علاء العلاف يكتب كافكا التجربة الفردية الى رمزٍ كوني…

أتذكّر بسعادة لقائي الأول بالأستاذ صالح الرزق حين تواصل معي بشأن ترجمة قصيدة كنت قد نشرتها على شبكة الإنترنات، وهي قصيدة كتبتها عن فرانز كافكا؛ الكاتب الذي شغل الحقل الأدبي العالمي بفرادته وعمق رؤيته، لقد استحقّ كافكا مكانته بجدارة، إذ تميّز بوعيٍ كونيٍّ يتجاوز الإطار المحلّي أو الديني، وبتجربةٍ أدبيّة تكشف مأزق الإنسان الحديث في علاقته بالسلطة والمجتمع والذات، يمثل كافكا أُنْموذجًا فريدًا للكاتب الذي استطاع أن يحوّل التجربة الفردية إلى رمزٍ كونيّ، وأن يصوغ عبر قصصه القصيرة وحكاياته الرمزية بِنْيةً سردية تتّسع لتأويلاتٍ متعدّدة ومتضادّة في آنٍ، وهذا التعدّد في الدلالة يجعل من أعماله نصوصًا مفتوحة على قراءات فلسفية وأنثروبولوجية ودينية، تتجاوز الحدود العِرقيّة والثقافية، وتطرح أسئلة تتعلق بالهوية والوجود والمعنى ورغم هذه النزعة الإنسانية الكونية، يبقى انتماء كافكا الديني والعِرْقي – كيهودي – عنصرًا لا يمكن إغفاله. فالهويّة اليهودية، بما تنطوي عليه من تاريخِ الاغتراب والملاحقة، تتجلى في أعماله لا بوصفها موضوعًا مباشرا، بل بوصفها حالةً وجودية عميقة. إنّ النظر إلى كافكا بوصفه كاتبًا حداثيًّا محضًا يتجاهل البعد الأنطولوجي لتجربته؛ فهو لم يكن مجرّد شاهدٍ على بدايات الحداثة، بل كان أحد الذين تجسّد فيهم قلقُها الوجوديّ وأزمتها المعرفية، كتب كافكا في مرحلةٍ حرجة من تاريخ أوروبا، هي مرحلة منعطف القرن العشرين التي تميّزت بانهيار المرجعيات التقليدية واندلاع الحرب العالمية الأولى وظهور الأسلحة الكيميائية وانهيار الثّقة في العقائد الدينية والفكرية، في زمنٍ أعلن فيه نيتشه مقولته الشّهيرة: “مات الله”. لقد تزامن ذلك مع صعود الرّأسمالية واتّساع رقعة الاستعمار وظهور الأنظمة الشموليّة، وهي جميعًا تحوّلات ساهمت في صياغة البذور الأولى لفظائع القرن العشرين: القنبلة النووية والمحرقة وموجات التهجير الكبرى… ورغم أنّ كافكا توفّي قبل وقوع المحرقة النازية، فإن نصوصه كانت استباقًا رمزيًّا لتلك الكارثة، إذ عبّرت عن العزلة الوجودية والاضطهاد البيروقراطي الذي يفقد الإنسان فيه صوته وفاعليته، لقد مثّل كافكا في أعماله “الإنسان المنفيّ” – لا بمعناه الجغرافي، بل بوصفه حالةً دائمة من الانفصال عن الذات والعالم ولعلّ عبارته الشّهيرة: «ماذا لديّ مشترك مع اليهود؟ لا شيء… ولا حتى مع نفسي»، تعبّر بدقة عن وعيه المأزوم بالهوية وعن انقسام الذات الحديثة بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان… إنّ تحليل نتاج كافكا يكشف عن إدراكٍ عميقٍ لمشكلة الإنسان المعاصر، الذي يعيش بين اغتراب التكنولوجيا وانكسار المعنى الروحي، فقد صوّر في قصصه الكائن البشري بوصفه أسيرَ نظامٍ لا إنسانيّ، وعبّر من خلال اللغة الرمزية الساخرة عن مأساة الفرد في مواجهة العالم البيروقراطيّ المجرّد من الرحمة… من هذا المنظور، يمكن القول إنّ أدب كافكا يمثّل الشرط الإنساني للمنفى، وهو المنفى الذي تحدّث عنه الشاعر محمود درويش حين قال: “الشعر هو مكان يتّسع للمنفى”. فكافكا، رغم عدم إشارته الصريحة إلى يهوديّته أو إلى الدين، استطاع أن يجسّد تجربة الاغتراب والحنين بوصفها سمةً مشتركة في التجربة الإنسانية جمعاء، ولا سيّما لدى الكتّاب والفنانين… وفي المقابل، نجد في أدب كلٍّ من والت وايتمان وسهراب سبهري نزعةً مغايرة، تنفتح على العالم لا بوصفه مأزقًا وجوديًا، بل بوصفه مجالا للتآلف والتجلّي الروحي، فبينما تتسم كتابة كافكا بالرمزية الكثيفة والشكّ الوجودي والنزعة النخبوية، تنبثق في أعمال وايتمان وسبهري غنائيةٌ صافية تحتفي بالإنسان والطبيعة والانسجام الكوني، ومن هذا التباين بين كافكا ووايتمان وسبهري، تتّضح جدلية الأدب العالمي بين أدب الاغتراب وأدب الانتماء، وبين النظرة المأساوية للعالم والرؤية المتصالحة معه.





