أخبار عاجلةالرئيسيةملفات وحوارات

الوزر المالح”: رواية تنحت الذاكرة بملح الأرض ونبض الإنسان

تبارك الياسين تحاور الكاتب مجدي دعيبس


‎في قلب التاريخ العربي، حيث تتعانق رائحة التراب بصدى المدافع، ويختلط الحنين بطعم العرق والدم، ينسج الروائي الأردني مجدي دعيبس في عمله الملحمي “الوزر المالح” لوحة إنسانية آسرة، تمتد ظلالها من شرق الأردن إلى فلسطين، مرورًا بالجزيرة العربية والأناضول.
‎الرواية، الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2019، ليست مجرد سردٍ لأحداثٍ مضت، بل رحلة وجدانية عميقة في جوهر الإنسان العربي، وهو يقاوم الفقر والظلم وتقلّبات التاريخ، محتفظًا بملحه… بطهره وصبره ومرارته.
‎يكتب دعيبس بأسلوبٍ تعدديّ الأصوات، يجعل القارئ يعيش بين ثنايا الأزمنة، يسمع أنين الحرب كما يسمع همس الحب، ويرى في وجوه أبطاله ملامح الأرض التي أنبتتهم. تتداخل الثورة العربية الكبرى مع الحرب العالمية الأولى في مشهدٍ فني يفيض بالبطولة والانكسار، ليصوغ الكاتب من الخيال والذاكرة معًا وثيقة روحية للتاريخ العربي.
‎”الوزر المالح” ليست رواية تُقرأ فحسب، بل تُحَسّ وتُعاش …كأنها تراب الأرض بعد المطر، تحتفظ برائحة التاريخ، وتُذكّرنا بأنّ هوية الإنسان لا تُكتب بالحبر فقط، بل بالملح الذي يسيل من جرحه وعرقه ودمه.


حاورته تبارك الياسين


‎1. بدايةً، ما الشرارة التي أوقدت فيك فكرة «الوزر المالح»؟ هل وُلدت الرواية من ذاكرة موجوعة بالتاريخ، أم من رغبة فنية في إعادة سرد العالم من منظور
‎الإنسان الذي يرى ما لا يراه الآخرون؟

‎ج ـ لطالما كان التاريخ مادة غنية بالمحمولات الحضارية والفكرية والثقافية والإنسانية، بالإضافة إلى اشتماله على طاقة حكائيّة كبيرة يمكن استثمارها في التخييل التاريخي الذي تطور مع الزمن. نعم، هناك معاناة في حياة الأجداد سمعنا بها وانطبعت في وجداننا ورأينا فيها إجحافًا وتجربة قاسية تستحق التأمل والكتابة، وربما أشير هنا إلى السيرة الغيرية (مغامرون وراء الأطلسي) التي أصدرتها في العام (2022) حيث كتبت عن الذين هاجروا إلى أمريكا قبيل الحرب العالمية الأولى هربًا من التجنيد العثماني. 

‎      
‎2. العنوان «الوزر المالح» يفتح أمام القارئ تأويلات واسعة، فهو يجمع بين الخطيئة والطهارة، وبين العذاب والماء. ما الفكرة الرمزية التي سعيت إلى إيداعها في هذا العنوان المكثّف؟


‎ج ـ العنوان (الوزر المالح) يعكس حال سليم بعد هذه الرحلة الطويلة والصعبة التي تخلّلها كثير من الصعوبات والمآزق الخطرة التي كشفت طبيعة علاقته بمريم وحقيقة مشاعره تجاهها، بعد كل المعاناة التي مرّا بها وواجهاها بشجاعة وتحدٍ تموت مريم وتترك وزرها المالح في نفس سليم غصّة لا تزول. 

‎    
‎3.  شخصيات الرواية تنبض بملامح حقيقية رغم ابتعادها عن التسجيل الواقعي المباشر. هل يمكن القول إنك استلهمتها من أشخاص عايشتهم أو سمعت عنهم، أم أنها وليدة الخيال الحرّ الذي لا يلتزم بالتاريخ؟


‎ج ـ ملامح الشخصيات في العادة تكون مزيجًا من الواقعي والمتخيل. أحيانًا نتأثر بشخصية طريفة في محيطنا أو في السوق أو الشارع، نراقبها عند بعد ونحاول رصد حركاتها وسكناتها، وقد تسعفنا بقية جرأة للتوجه إليها والحديث معها. هناك نماذج كثيرة مخزّنة في الذاكرة لكن المقتضى الروائي يحتّم علينا الحذف والإضافة حتى تصبح شخصيّة مناسبة للسرد الذي نعمل عليه.

‎      
‎4.  تتحرك الرواية عبر جغرافيا شاسعة: من شرق الأردن إلى فلسطين، فالجزيرة العربية والأناضول. كيف انعكس هذا الامتداد المكاني على تشكيل الأحداث وتصاعد الصراعات الداخلية للشخصيات؟


‎ج ـ ربما كان التحدي الأكبر بالنسبة لي تحديد ملامح كل مكان من أمكنة الرواية وانعكاس خصوصيته في السرد، وقد اعتمدتُ بشكل أساسي على المعلومات والصور من المصادر المفتوحة. الانتقال إلى مكان بعيد عن الأمكنة التي ألفناها وألفتنا يثير فينا مشاعر متضاربة من القلق والخوف والحنين وربما التوجس والاستغراب. مريم ابنة القرية الحورانية التي تزرع القمح والحبوب في سهول منبسطة قد تصيبها دهشة عارمة إذا مرّت بجوار بستان ممتد من التفاح أو الليمون أو غابة من أشجار حرجية لم ترها من قبل. تنوع التضاريس وحدتها كانا أيضا من المعاضل التي وجب عليهما مواجهتها والتعامل معها والتي أدّت في نهاية المطاف إلى مرض مريم وموتها. 


 
‎5.  في الرواية حضور قوي للتاريخ، من الحرب العالمية الأولى إلى الثورة العربية الكبرى. كيف تمكنت من الموازنة بين السرد التاريخي الموثّق والبعد التخييلي الذي يمنح النص روحه الخاصة؟


‎ج ـ (الوزر المالح) رواية تنتمي للمرحلة الثانية من مراحل تطور الرواية التاريخية وهي التي تتكئ على المفصل التاريخي وتعمل على أنسنته من خلال معاينة أثره على حياة الناس البسطاء أكثر من التركيز على الحدث نفسه كما كانت الحال في روايات جرجي زيدان، ونلمس هذا بشكل واضح في حديث الجنرال اللنبي عن معارك عزة وفلسطين حيث كان سرده متوازنًا بين الشخصي والعام للتّخفف من الوقع التاريخي الجاف. وقد كانت آراء القرّاء متفاوتة حول هذه النقطة حيث استاء بعضهم من توقف سرديته عند مرحلة ما وكان يرغب بالمزيد.



‎6. تتناول الرواية قضايا اجتماعية حادة مثل الفقر والاضطهاد الطبقي والخذلان الإنساني. ما الرسالة التي رغبت في إيصالها من خلال هذه الثيمات؟ وهل ترى أن الأدب قادر حقاً على مساءلة الواقع؟

‎ج ـ الأدب قادر على الإشارة إلى الخلل الاجتماعي والمشاكل التي تعاني منها المجتمعات، لكنّه غير معني بتقديم الحلول، فالروائي ليس مصلحًا اجتماعيًّا ولا مسؤولًا عن معالجة الفقر والبطالة، بل هو عين لديها حساسية خاصة تجاه ما تلتقطه وتختبره من مواقف فارقة ومشاهدات مؤلمة، ولكن في المحصّلة، بدون قراءة لن تصل كلمته إلى الناس؛ وبالتالي فالمساءلة والتأثير والتغيير مرهونة بإيمان الجمهور بأهمية القراءة. لم يكن في ذهني لحظة الكتابة رسائل بعينها، وأترك هذا الأمر للقارئ ليأخذ منها ما يناسبه ويتماشى مع تأثره بالعمل. 


‎7.  استخدمت أسلوب السرد متعدد الأصوات، وهو خيار يحتاج إلى دقة كبيرة في ضبط الإيقاع وتمايز وجهات النظر. ما الذي دفعك إلى هذا الخيار الفني؟ وما أبرز التحديات التي واجهتك خلال الكتابة؟


‎ج ـ كنت أدرك البدايات والنهايات قبل الشروع بالكتابة بعد فترة كافية من التأمل وتصور المشاهد والشخصيّات الرئيسة، حتى أنني كتبت الفصل الختامي قبل الفصول التي تسبقه في الترتيب. عندما نملك الرؤية الشاملة للعمل نستطيع التحكم بإيقاع السرد والسيطرة على تمدد الحدث وأصدائه اللاحقة. برأيي، وهذا مجرد رأي، يجب التخفّف من الراوي العليم قدر الإمكان وإعطاء كل شخصية المساحة الخاصة بها، لكن هذا حبل دقيق يمكن أن ينقطع في أي لحظة؛ على كل صوت أن يختلف عن الأصوات الأخرى، وإلّا ما الفائدة من تعدد الأصوات!؟
‎ أبرز تحدي كان تصوير ملامح الأمكنة والبيئات التي وصلت إليها الرواية. 

 
‎8. تتقاطع في الرواية ثنائية الحب والحرب، في مشهد يختبر هشاشة الإنسان وقوة الروح في آن. كيف عالجت هذا الاشتباك الوجداني؟ وهل هناك مشهد أو لحظة شعرت أنها تختزل جوهر الرواية؟


‎ج ـ لا أظن أنّ هناك مشهد واحد يمكن أن يختزل ما أردت قوله، فمثل هذه المشاهد المكثفة والمشحونة صعبة الانقياد، لكن إن كان لا بدّ من اختيار مشهد ما فهو لحظة سقوط مريم عن الدابة ووقوعها في الجرف السحيق، هناك وقف سليم منهارًا معاتبًا نفسه وكاشفًا ذاته بعد هذه النهاية المأساوية لمريم. ثنائية الحب والحرب تؤكد دائمًا أننا بشر يمكن أن نحب من يقف في الخندق المقابل، وربما هذا هو هدف الكتابة في المقام الأوّل لتذكرنا بإنسانيتنا والمبادئ التي غالبًا ما ننساها.   



‎9. بعد أن يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من «الوزر المالح»، ما الأثر الذي تأمل أن يبقى عالقاً في ذهنه؟ هل هو وعي بالتاريخ من زاوية جديدة، أم إحساس بالتحرر من أوزار الذاكرة؟



‎ج ـ أتمنى أن تبقى أي شخصيّة أو أي موقف عالقًا في ذهن القارئ، وفي حال حدوث هذا الأمر فهو النجاح الذي أسعى لتحقيقه، عندما تمر ببالي رواية البؤساء أتذكر المشهد الذي قبض فيه الجنود على جان فالجان بعد أن سرق فضيّات الدير، وعندما عادوا به وعرضوا المسروقات على الأسقف قال إنها كانت هدية منه، وأضاف أنّ فالجان قد نسي أن يأخذ الشمعدانات، وأعطاه إيّاها. هنا تحوّل السارق إلى شخص آخر مختلف تمامًا. نحن بحاجة للتسامح وبحاجة للفرصة الثانية. أحاول دائمًا أن أتذكر هذه اللحظة الإنسانية وأبحث من خلالها عن لحظتي الخاصة. ما شعر به سليم تجاه مريم حالة مستحكمة من العشق قبل أن تكون شهوة عارمة أو رغبة بالامتداد وتكوين أسرة، فالعطف والألفة والمودة من وجوه الحب الكثيرة. سليم ضحى بكل شيء في سبيل الحب ولم يبقَ أمامه سوى جراح لا تلتئم ووزر مالح.

مجدي دعيبس روائي اردني :

من مواليد ١٩٦٨ حاصل على بكالوريس هندسة الاتصالات وماجستير في العلوم٠
من أعماله:
‐ رواية ” لوزر المالح” بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر ‐ ٢٠١٨ وحصلت الرواية على جائزة كتارا ٠
– رواية ” حكايات الدرج” المؤسسة العربية للدراسات والنشر – ٢٠١٩ ٠
‐ رواية ” أجراس القبّار ” الآن ناشرون – عمان – ٢٠٢٠ ٠
‐ مجموعة قصصية ” ليل طويل ٠٠ حياة قصيرة” الآن ناشرون – عمان ٢٠٢٢ ٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى