دراسات ومقالات

فوزي خضر يَكتُب : مساحات إنسانية في “هبات ساخنة” لسعاد سليمان

رواية ( هَبَّات ساخنة ) للكاتبة سعاد سليمان تتناول قضايا اجتماعية شائكة تكشف عن علاقات غير سوية – في معظمها – تخوضها مجموعة من النساء عبر أماكن في القاهرة في وسط البلد ، تقع معظم مواقفها في بيت سلمى بطلة الرواية، والكاتبة تعرض حوادث روايتها من خلال منظور سيدة أدركها سن اليأس – كما يُطلق عليه – وتتعرض إلى تفاعلات جسدية متمثلة في الهبّات الساخنة التي تجتاحه بعد هروب هرمون الاستروجين منه ، وهو الهرمون الذي يمد الجسد بتفاعلات الأنوثة ، وينعكس ذلك كله على الحالة النفسية للمرأة مما يجعل انفعالاتها غير منطقية في كثير من الأحيان .
الرواية عبارة عن هبّات ساخنة تعرض أحداث الرواية، فجعلت الكاتبة تقسيماتٍ- كأنها فصول- تحت عناوين تنَوَّعَتْ بين هَبَّةٍ وأخرى فجعلتها: هبة مفقودة – هبة ساخرة – هبة حنون – هبات متتالية تنقذ أمى من خناقة قد أطيحُ فيها بما تبقّى بيننا – هبة ساحرة – هبة خارجية – هبة قاسية – هبة شرسة – هبة شديدة السخونة – نساء ثاني أكسيد الكربون – هبات تنخر جلدى- هبات لوليتا / ليلى – ثم فقرات قصيرة عناوينها : كتبت لوليتا ، فايزة ، سيناء ، راجية ، سلمى -وتختتم بتقسيمة أخيرة بعنوان : لُعبة الهبّات الساخنة، وهى تبدأ روايتها بغير عنوان للتقسيمة الأولى فتقول في مستهلها :
( لكننى في هذه اللحظة أعلن : إننى أكرهكن جميعاً، صديقاتي اللاتي يمصمصن شفاههن، يتصعبن على حالي .
– معلش .. للسن أحكامه يا سلمى .
– أستغربكن .. أشمئز منكن، أكرهكن، أنا التي لم تعرف الكراهية، أنا التي أودعنى الله خزائن الرحمة والشفقة على أعدائي قبل أصدقائي).

الكاتبة سعاد سليمان
الكاتبة سعاد سليمان

سلمى هي الراوية الأساسية في الرواية ، هي تُعْلمنا أنها عظمية الرحمة بالجميع أصدقاء كانوا أو أعداء ، لكنها في هذا الموقف عرفت الكراهية، كراهية صديقاتها لأنهن يشفقن على حالها بينما هن بكامل أنوثتهن لم يفقدن ما تمتلكه الأنثى الولود ، وكانت سلمى صادقة حين أعلنت لنا كراهيتها لصديقاتها. حين قال أبو العلاء المعري :
فلا نزلتْ علىَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظمُ العباداَ
رأوا أنه بالغ في المثالية ، ورأوا أن أبا فراس الحمدانى كان أكثر صدقاً حين قال :
إذا مِتُّ ظماناً فلا نَزَلَ القَطْرُ
كانت سلمى صادقة مع نفسها ، وهنا كان لابد أن تصف للقاريء الهبة الساخنة التي تجتاح البطلة والتى ستظل تصاحبها عبر مواقف الرواية المتتالية ، تقول سعاد سليمان على لسان سلمى :
( أتمنى أن ألعنهن من كل قلبي ، لكن عقلى توقف ، يستقبل ذلك الصهد الساخن الذي يخرج من أذني ، تنغلق رئتاي كأنني أُخرج آخر أنفاسي ، أطلق زفيراً متلاحقاً، أصلَى سعيراً ، عروق رقبتي تنفر ، يكفهر وجهي احمراراً، تنوء قدماى بحملى ، أريد أن أنام ، أجلس ، أتبول ، أهوّى على وجهي في الوقت ذاته ، أضم ساقيّ بعنف حتى لا يتسرب بولي ، قطراتٌ خفية بللتْ ملابسي الداخلية ، أخشى أن تنهمر وتفضحني) .
ثم تكمل قائلة :
( دقيقة ، على الأكثر دقيقتان، بعدها أسترد روحى المعلقة حولي ، ينضح جسدي عرقاً غزيراً ، يغرق شعري ، وجهي ، ظَهْراَ يديَ ، ركبتاى ، سلسلة ظهري ، بعدها أرتجف برداً ينخر في عظامي.. تظل درجة حرارة جسمي منخفضة ، ثم ترتفع حد الغليان، هكذا مئات المرات في اليوم الواحد) .
هنا يبدأ التعاطف مع تلك المرأة التي تعاني الهبات الساخنة التي سنجدها عبر الرواية من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة ، لقد استطاعت سعاد سليمان أن تجتذب تعاطفنا مع بطلة الرواية منذ بدايتها ، تلك البداية التي تؤكد أن هناك ما قبلها فقد استهلت الرواية بقولها : ( لكنني في هذه اللحظة ) هذه ليست جملة استهلالية إنما هي جملة مرتبطة بما قبلها، ذلك الماقبل الذي لم تذكره الكاتبة ، وإن كان باستطاعتنا أن نتلمس ما قبل البداية عن طريق ما ورد بين سلمى وصديقاتها.
تنتقل بنا الكاتبة في أماكن متعددة مثل عمارات وسط البلد وجروبي ومقهى ريش ومقهى زهرة البستان وميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير ، وتربط ذلك بحكايات صديقاتها وبحبيبها وأزواجها، وهي تستعين برسم أشخاص من خيالها وتشير إلى شخصيات حقيقية مثل الروائي مكاوي سعيد والدكتور أنور مغيث والأمير عمر طوسون .. وغيرهم .
وهي تداوم على ذكر حالتها أثناء الهبّة ، لكنها أحياناً لا تصف حالتها، وإنما تذكر وجود الهبة فتقول خلال كلامها : ( أعود إليكم بعد هبة غبية .. كنت أقول) ، وتكمل ما كانت تحكيه ، فهي تجعل للهبّات حضوراً دائماً خلال الرواية، فالهبّات الساخنة تمثل المحور الرئيسي لأحداث الرواية بالرغم من أنها تستغرق أحياناً في عرض تجارب صديقاتها وحكاياتهن إلا أنها تعود دائماً إلى الهبات التي تتعرض لها.
تعرض الكاتبة وقائع تاريخية على لسان سلمى أو والدتها العارفة بحكايات عمارات وسط البلد وتاريخ الساسة وبعض الشخصيات المهمة. وقد حرصت الكاتبة على الوصف باللغة العربية وجعلت الحوار باللهجة العامية التي حملت كثيراً من الألفاظ الخارجة التي كان يصعب قولها بالفصحي، في حين أنها استطاعت أن تتحاشي تلك الألفاظ.. مثال ذلك هذا الحوار الذي كانت فريدة طرفاً فيه حيث قالت :
( – احضن وبوس وابعد عن الـ…. سكتت فريدة
– عن إيه ؟
ترد ضاحكة : إنتي فاهمه اهو .. اللي بيتنفخ عند سلطانة )
وكان قد ورد قبل ذلك أن صديقتهن سلطانة حين تتأجج شهوتها يؤدي ذلك إلى ( انتفاخ شيئها ) وتقول إحداهن ( أنا مش وعاء ، لو انتو كده ، أنا لأ ) وكتبت لوليتا : ( بئري هو جسدي الذي حمل متاعب ومتاع البشر ) الكاتبة إذاً كان باستطاعتها أن تتحاشى بعض الكلمات وتعبر – في الوقت نفسه – عما تريد أن تقوله ، فليس بالضرورة مثلاً أن تقول : تَشْخُرُ فايزة !! .. والكاتبة لا تهمل حالة كتبتها وإنما هي تردد تلك الحالة عبر روايتها ، فهي تعود إلى ذكر كراهيتها لصديقاتها ، وهي تعود إلى ذكر آدم الذي أَحَبّتْهُ ، وهى تكرر ذكر صديقاتها بمواقف متنوعة ، وتتكلم عن سلطانة ووفاتها ، ثم تعود إلى الظروف التي تعرفت عليها فيها ، وإلى زواجها ، وإلى طفليها شمس وقمر اللذين عاشا مع أم سلمى ، وهما موجودان حتى ختام الرواية حيث تقول :
( أغلقت الشقة التي كنا نسميها شقة البنات ، انتقلت للعيش مع أمى وشمس وقمر حياتي، صرنا نلعب لعبة أسميناها الهبات الساخنة، اتفقنا على أنه عندما أحس ببداية الهبات أصرخ قائلة: هوباااا ويتنطط حولي شمس وقمر يرشان بالماء وجهي، تقف أمي بفوطة ، وروب حراري اشترته خصيصا لأجلي كي يدفيء جسدي عند كل هبة ) .

غلاف رواية هبات ساخنة
غلاف رواية هبات ساخنة

وهنا تنتهي الرواية.
يهمني أن أشير إلى أن الكاتبة استخدمت بعض التعبيرات اللافتة مثل قولها : ( خدشت سماهر الصمت ) وأشير أيضاً إلى أنها عرضت قصص صديقاتها وحكاية حياة كل واحدة منهن بما فيها من فضائح وانحرافات وآلام، ولما طلب مكاوي سعيد من كل واحدة منهن أن تعرّفَ بنفسها في سطور قليلة ، ثم سرقت كراساتهن ، توقعنا تكراراً لتلك الانحرافات ، لكننا وجدنا كلمات تدل على مدى معاناة كل منهن ولم تذكر أي شيء عن تجاربهن ، فهي ذكرتها قبل ذلك ، وجدنا كلاماً فيه الحكمة ونضوج تجربة الحياة ، وكأنها تقول إن ما تقوله هؤلاء النسوة لكم لا يدل على ما مررن به من تجارب فاضحة في أغلب الأحيان ومؤلمة أيضاً .
وأخيراً كأن سعاد سليمان تقول لنا إن جانباً من المجتمع ينهار ، يضم هذه الفئة من النسوة اللائي عشن تجارب قاسية ، وإن المرأة تعاني في ناحية بعيدة عن تَصَوُّرِ الرجال، لعل أهمها تلك الهبات الساخنة التي تتعرض لها .
رواية هبات ساخنة – التي صدرت طبعتها الأولى 2020م. عن روافد للنشر والتوزيع – رواية كاشفة لمساحات إنسانية يتوجب الالتفات إليها..

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى