أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

عماد خالد رحمة يكتب علم اللسانيات وتراثنا العربي

جدلية الأصالة والمعاصرة في خدمة اللغة:

.

يُعَدّ علم اللسانيات الحديث أحد أهم الحقول المعرفية التي تركت أثرًا عميقًا في مختلف العلوم الإنسانية، لما له من قدرة على النفاذ إلى البنية التحتية للغة، تلك التي تُعَدّ الحامل الأوّل للفكر، والمجال الحيوي الذي تتشكل فيه المعارف وتتطور. وإذا كان الغرب قد طوّر هذا العلم في صورته الحديثة ابتداءً من أبحاث فردينان دو سوسير (Ferdinand de Saussure) وصولًا إلى مدارس البنيوية والتداولية والتفكيكية، فإنّ التراث العربي بدوره يزخر بجهود رائدة في مجال الدرس اللغوي لا تقل أهمية عن تلك الإنجازات، بل تكاد تُعَدّ تأسيسًا لعلوم لسانية أصيلة سبقت زمنها في كثير من المسائل.
إنّ العلاقة بين اللسانيات الحديثة والتراث العربي ليست علاقة تضاد أو قطيعة معرفية، وإنما علاقة تمازج وتكامل؛ فالأصالة والمعاصرة هنا تدخلان في نسيج واحد، حيث تُعاد قراءة التراث بآليات حديثة دون أن يُفقد قيمته الجوهرية، كما تُغتني النظريات المعاصرة بما يمكن أن يقدّمه التراث العربي من مقاربات عميقة في النحو والصرف والدلالة والبلاغة. إنّ ما قدّمه عبد القاهر الجرجاني في “دلائل الإعجاز” أو ما سطّره ابن جني في “الخصائص”، فضلًا عن جهود ابن يعيش وابن فارس وغيرهم، يبرهن أنّ الدرس اللغوي العربي لم يكن وصفًا شكليًا فحسب، بل كان بحثًا فلسفيًا في علاقة اللفظ بالمعنى، وفي قوانين النظم، وفي طبيعة الإبداع اللغوي نفسه.
لقد أثبتت اللسانيات الحديثة أنّ اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي منظومة متكاملة تتقاطع فيها الفلسفة والأنثروبولوجيا والاجتماع وعلم النفس، ومن هنا جاءت الدراسات الحديثة في علم الأصوات (Phonetics)، وعلم المعنى (Semantics)، وعلم التداول (Pragmatics)، وعلم المقارنة، وعلم التاريخ اللغوي. غير أنّ هذه التخصصات، إذا ما وُضعت في حوار مع تراثنا العربي، تُظهر مدى السبق الذي أحرزه اللغويون العرب في ميدان علم الأصوات، وعلم الاشتقاق، والدراسات الدلالية. فالمفاهيم التي أرسى دعائمها التراث، مثل “القياس” و”الاشتقاق” و”المجاز”، لا تقل قيمة عن مفاهيم “البنية” و”التحويل” و”الوظيفة” التي طوّرها اللسانيون المعاصرون.
من هنا، لا بدّ من مشروع لغوي عربي متكامل يستثمر الإرث الكبير ويعيد صياغته في ضوء المناهج اللسانية الحديثة، بحيث يتمكّن القارئ العربي من استيعاب تراثه وإعادة تقديمه للعالم بثوب معاصر، يبرهن أنّ العربية ليست لغة الماضي فحسب، بل لغة الحاضر والمستقبل. هذا المشروع لا ينطلق من عقدة النقص تجاه الغرب، بل من ثقة راسخة بأنّ تراثنا اللغوي غنيّ بالمرجعيات القادرة على الحوار مع كل المدارس اللسانية.
إنّ التجديد في قواعد النحو والصرف وفق منظور معاصر لا يعني التفريط بالأسس التي أرساها الأوائل، بل يهدف إلى تيسيرها وجعلها أكثر ملاءمة لمقتضيات الحياة الحديثة والتعليم العصري. ولعلّ هذا ما يجعلنا نتطلع إلى “لسانيات عربية حديثة” تزاوج بين ما هو أصيل وما هو معاصر، فتنتج منهجًا لغويًا متكاملًا يعزز من حضور العربية في العالم الرقمي، ويربطها بحقول المعرفة الإنسانية كافة.
إنّ الرهان اليوم هو أن نستطيع، عبر هذا التفاعل الخلاق، أن نعيد الاعتبار للغتنا العربية باعتبارها لغة علم وفكر، وأن نؤكد أنّ كل حداثة لا تنبني على أصالة، هي حداثة عرجاء، وكل أصالة لا تدخل في حوار مع معطيات العصر، هي أصالة جامدة. ومن هنا، يصبح علم اللسانيات جسرًا معرفيًا بين ماضينا وحاضرنا، وأداة لتجديد لغتنا وإطلاق طاقاتها الكامنة نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى