ساحة الإبداع

حوافُ الظِّلِّ نص قصصى حمدي عبدالرازق

حوافُ الظِّلِّ  نص قصصى حمدي عبدالرازق

   

(1) 

تفجر الحزنُ فى قلبه الصغير، ليس لأنه فشل فى صيد فَرَخ واحد رغم كثرة الفخاخ التى نصبها، والتى ملأت الترعة، التى انحسر عنها الماء.نسى أماكن الفخاخ فانطبق فخ على قدمه وانغرزت سنه فى رجله وهو يتابعها. لم يكن هذا سبب حزنه الأوحد، إنما كان حزنه لأن أصدقاءه سوف يأتون بعد قليل مهللين مجهزين الحطب ولاصيد معه! تمنى لو أنه استجابَ لإلحاح صديقه فواز الذى عرض عليه أن يشاركه نصبَ الفخاخِ ومتابعتَها وتقسيمَ الغنائم، ولكنه رفض بشدة وقال له:

أنا أصيدُ وأنتم تأكلونَ فقط يا كلاب!

بلَّ جرحه بريقه ومسح على حواف الجرح وهو يمد رجليه ويضمهما، لاحت العصابة من بعيد وتراقصت ظلالهم واستطالت وهم يتجاوزون الفانوس المعلق على رأس الغيط، تناقص ظلهم حتى وقفوا فوق رأسه. انشغلوا بجرحه عن صيده لما رأوه ممددا، بللوا جرحه بريقهم ومسحوا على رأسه وجففوا دموعه بقمصانهم البيضاء.

 

(2)

 

ألبستنى أمى ملابسَ تليق ببيت جدِّى، وعطرَّتنى بعطر جارتها، وأوصتنى :

“صوتُك لا يعلو والكبار يتحدثون! لاتبدأ الطعامَ وانظرْ إلى عين جدك! كلْ مما يليك! وإن فرغ إناؤك تابعْ عيدَ جدتك! وإن شبعت قبلهم انتظرْ حتى يقوموا …”.

كان جدَّى أسبقَ من جدتى فى الخروج من البيت، ولما رآنى أخرجُ من البوابة نادانى، فطرت إليه. مدَّ لى يده وابتسامته فاحتضنتها وأنا أقبِّلها. ولما رأى ظلَّ جدتى يجاوزُ بوابةَ البيت بدأ فى سيره وتابعته. نمر على مجالسَ فترفع الأيدى وتعلو الأصواتُ:

ـ اتفضلْ ياخال!

فيرد بصوته الحانى:

ـ اللهْ يباركْ فيكم!

خرجنا من البيوت، قطعنا الجسر الذى يفصل قرية جدتى عن قرية جدى، وقلت فى نفسى:

الآن أمسك بيد جدى وجدتى معًا. تناومت وأنا أعرف أنه لا يحملنى وجدتى معه أبدًا. توقَّفَ فتوقفتْ، أدركتْ أن الأمرَ يخصُّنى فتركت قدميها تدوسُ فى ظلِّه، وانتظرتُ يديها وهى تخرجها من طيات ملابسها فتتناول جسدى منه وتلامستْ أكفهما وقتَ المناولة.

أغفو فأفيق وجدتى تريحُ كتفها وتنقلنى إلى الكتف الأخرى لأجدَ أمامى ظلاما ممتدا إلى نهاية البصر ولاتتخلله إلا خيالات أعواد القصب. أدير وجهى إليها فلا أرى إلا طرف البردة وقد واربتها قليلا لتتابع ظلَّ جدى بإحدى عينيها لا تتقدم عنه ولاتتأخر.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى