دراسات ومقالات

حارس الورداني المفزوع بالوقت : بقلم مختار عيسي

 

 

حارس الورداني المفزوع بالوقت

العتبات فواضح ، والخواتيم كواتم ، و القارئ بين بين

مختار عيسى

ولأنه كاتب دأب منذ خطواته الأولى على كسر المألوف واختراق السائد والمروق من تابو نقدي كانت الانتلجنسيا المصرية تعتمده متكأ لمحاكمة نقدية ـ نعم محاكمة ،ـ لنصوص اتخذت القصة القصيرة شكلا ، وطريقة للتعبير عن مضامين محدودة .

ولأنه ارتأى التغامر، و التفرر من تكابيل تعوق انطلاقات الذات الكاتبة ، طريقا واحدة لإثبات المغايرة و تأكيد الإبداع .

ولأنه أرادنا ـ بدءا ـ مشاركين في التجربة ، لا مجرد قارئين أو نقدة ، فإن التحرص واجب، والتحوط لازم ، قبل الشروع، قراءة أو نقدا ، أو وقوفا على عتبات التلقي دون التظر إلى تاريخانية إبداعية تشكلت ملامحها مجلاة حينا ومعماة وراء مبادرات مسحقة تشكيلية حينا آخر.

ولأني واحد ممن لا يدخلون إلى النص، أي نص ، بتعاليب نقدية ، و أقيسة سابقة التجهيز في معامل التثبيت الذائقي ، وحرصي مُوجِبٌ تمهلاتٍ أراها ضرورة لازمة ، فإن الفزع المتصدي لوقت حارس ديوان القصص الجديد لإيهاب الورداني ، سيتجاوز تفزيعه إلى تفزيعي ؛ وبخاصة أن مناقشة عمله الإبداعي هذا قد أوقفتني مفاجأة توقيتها على حدود التردد بين القبول ، على مافيه من مخاطرة ومخاتلة نقدية ، أو الرفض تأجيلا إلى قادم الأيام فرارا من تفزيعات تسارُع الوقت بين الدعوة و الجلوس إلى منضدة التشريح النقدي ، الذي لا أرتضي به بدلا حين أسلم بإمكانية إبداء الرأي دون مخاتلات للكاتب أو القارئ.

هل تبدو هذه التقدمة اعتذار ا عما يحتمل أن يكون من تقصير في التعامل مع منجز أدبي لصديق ؟ أم هي تعبير عن محنة النقد وهو يجابه واحدة من أهم مايواجهة من مشكلات، أعني مايتعلق بالوقت ؛ إذ ينفق الكاتب عمرا طويلا نسبيا ، في إنشاء عمارته الإبداعية ، ويأتي الناقد في سويعات قليلة محللا وناقدا وواصلا أحيانا إلى قطعية حكمية على مكونات هذه العمارة وطرائق بنائها وخاماتها وظروف إنشائها ؟

أيا ماكان الرأي ؛ فإني وددت الإشارة إلى ما أتبناه دائما من أني لست ممن يمسكون القلم الأحمر كمعلمي المدارس مصححا للكاتب أو معطيا إياه درجة من التقدير ؛ فماهي مهمة الناقد ، وإنما أقوم بدوري في وساطة أرجو أن تتوقى شوائه أمثالها ـ بين المبدع ومتلقيه .

الديوان القصصي ، أو بالأحرى ديوان قصص ” ثمة حارس يفزعه الوقت ” للقاص إيهاب الورداني ، واحد من مجالي هذه الإشكالية التي أشرت إليها في علاقة الناقد بالكاتب وبالقارئ في آن واحد. وكعادتي في الولوج إلى المنجز المقدم إلى القارئ فإني أبدأ من غلافه كإحدى العتبات ، حيث أتبنى مسؤولية الكاتب عن كل ما يخرج فيه عمله إلى القارئ ولو تنصل الكثيرون من مسؤولية الإخراج أو تصميم الغلاف و الوجود الفيزيقي لنصوصهم على صفحات المطبوع . ومن ثم فإن الغلاف الأول هنا كاشف عن حضور باذخ للوقت ممثلا في مزولة رملية احتلت مساحة كبيرة من الجانب الأيمن من الغلاف تحتها ، ومستندا عليها تكوين خشبي أو معدني من عقل أو أجزاء مركبة بما يشبه المفاصل لإنسان ، ربما كان تجسيدا للحارس المعني في العنوان ، في جلسة استناد على قاعدة المزولة ، وهذا يخالف فكرة الفزع ، فضلا عن تكوين لآخر ، يستند برأسه ، لاندري هل هو في حالة اطمئنان ، أو سقوط ، الأمر الذي يؤكد خطورة مجابهة الوقت كأحد تجليات الزمن في فراغ موحش كأنه فضاء الصحراء ، فيما تحتل وردة جافة الركن الجنوبي الأيسر من الغلاف ، مايوحي بتأثير الوقت أيضا ، حيث الإشارة الموحية إلى انقضاء العمر أو مرور الوقت على الكائن الحي لتكون النهاية الحتمية ، وهو مايضعنا بدءا مع صراع يريد الكاتب أن يشركنا فيه مع عنصر الزمن ، والذي علينا ـ أن نتتبع حضوره أو غيابه في النصوص . ومن الأمام إلى الخلف يأتي المقتبس النصي ليضعنا ـ جميعا ـ في المواجهة ، رغم البدء بتأكيد التفرد والواحدية في المعرفة والحراسة ، إلا أنه يشبهنا جميعا ، حيث تنفلت الأزمة من كونها أزمة ذات فردية لتصبح أزمة الجموع ، ورغم جمعيتها إلا أن الفرد مأخوذ بقدره ، ووراثة وجعه ، وحتمية المواجهة وإن كنت فردا تكالب عليك الآخرون .

وحده يعرف … وحده يحرس ..

منذ وطأ قلبه اليابسة

مفتوح العينين ، شامخا كنخلة ، مشعا وصامدا .

لايعرف من أين جاءه اسمه ، ولا أحد أسماه به .

ملامحه تشبه الكثير

كأنه أنا ، أو كأنه أنت ، أو كأننا هو

غير أنه هادئ كأبله ، أو مخلوق من عالم آخر

تراه حينا يضحك وحينا ينهنه

وحينا يرسل عينيه في السماء ، يقنا ليتزود ، أو يشكو ، أو يرنو لفضاء كان ساكنه

قبل أن يهبط أو يطرد .. لاعلم لي

لكن المؤكد أن ماحوله يعنيه

ومايراه يضنيه ، ومايفعله

طوعا أو كرها ليس تحريضا ، ولا بطشا

ولا طقسا يتقنه بقدر ماهو نبوءة أمه ،

حين نثرت وجعها عليه ، يابن بطني في عنقك طائرك

فلا تجعلهم يصحرون واحتك ..

واردعهم مهما تكالبوا عليك ..”

هذا المقتبس ، وهو أول النصوص بعد الإهداء والفاتحة ، من المحتمل أن يكون المفتاح الأول لأبواب التأويل لمرادات الخطاب الورداني في هذا الديوان القصصي، عاكسا عبر معادل موضوعي للذات الإنسانية العامة محنة الوجود الإنساني لآدم وذريته ، في مجابهة الحياة بكل مافيها بعد الهبوط أو الطرد من عالم إلى آخر مباين ، رغم بعض الإشارات التواصلية بينهما عبر التطلع إلى السماء ، ليكون السؤال الأول عن مهمة الحراسة ، وعن موجبات الفزع، وكأننا أمام سؤال الكينونة الأول ، ومحنة الاختبار الموقوت بالأعمار قصرت أم طالت ، ومن هنا فإننا سنحتمل أن تكون قصص المجموعة أو الديوان دائرة حول هذه الأسئلة الكونية عبر تجليات الذات الكاتبة في محيطها المسكون بذوات تتماهى أو تتباين ، في مواجهة حتمية للزمن الموقوت قبل أن تكون مع المكان المأطور والحدود المسيجة . فهل الأمر كذلك

لعله وهو يقدم لديوانه ، أو بمعنى آخر يفتتحه أراد أن يوقفنا مباشرة على مستهدف الخطاب ؛ وعبر ديالوج بدت البساطة في تركيبه ، و جمله الحوارية الكاشفة عن أن ثمة صراعا داخليا وإن تلبس صوت الأنا والآخر حول الرسالة الإنسانية ؛ الخلافة بمعناها الأزلي والمهمة الرسولية ، حيث التردد بين إمكان التحقق، والتيئيس منه :

ـــ افعل

ــ لافعل يجدي

ــ آثم إذا سكت

ــ لاحول لي

ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط

ـ أعلم

ــ عش إذن ولاعزاء فيك

ـ يا الله

وقتي .. معتم بالوجوه المنهوكة

قلبي .. مثخن بالتاريخ والوقائع

عمري .. المشوش دائما

وماملكت يداي .. مثلكم أنا

أجمع شموسي وأخبئها للقادمين عل وعسى

هو الجدل الذاتي ، حوار النفس ، المونولوج وإن بدا ديالوجا ، حول الرسالة والرسول ، القدرة والعجز ، الإمكانية والقصور ، لكن القرار أن هناك شموسا مخبأة ورهانات للمستقبل ، للقادمين

لسنا بحاجة إلى كثير تأمل ـ إذن ـ ونحن نشرع في التوغل داخل الديوان القصصي ، إلى تأويل الخطاب ، فهو سافر ، نافر للتنقب ، بالج السطوع ، رغم الجنوح إلى الترميز ، واللعب بالمجازات ، وهل يمكننا ـ ونحن قد تكشفناه ، وخلعنا عنه القشرة الخارجية ، ووصلنا ، ولأول وهلة إلى لب الموضوع ، و مكنوز الرؤية الوردانية ، أن نغض الطرف عن مفردات هذا الصراع الذاتي الذي يتنامى ، خالعا ذاتيته ، عارضا لنماذج بشرية مُعايَشة ، ومعايَرة على أسلاك البحث الاجتماعي حينا ، والتغور النفسي حينا، والتشكيل البورتريهاتي حينا ثالثا ؟

من أنت أيها الكاتب؟ .. ربما يعن لنا أن نتعرف إليه ، لا عبر سيرة تختتم بها الإصدارات عادة، ولا عبر ببلوجرافيا خاصة ، وإنما عبر تعريف بالغيبة ، وحديث عبر ” هو ” ليكون أول النصوص بعد المفتتح مجيبا عن هذا الغائب الحاضر ، وهو ما سجلناه في المقتبس النصي على الغلاف ، وسجله الكاتب في الصفحة التاسعة كبداية تعريفية بالأنا / الآخر ، أو بالآخر / الأنا

وكأنه أدرك أننا واقفون على حواف الأسئلة ، تتناسل ، ويسلمنا أولاها لثانيها بتسلسل متراكب ، فيأتي نصه الثاني إجابة عن سؤال تفترضه التراتبية للبحث عن موقفيته من هذا الحضور / الغياب أو الغياب الحضور فيكون العنوان الكاشف ” لماذا أنا ” وهو القروي الكاشف ، القارئ مفردات بيئته ، بسخط لم نقف على تبريره ، رغم أننا ومن خلال القصة نكتشف، أو بالأحرى لم نكن بحاجة إلى اكتشاف، ذلك التباين الناتج عن تفرد الذات الموكول إليها وعد سماوي ، أو تحمل الهم الرسولي وهو في حالة اغتراب كاملة وانفصال عن مجاله ، وإن استغرقه محيطة ، وثمة فروق بين المحيط والمجال ؛ فامرأته إلى جانبه تتقلب إلى جواره دون أن تلمسه ، وهو بين عتماته حتى وهي تقترب منه مبتسمة .و في الصباح يستغرب كل منهما وجوده إلى جوار صاحبه

هو رغم مشابهته للمحيطين به ليس منهم ، يظل وحده :

هم دائما حولي ، وأنا دائما بينهم جري ، وأجري

هكذا دون أن أدري

أنا وحدي ..

في الصباح وحدي

في المساء وحدي

لم أتضايق ، ولم أغضب ، ولم أسأل أحدا فيهم عن السبب ..

وفي كل مرة قبل أن أجري أقول لنفسي بعد أن ألم طولي وعرضي:

ـ لابد أن أعرف

ـ لماذا أنا وحدي ؟

ولماذا أنا أجري ؟

ولماذا أنا بينهم وهم يحاصرونني ؟!

هي محنة الاغتراب ، مشفوعة بسؤال المعرفة ، وكأننا أمام شجرتها الأولى التي طردت الإنسان الأول من قراره ونعيمه ، ليشقى بالتعرف ، بالكشف ، بالوصول إلى كنه الوجود وأسرار الحياة ، هل نسنطيع القول هنا بتماهٍ بين رحلتي الكاتب أو الأنا المتكلمة وآدم الطريد ، أهي غربة الجهل الدافعة إلى مزيد من السعي نحو الكشف وإزاحة الأستار الكونية ؟ ، أم هو إحساس ذاتي بالاستعلاء ناجم عن تفاوت ثقافي معرفي وجداتي بينه وبين من يحاصرونه ، وهو لايدري سببا ، ودائما يسأل لماذا .. لماذا أنا بالذات ؟

معذب كدرويش الحانات ، أو جوّابي الموالد ، يحطُّ على وجع ، ويطير إلى وجع ، أو يفرُّ من حصار إلى حصار ، لكنه قادر على أن يصنع أغنيته ، عدودته ، رقصته الزورباوية ، مثيرا للأسئلة ، بعضها لا جواب له ، لكنه يتلذذ بطرحه ، ربما لإعلان عذابه بشغف المعرفة ، التي قد لايكتفي بها معلومات أو حقائق ، لكنه دائم التفتيش في الماوراء في المابعد ، في الـ “كيف” والـ “لم “؟ وإلى “أين” ؟ ينتقل بقلم أشبه بريشة رسام محترف ، لينقل مشاهد بيئية بعين لاترى إلا ماتريد ، و ألوان لاتشبه الحقيقة ، وتشاكيل هي معادلات لوعي حارق ، و قلب متقد ، وجسد مشوق إلى الوصل لكنه غالبا محاصر .. بالقيد الحرام ..

في قصته ” حنين ” نقرأ شغف الروح والجسد معا في محاولة اتصال كاملة ب ” ج.. م .. ي .. ل .. ة ..” ورغم الناس الذين تجاهلوهما في التحامهما انشغالا بالزحام إلا أنه لم يستطع الوصول إلى مبتغاه :

أحسست بشيء داخلي يتفتت ، ويكاد صوت تفتته يخرج مني آهة طويلة ممطوطة :

هل أنا شخصان مختلفان إلى هذا الحد أم أشخاص كثريركبونني وقتما يشاؤون “؟

لم أر وجهها ولا ابتسامتها ، هالة من نور كانت .

قلت : ظننتك هي ” . .

هكذا .. اقتحام وتراجع ، إقدام وإحجام ، الصراع مستمر، ناره تشب ولا تخمد ، والرغبة في المواصلة لاتفتر . .. ماالذي يخيفه ؟ أهو حارسه ؟ ومن يكون هذا الحارس ؟ المماهي أم المناقض ، الـ ” مع” أم “الضد “؟ يحرس الذات أم يحرس المحيطين ؟، وهل الوقت هو المفزع له كما يقول العنوان على الغلاف ؟ وقد تساءلنا عمن يكون هذا الحارس النكرة ، وإن كانت الإشارة الظرفية توحي بمعرفة ما ، هل هو الضمير؟ العمر ؟ المبدأ العام ؟ القرين ؟

احتمالات كثيرة يمكن أن يحيلنا التنكير في كلمة ” حارس ” إليها ، ومن ثم فإن البحث عن تجلي هذا الحارس داخل مجموعة النصوص قد يكشف لنا جوانب أو على الأقل جانبا من ماهيته ، و إذا كان الوقت معرفا بأل هنا فإننا لابد عاكفون على رصد حضوراته في النصوص..

قد يترصد القارئ كاتبنا في مواقف الذات الفردة؛ اعتقادا أنها تعبير بالج الدلالة على ركائز خطابه ، ولا يدرك أن الكاتب كثيرا ما قد يناور من أجل إيصال فكرة الآخر لا فكرته ، وأن الامتزاج الذي قد يبدو أحيانا تعبيرا ساطعا عن حال تماهي الذاتين الكاتبة والساردة ، أو بين شخصيتي المؤلف ، بافتراض أنه لم تتم إماتته انفرادا بالنص ، ليس إلا إحدي الآليات السردية التي يستطيع الكاتب بها تأكيد الرأي ونقيضه في آن، تاركا للذات المتلقية وحدها القدرة على الفصل بينهما ، إشراكا للمتلقي في إعادة إنتاج النص بما يتواءم مع زمكانية الحدث القصصي أو التلقي ، لا فرق بينهما إلا في القرب أو البعد من الهمين الذاتي والعام .

الكاتب إيهاب الورداني وحتى الآن نحن في محاولة لترصد الحارس الذي عناه ، و الوقت الذي يفزعه ، كثيرا ما يمتزج بشخصياته حتى التوحد ، وكثيرا ما تجد نفسك أنت الآخر، وقد كنت واحدة من الشخصيات التي يتناولها بتشريح اجتماعي أو نفسي أو وهو يرصد ملامحها الخارجية التي لا تختلف كثيرا عن ملامحك وكأن النص لديه مجموعة من المرايا ترى فيها نفسك من زوايا مختلفة وفي كلٍّ تقف على السؤال الحائر .. كل الرجال متشابهون .. فلماذا أنا ؟ أو كل النساء متشابهات فلماذا هي ؟ أنت دائما في مواجهة الأسئلة ، التي قد تتكرر صيغتها : وماذا بعد .. وماذا بعد ؟ وهكذا ، في جذبة الصوفي العاشق ، ناسه و بيئته على طريقته الموصولة برسالته الفوقية ، أو حيرة الفيلسوف المفكر أمام الثوابت والتبدلات ، وعجزه وهو المتفرد بالرؤية و الوعي عن إخراج الكثيرين من محنهم الخاصة والمحنة الكونية في التباين الحاد بين الإمكانية والحلم .

فعجز الاتصال أو عدم اكتماله في قصته ” حنين ” هو الرغبة المقتولة والمحاصرة بالكشف والتعرية ، في قصة ” رغبة ” حيث الصراع بين ساعٍ للتحرر والفكاك من التكابيل ، وصورته عن ذاته الموروثة أسيرة الضمير المخزون ، وهو هو في ” عطش ” حيث التردد أمام دعوة المرأة بنت المدينة ، ودائما يحاول “الورداني” رصد المفارقة بين ريفية مشاعر أبطاله ورغباتهم المتأججة ، وابتذال ، أو ترخص، أبناء المدينة وكأنه يريد إشعارنا وهو المحمل برسالة ما اختير لها ،وإن كان يعرف لماذا كما تساءل في أكثر من موضع ، ولا ماذا بعد ، في انتظار كشف الأسرار كصوفي مشدوه ، أقول كأنه يريد إشعارنا بتبدل الفطرة ، وأن تبدلها أحد أهم مايواجه الإنسان المعاصر من مخاطر المدنية ، وهذا موقف رجعي بالتأكيد ، وربما شخص الحارس هنا كأحد وسائل الضبط الاجتماعي، والقيمي ،

في قصة ” إلا المتقون ” يتجلى الصراع المحموم حيث التلامس، مجرد التلامس يثير الكائن الحائر في تفسير مايعتريه كلما رأى واحدة أمامه أو كانت على مقربة منه ؛ حيث يدق قلبه بعنف حتى يكاد يهوي من مكمنه ، وتشع من عينيه كهرومغناطيسية جاذبة أو منجذبة فلايدري أخرج من مداره ، أم هن اقتربن منه لدرجة التلامس..

ويتساءل : من الذي أخذ العهود والمواثيق بين الأجساد فتدور في حركة لا إرادية ، وماسكن وماملت ، ومانحن بقادرين على صدها ـ إلا المتقون ، أو ردها لمدارها … الزعفران والمسك وكل أنواع الطيب تحملها الريح ، والديكان نهمان على مقربة منهما حفنة من أطايب الحبوب … ياخفي الألطاف .. برنا بسترك ، واحمنا من مدارات الجذب .. فما كنا بقادرين ..

ـــــ فقط التلامس

ونس العيون يرمي شباكه ، وصهد الأجساد لف المسافة المحيطة .. يداك تمتدان .. تمرقان تحت جيب ” الإيشارب ” ..تفكان زر البلوزة، وحين ينبثق بياض الصدر ، وترىفوران الانطلاق .. تتماوج في وجهك الطفل كهرومغناطيسية الجذب ؛ فتبدو آخرا لاتعرفك .. ترتد عنك بخفة .. وتلم بقبضتها صدرها ، وهي ترغرغ : وماذا بعد ؟

وماذا بعد ؟!

ماذا دهاك ؟

لا هي اقتربت ولا أنت كففت عن الدوران .

أكاد أشير إلى أن الحارس ليس تجسيدا ماديا أو حضورا شخصيا ، وإنما هو معادل موضوعي لكل التكابيل الاجتماعية والموروث الفكري والرؤيوي ، وكيف يحاصر الإنسان بين عالمين : مادي محسوس مأطور ، وروحي محلق ، منطلق في أحلام طوباوية ، لكن الزمن ، لايتسع والوقت منتصب كفزاعة من انقضاء العمر دون الوصول إلى التعرية الكاملة لبدن الكون كرغبة كامنة منذ حاول الإنسان الأول الكشف والمعرفة التي أدت إلى خروجه من سرمدية إلى زمنية مأقوتة بأعمار قصرت أم طالت ؛ فهي دائما إلى انقضاء .. وكأن الحارس هنا وهو ضمانة لمايحرسه يحتاج إلى من يضمن له الأمان من الفزع المطارد له ، الأمر الذي يضعنا الكاتب معه على حافة القلق المعرفي ، و الوجداني دون أن نشعر بأية بادرة للطمأنينة .ورغم أنه كثيرا مايردد داخل القصص أن التشابه قائم بين كل الرجال من جهة ، وبين كل النساء هن أيضا ، إلا أن سؤالا ملحا متكررا متشككا في التشابه ولنقرأ على سبيل التمثيل قصتي ” روحان ” و ” وجه ” لندرك أنه لايبحث التشابه الفيزيقي ، و إنما مايعنيه ماوراء التجسيد المادي للبدن ، عن الخيط السري الواصل بين الشبيهين ، حتى في العلاقة المأطورة بتواصل رحمي ، كأنما يبحث الكاتب عن نفسه في كل من حوله ، حتى من يمتون إليه بقرابة النسل ، وكأنه يسأل عن الديمومة التي يمكن أن تسهم في توارث الرسالة ، التي اختارته المواقيت رغم تفزيعاتها لحملها .

الرغبة الشبقية تكاد تسرقه، أو هي تفلح كثيرا في سرقته مما تصور نفسه باختلافه عن الآخرين ، وتساؤله المتكر ر لماذا أنا ، و الديوان القصصي يفيض بحوارات أو مونولوجات ذات غلاف شبقي محض ، وعلاقات مع شابقات ،داعيات للوصل لكنه محاصر ، بحارسه الشخصي ، بالضمير، بصوت الأب ، ، وتجسد ” ثمرتان ” هذه الحال الشبقية والمراودة وهزيمة محاولات المروق أمام الأسر الاجتماعي والموروث النفسي والفكري لبيئته الأولى:

مثل فأر حاصرته قطتان .. قال : لو أني رأيتكما قبل زواجي لتعطرت بإحداكما وتمددت على الأخرى ، وغفوت ، ثم في البحر الكبير أغسل نعاسي وأتوضأ وأصلي ركعتين

ترجرجت ضحكاتهما في المكان وتبادلتا النظرات وغمزت إحداهما للأخرى : ماذا لوطلقت زوجتك الآن ؟

………..

يتذكر لحظة، ساعة أن قال أبوه : زوجك ، أرضك ، عرضك ، دمك ، تسيل على خده دمعة ” العين بصيرة واليد قصيرة والمكتوب ..”

يدوي انفجار

عيناه لاتريان سوى الغبار .

ما يسعي إليه الكاتب صار مكشوفا ، مُعرَّى ، لايحتاج عظيم جهد أو حفر ماتحت العناوين ؛ فهي دوالٌّ سوافر ، رغم الشعرية التي تأخذ بتلابيب الكتابة منذ السطور الأولى ؛ حتى تتصور أنك أمام نص شعري ، ومايقترب كثيرا من التعابير المجازية التي ربما يلجأ لها الكاتب حينا فرارا من عراء الفكرة ، فيحاول ستر بعض أجزائها بانزياح تصويري أو لغوي ، لكنه سرعان مايخدش حياء الجملة المستترة ، بلفظ صارخ فتفيق على تباين مستويين لغويين في النص الواحد كما تواجه مستويين رؤيويين أحدهما غارق في سلفيته ، والآخر ناحٍ نحو التعصرن ، لكن الصراع دائما مايؤرجح الذات فلا تكاد تنحاز إلى أي منهما ، فتوافقه على استكانته إلى حارسه الشخصي حتى تشدها جواذب الرغبة في التفلت من كل الحصارات وكل الأبواب التي غلقوها دونه .

الديوان ، رغم ما قد يتصور من مطالعته السريعة من اهتمامه بموضوعات ذات أبعاد فلسفية عليا ، تفارق واقعية الحدث، و تجافي الحدث القصصي المألوف ، يقدم عددا غير قليل من الأحداث القريبة من الواقع المعيش إن لم تكن سرودا لوقائع عايشها الكاتب أو سمع بها فسجلها بالرصد التتبعي ، و الكاميرا الفوتوغرافية ، كما هي الحال في القصة ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية ” غضبة سومة ” تلك الريفية التي أهينت وهي تجري على أيتامها ببيع الأرز في أحد أسواق المحلة الكبرى ، حرص الكاتب على تحديده ، ربما سعيا لمصداقية الحكي عن الشخصية المهدورة الحقوق أمام بلطجي طوح بأرزها ، واعتدى عليها حتى كادت تقضي ، وسط حشد من الناس ، مابين متفرج محايد ، وبين متعاطف غير قادر على الانتقام لها ، والمشهد كله ناطق بما تفعله البلوريتاريا الرثة وهي تأكل بعضها ، والصراع الدائر في المستةيات الدنيا من الطبقات الاجتماعية ، وبما يشبه التصوير السينمائي ، والرصد التتبعي للحدث وشخوصه تفاجئ ” سومة ” الجميع بانقضاضها على رجولة هذا البلطجي” شبل ” ، لتخلق واقعا جديدا في العلاقة بين المهمشين ، مختتما القصة بتغيرات حادة طالت المشهد بحرق دكان ” شبل والمنازل المجاورة وتوقف الطريق السريع وحرق القطار بإشارة ذكية إلى شرارة التغيير الاجتماعي مع السادس من إبريل وهو تاريخ ذو دلالة عميقة في المشهد السياسي المصري بعامة والمحلة الكبرى بخاصة .

ويرصد الكاتب في عدد من القصص نماذج التفاوت الطبقي والانتهاك الاجتماعي دون صراخ قد تفرضه طبيعة تلك الموضوعات ، لكنه بحس شاعر يتسلل إليك ، وربما من داخلك مشركا إياك في الحدث ببراعة وصدق فني بالغ الحضور .

وفي ” أحكام العيال ” يرصد هما اجتماعيا متكررا في البيئة المصرية ، لكنه لايتوغل في أسبابه وتجلياته ، بل يكتفي بالإشارة السريعة إلى تفكك العلاقات الأسرية وانهيار الزواج بالطلاق السريع ،

وفي ” بنت الكذاب ” وبكتابة أشبه بالكاريكاتور أو البورتريه يرسم صورة لواحدة من الأمراض الاجتماعية الناتجة عن بؤس الحال في البيئة الفقيرة من خلال شخصية الفتاة التائهة بين أب متواكل كذاب لص ، وأم بين زوجين، أحدهما رحل تترحم عليه والآخر غشوم يستولي على مالديها ، ولنا أن نتصور كيف يتحطم حلم الفتاة بالمنقذ المعشوق ابن الخالة الذي يهرب من كذبها الذي لم تكن فيه كما تريد القصة أن تشي به سزى ضحية .

وهكذا يطمح الكاتب إلى تقديم نماذج من الشخصيات غير السوية في محيطاتها الاجتماعية وبيئاتها النفسية والفكرية ، ربما ليصل معنا إلى اقتناع بأن ثمة ما يجب أن يصان وأن يحرس ، لكن الوقت لايسعف ، بل ربما كانت الأعمار القصيرة ، وحصار الزمن ، لهوثا أو سكونا أعظم ما تواجهه الشخصية المصرية في معيشها ، ومرتجاها في آن .

يزاوج الكاتب بين تقنيات فنية عديدة ، حتى في القصة الواحدة، فنجد المونولوج والديالوج ، والرصد الخارجي ، و التشكيل التصويري المجازي، وأحيانا تكاد الفكرة تبدو زاعقة حاضرة بألفاظ صريحة ، وأحيانا تتوارى خلف إيحاء شعري ، لكن الملاحظ على معظم النصوص تقريبا حضور الذات الكاتبة أحيانا بضمير الأنا، وأحيانا بالتعبير بالغيبة ، وفي حالات أخرى يكون للخطاب حضوره وكأنه يقيم من المخاطب معادلا للذات أو هو يلجأ إلى الصورة المرآوية خاصة وهو يجابه نفسه بالأسئلة الكونية والبحث عما وراء الوجود الفيزيقي للأشياء والبشر ، كحامل رسالة لايفتأ يذكر نفسه بها حتى إن كانت الرغبات تقوده أحيانا إلى ممارسة عابرة مع امرأة ، ساقطة أو عذراء متمناة .

اللغة تجنح كثيرا إلى الشاعرية ، وقد تتجاوز أحيانا مستوى الشخصية الفكري فتأتي ناطقة بلغة الكاتب لا لغة الشخصية ، وبخاصة وهو يناقش أفكارا ذات جنوح صوفي أو فلسفي حتى وهو يتحدث عن حياة بسطاء الناس ومهمشي قريته التي لم تغادره شخصيات ولا موجودات ولا عادات وأفكارا .

الوقوف التحليلي أمام النصوص يؤكد أننا أمام ديوان ذي صبغة فكرية أكثر منه رصدا لظواهر أو شخصيات ذات حضور عام في المشهدين الاجتماعي والسياسي في القرى المصرية ، وبصورة عامة بدت القرية لديه أقرب إلى حالة دانية من المدينة ، وإن كان حريصا في بعض الأوقات على اتهام المدينة بالانفلات من الحراسة ، والقفز على الأسوار القيمية فيما يلمح إلى أن القرية ربما كانت هي المنوطة بحراسة هذه القيم … وعلى كل لم نرَ تحديد ا لحارس ، ولم نقف على أبعاد فزاعة الوقت ، اللهم فيما حاولنا تأويله ، ولانجزم بصحته ، ليظل باب التآويل مفتوحا ، و الحارس في وعي كل منا ذو طبيعة خاصة ، والوقت فزاعة للجميع .. ولعلني قد كنت ناقدا خاتله النقد ويفزعه الوقت لايزال آملا في استكمال الرؤية و التحليل بفساحات زمنية أطول مما أتيح لي بمفاجأة المناقشة في هذا التوقيت .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى