضيةِ بخيطٍ من حريرٍ
أرعى مخاوفي ،أهشُ عليها
أنثرُها أجنحةً..
وأتبعُها إذا تبقى في العمرِ عمرٌ
مارستُ ألفَ عادةٍ جديدةٍ
شرعتُ قوانيني الخاصةَ
رسمتُني أنهاراً من فكاهةٍ وخبثٍ
خنادقَ من رحيلٍ
جنازاتٍ لأجسادٍ باليةٍ
حكاياَ انهزامٍ
و انتصاراتٍ شبهَ عظيمةٍ
كتبتُني حتى استحال على عقلي الخلاصُ مني
تمر الأيام..
ومازلتُ أُحييني في نصٍ لأقتلَني في آخر
لعلني أتشظى ذاتَ نصٍ..
اتلاشى بتأنٍ وهدوءٍ.