أطفال لا يدخلون الجنة! بقلم/ دعاء البطراوي
أطفال لا يدخلون الجنة!
بقلم/ دعاء البطراوي
خرج من المسجد مفتخرا، لقد استطاع أن يحفظ جزءا كاملا من القرآن الكريم، لذا كافأه الشيخ بمقلمة رائعة، ما إن فتحها، حتى انفرجت شفتاه ببشاشة، وراحت أنامله تتنقل بين محتوياتها، مسطرة.. وقلم رصاص وممحاة لها رائحة الفراولة، تلاشت ابتسامته الظافرة حين رأى زميلته أمينة منزوية بركنٍ قصي وقد بلغ الحزن مبلغه في عينيها، حين رأته يدنو منها، تنهدت..
قالت في يأس:
– أنا لا أستطيع الحفظ مثلك يا مصطفى… يا بختك… ستدخل الجنة وأنا لا…
نصحها بقوله:
– إن أمي تفهمني الآيات أولا فتصبح سهلة عند الحفظ… ما رأيك أن تفعلي مثلي… وأنا متأكد أنكِ ستنجحين…
انطلق نحو طريقه، يلوح بمقلمته مبتهجا، أزمع أن يعرج على دكان أبيه أولا، وجده مغلقا، تلقفته الحيرة، لماذا يغلق أبوه الدكان في وضح النهار؟ إنه ليس دأبه أبدا، حتى إن مشاويره لدى الأطباء كان يرجئها إلى الليل، ماذا حدث؟ تساءل عقله الصغير،
أسرع يطوي سلالم البيت الذي يعلو الدكان، انتفض قلبه ناظرا للجيران الذين تعج بهم الردهة الضيقة، فطن أن كارثة قد وقعت، خاصة بعد أن سمع صرخة أمه الملتاعة والناس حولها تواسيها بنظرات مشفقة: (البقاء لله.. الله يصبرك.. شدي حيلك.. البركة في مصطفى)..
لم تكن أمه قد تجاوزت محنتها بعد حين سألها عن الموت، أخذته بين أحضانها وبكت، ثم أجابت في ألمٍ ممزوجٍ بالنشيج:
– الموت راحة للميت وعذاب لأهله الذين على قيد الحياة..
لم يفهم مغزى كلامها وإن أحس بأهميته، فيما مسحت الأم دمعاتها، وقالت في حنان:
– لا تقلق… أبوك في رحمة ربنا.. ورحمة ربنا واسعة…
مصطفى يواظب على الذهاب للمسجد، تستحوذ على خواطره الكثير من الأسئلة.. عن الموت والحياة.. عن الجنة والنار، يتعجب الشيخ من تفكيره الذي يفوق سنه! يقول له في نصيحة:
– احفظ آياتك يا مصطفى.. ولا تسأل كثيرا… ما زلت صغيرا…
يبوح مصطفى بما يعترك في نفسه بسؤالٍ قلِق:
– أريد أن أعرف يا شيخي… هل سيدخل أبي الجنة؟
يصمت الشيخ ولا يجيب، يكرر مصطفى سؤاله متوجسا.. منتظرا إجابة شافية، ثم يتمثل وجه أمه الجميل أمامه، فيبتسم مستبشرا، ويلقي قولها في تفاؤل:
– قالت أمي إنه في رحمة ربنا… ورحمة ربنا واسعة…
يزفر الشيخ، يقول:
– وعذابه شديد أيضا… كان أبوك لا يصلي في الجامع معنا…
يتريث مصطفى قليلا قبل أن يردف على مهلٍ:
– كان مريضا ويصلي بالدكان…
– وكان يسمع الأغاني…
– والله يا شيخ كان يقرأ القرآن كمان.. وصوته جميل.. جميل جدا…
– ماذا لو وضعنا اللبن الفاسد مع اللبن السليم.. هل سيصبح صالحا للشرب؟
سرح مصطفى مفكرا، شعر أن الإجابة لن تكون في صالح أبيه، فيما أضاف الشيخ:
– أنت تجادل كثيرا يا مصطفى.. إذا أردت الجنة فلا تجادل أبدا…
في هذا اليوم… لم يستطع مصطفى أن يردد الآيات التي حفظها، تلعثم وكأنها طارت من رأسه، فعنفه الشيخ حانقا، قال له إن الشيطان تمكن منه وأنساه الآيات، ثم صاح متوعدا:
– خسرت الجنة التي أعدها الله للمتقين…
عاد إلى البيت متكدرا، أخبر أمه ما حدث بصوت واجف، فاشتعلت عيناها غضبا، أصدرت فرمانا حاسما ألا يذهب إلى المسجد مرة أخرى، ثم هتفت بنبرة أقل انفعالا:
– أبوك كان أحسن الناس يا مصطفى… يبيع الحلوى ولا يبيع الكلام… لا أحد يعرف من سيدخل الجنة أو النار… فلا تسأل هذا السؤال أبدا…
الأم لم تدخر جهدا إلا وفعلته كي يستمر مصطفى في تدبر الآيات وحفظها، جعلت من بيتها مسجدا صغيرا، لم يكن الأمر يسيرا عليها.. ولا عليه، فالصفحة التي كان يحفظها في ثلاثة أيام أصبحت تستغرق أسبوعا أو أكثر، وفي بعض الأحيان يؤجل الحفظ لانشغاله بمهام أخرى مثل شراء طلبات البيت، أو الوقوف في الدكان لمساعدة أمه.
جاءت زميلته أمينة ذات يوم إلى الدكان، كان على وجهها سعادة لا تخفى على عين، أظهرت له مقلمة ملونة، قالت له في حماس:
– لقد عملت بنصيحتك يا مصطفى… فهمت الآيات أولا ثم حفظتها.. وأعطاني الشيخ هذه المقلمة..
ثم شعت ملامحها نورا وهي تضيف:
– وأخبرني أنني سأدخل الجنة..
أرغم نفسه على الابتسام، غرف لها الكثير من الحلوى دون مقابل، وما إن انصرفت حتى نكس رأسه، وأسئلة كثيرة لم تنفك تؤرقه!