أوبرا مصر تنشر الحلقة الثالثة عن اللغة العربية والقرآن يكتبها أشرف البولاقي
بدأ ارتباط العربية بالمقدس مبكرًا جدًا، قبل انفجار التدوين في القرن الثاني الهجري، بدأ شفاهيًا وذهنيًا في التصور الديني، وبدأ أولَ ما بدأ بالشعر، تحديدًا بالاستشهاد به على عربية القرآن، وللتدليل على أنه ما مِن مفردةٍ عربية ورَدَت في القرآن إلا وقد عرَفها العرب في أشعارهم، وأول مَن نهج هذا النهج في التصور الديني كان ابن عباس. وعندما نقول “في التصور الديني”، فإننا نعني التصوراتِ والرؤى الذهنيةَ والنفسية التي كانت تعتمل في أذهان جماعة المسلمين ووعيهم وإدراكِهم، ومن ثم فليس ثمة اتهامٌ ولا مَطعن في ابن عبّاس نفسِه الذي قد يكون بريئًا من كل ما هو منسوبٌ إليه، كما سنرى لاحقًا. والحديثُ عن ابن عباس، رضي الله عنه وغفر له، ليس حديثًا بعيدًا عن موضوعنا، ولا نظن أننا سنهدم ركنًا من أركان الإسلام، ولا سنهز ثابتًا من ثوابت العقيدة الإسلامية، عندما نقول إنه لأمرٍ ما أراد (الناس) أن يكون ابن عباس، رضي الله عنه وغفر له، حبرَ الأمّةِ وترجمانَ القرآن، لكننا عندما نقول ذلك فإننا نتحدث عن الناس (وليس عن ابن عباس) في التاريخ، وعن شخصيات ليست معصومة، وهُم الرواة والمحدّثون والمدوّنون. ولا نظن أن هناك سببًا دفع (الناس) لذلك الذي أرادوه أكثر مِن قرابة ابن عباس للنبي الكريم، فهو ابن عمِّه، فإذا قيل ولماذا تم اختياره دون غيره مِن أبناء عمومته ليكون كذلك، قلنا لسببين، الأول أن النبي رحل عن ابن عباس وهو فتىً صغير، ومن ثم فإنّ نبوغَه وعِلمَه وتفقّهه في الدين، على قِصر مدة صحبتِه للنبي، سيكون أمرًا لافتًا، دون أن ننسى هنا أن النبي نفسَه دعا له بالعلم والفقه… والسبب الآخر مكانة أبيه عند النبي وحظوته. ويكفي أن نعرف أن النبي لقي ربّه وابنُ عباسٍ في العاشرة من عمرِه، وقيل في الثالثة عشرة، ومِن المتفَق عليه أنه لم يصحب النبيَّ أكثر من ثلاثين شهرًا، ورغم ذلك يفاجئنا (الناس) في كتب السيرةِ والسُّنَّة أنه روى عن النبي أكثر من ألف وخمسمائة حديث! ولولا أننا لم نخصص الحديثَ عن سيرة ابن عباس، لوقفنا طويلاً أمام القصص التي يروىها (الناس) عنه وعن مواقفه، ولا سيما موقفيْه مِن الإمام عليّ بن أبي طالب عندما اتهمَه – اتهمَه الإمام- بسرقة مال البصرة، والكتابات المتبادَلة بينهما، والتي يقول فيها ابن عباس للإمام ردًا على اتهامِه: “واللهِ لأن ألقى اللهَ وقد أخذتُ مال المسلمين، لأهونُ عليّ من أن ألقاه وقد سفكتُ دماءهم!” وموقفه الآخر من السيدة عائشة عندما سبّها وشتمها، وقال لها إنك لم تزيدي عند رسول الله عن امرأةٍ كسائر نسائه! ونعرف جيدًا أن كل ما لا يروق للذهنية الإسلامية يسهل تمامًا دفعه بأنه موضوعٌ ومنتحَل؛ لينتهي الأمر بسهولةٍ ويُسر! (وسيأتي لاحقًا أننا يمكن أن نوافق القائلين على أن الروايتيْن موضوعتان ومنتحَلَتان، بشرط أن نمد خيط الوضع والانتحال حتى آخره!) لقد خَصصنا هذه الكتابات عن اللغة والقرآن، ومن ثم نرى أن ما هو منسوب لابن عباس مهِم جدًا فيما نطرجه ونتناوله، ولقد يعرف قرّاء الفقهِ والأدب والتاريخ مكانةَ ابن عباس وعِلمَه بالشعر واللغة والأنساب، مما لا يحتاج مِنا إلى مزيد تفصيل أو بيان، ويكفي أن نذكّر أن ابن عباس- فيما روى الناس- كان أول مَن فتح الباب أمام ارتباط العربية بالمقدس القرآن، ومنه أخذ المفسرون نهجَه وطريقه. ولقد تعتبَر سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس، واحدةً مِن أهم مراجع أو مصادر ارتباط العربية بالمقدس، وهي التي يدرّسها المعلمون لتلاميذهم وطلابهم، ويتيه بها اللغويون ومحبو العربية، باعتبارها دالةً ومؤكدة على علم ابن عباس من ناحية، وعلى ارتباط القرآن باللغة العربية التي عرفها العرب. وهي – سؤالات نافع- تحتاج مِنا إلى وقفةٍ مستقلة؛ لننظر في أسلوبها ومنهجها ومضمونها. (يتبع)