دراسات ومقالات

محمد عطية محمود يَكتُب : “أن تكتب ذاتك”

تشغل إشكالية الكتابة عن الذات حيزا كبيرا من التفكير لدى كل من المبدع والناقد والمتلقي على حد السواء.. لكنها بمعيار الفن تعتبر المدخل الحقيقي للإبداع أيما كانت طرائقه وشعابه، فالمبدع غير منفصل عن ذاته وبيئته، لاسيما في نصوصه الأولى وبواكيره، ومنها المنطلق والتوجه نحو كتابة أصيلة ترتاد هموم الآخرين وشواغلهم؛ فمن الفرد/ الذات كنواة وأساس تتكون الجماعة الصغيرة ومن الجماعة الصغيرة يتكون المجتمع، وما العالم إلا مزيج كبير وخليط من هذه المجتمعات، ولذات الكاتب الساردة شاء أم أبى جزء أصيل في تكويناته الإبداعية فضلا عن كونها قد تمثل الآخرين.. لكن الحذر الواجب من الإغراق في الذاتية المفرطة المتكررة التي تحول العمل الأدبي إلى ذاتي صرف يعتمد النفس ولواعجها دونما النظر إلى الخارج.. فتلك إشكالية المبدع، وتلك ورطته الكبرى، حال حدوثها والتزامه بها، وهي فخ ينبغي لمن يريد النجاة منه التسلح بدرع الوعي الأدبي والفني الذي حتما ينطلق من ثقافة واعية، فارزة لما حولها، ولمدى صلاحيته ليغلف بأغلفة الإبداع البراقة، حتى يستطيع الفصل بين أشكال الإبداع، ذلك أن ما يصلح لكونه سيرة ذاتية صرفة، قد لا يصلح لكي يمثل نسقا إبداعيا حاويا لمزيج من أشكال التعبير الذي من المفترض أن يحوي آلام العالم ويجسدها على نحو ما أو آخر…. كما يؤثر فيها عامل آخر مهم وهو عامل الفن/ الإبداع، أو التقنية التي تميز الكتابة عن الذات في جميع أحوالها سواء كانت باستلام جانب السيرة الذاتية الصرف، أو هذا التضفير الإبداعي.. هذه الفنية والقدرة على التجاوز النمطي في طرح الذات كي تكون طرحا متميزا لا يغيب عنه الوعي بالفن ولا بمهارات التحول من الخاص إلى العام، أو الانزياح لملامسة أنات الآخرين، فربما كان الذاتي معبرا ومتماسا مع الكثير من الحالات الإنسانية الأخرى المشابهة.. بعيدا كل البعد عن التسجيلية العميقة التي قد يعبر البعض عنهاـ اعتقادا خاطئا ـ بالتقمص للهروب من شبهة الذاتية!!
تجليات المرحلة الباكرة
في مرحلة باكرة.. طوعت لي ذاتي الاندفاع نحو اقتراف كتابة الشعر، الذي هو أقرب إلى الخواطر السهل الممتنع على أغلب من هم في سني المراهقة، صرت أكتب، وأخفي ما أكتبه، في ذات الوقت الذي لا أدرى فيه لماذا أكتب، ولا أدرى سببا لإخفائي ما أكتب .هل كان خوفا من أن يطلع أحد على دخيلتي، أو ظنا منــى أنـه لا يرقى إلى مجرد الاطلاع عليه، أم ظل في نفسي سرا مـــن أسراري الكونية الذي تبرز فيه الأنا التي كانت محور كل ما أكتبه وأخشى افتضاحه؛ فقد صارت ردة فعلى على أي موقف تنسكب من وعيي أو لا وعيي على الورق إما إلى خواطر شبه منظومة، وإما إلى تعبير حر أبحر فيه في خضم بحر، لا أدرى أنه بحر النثر الغالب على أي تحليل لما يواجه ذاتي من أرق أو متاعب أو مشاعر حب أو مقت، أو شتى مواقفي وحروبي المعلنة وغير المعلنة.. بحر النثر أو الفضفضة التي جرتني يوما إلى التخلي عن كتابة ما كنت أظنه شعرا، ارتحالا إلى كتابة أول مشروع لكتابة قصة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي، بعد أن سبقتها مع خطواتي الوليدة، خواطري الشاعرة إلى قصر ثقافة الحرية (مركز الحرية للإبداع حاليا)؛ فتلقفتني وجوه الشعراء، وكلماتهم المشحونة بالانفعال والشجن والتوتر والمعارك، مع ألوان أشعارهم التي رسخت في نفسي اليقين بأن ما أكتبه لا يرقى إلى فن الشعر الذي تحكمه القواعد والبحور والأوزان والقوافي، إلى جانب التجربة الشعرية والحياتية، رغم استحسان البعض لما حملته بين يدي مرتعشا بحمى الإبداع الناشيء.. شاديا بخواطري كشدو الشعراء.. وتنبؤ البعض بأن هناك حس شاعر يقف خلف هذا النظم الوليد، وما هي إلا عدة جلسات حتى قذفتني أمواج الشعر إلى شاطئ آخر من شواطئ الكتابة هو شاطيء القصة القصيرة
تكشّـف
لم يغب ضمير الأنا عن العبث في المخيلة المشحونة بالأرق ـ الذي لم يكن فاعلا حتى تلك اللحظة ـ دونما إبحار عبر ورق وقلم، حتى لفظني اجتيازي لدراسة ملزمة، إلى خضم التفاعل مع ما حولي متحررا من قيد الانتظام الممل الذي تأباه نفسي، وتغيب في أسره ذاتي المبدعة التي ناوشتني بأطراف من خيالها المراوغ .. مواجها للأذرع الخفية المخيفة لأحوال الحياة الضجرة المتقلبة.. عملية مواجهة كاشفة مع عالم جديد متناقض، ولم يبد منه بعد ما أصر على الاحتجاب والتستر، لينطرح سؤال الكتابة والاكتتاب ملحا، وتطفو فيه الأنا محطمة للقيود والأغلال ـ معنويا ـ ويخرج ضمير الكاتب ليكتتب ذاته مؤطرة بفعل الفن المبدع، مع فعل الأحوال المحدقة بالحياة.. سمها قدرية إن شئت ..
أراه ـ فعل الأنا المبدعة ـ في بعض شطحاتي الذهنية، ماردا، وخرج من قمقم ليواجه قمع الحلم بالحلم المضاد، واكتتاب الذات كموجة من موجات تيار الوعي، الذي لم أكن قد تعرفت عليه كمصطلح، فربما تعرفت على الشيء، ولم تتعرف بعد على مسماه ـ كدرس من دروس الإبداع المؤلم والممتع معا ـ فقد شرحت ذاتي للمرة الأولى في قصة ـ هي في هذا الوقت تكاد تكون محكمة ـ أسقطتها من حساباتي المفعلة، رغم إعادتي لصياغتها في ثوب جديد فيما بعد..
ثم توالت الإسقاطات من ذاتي على ما حولي في محاولات إبداعية أولية، كتب لبعضها النشر في زوايا أدبية للمبتدئين في بعض المجلات غير المتخصصة، كما كتب لبعضها الآخر حق الوجود في متن مجموعتي القصصية البكر “على حافة الحلم”، التي كان بين كتاباتها ونشرها ما يقترب من عشر سنوات عجاف!!!، حتى قامت من رقادها بطبعة متواضعة لكنها أغنتني، وأقامت صلب إبداعي من جديد، ويسرت لي الوقوف بجد على العتبات الأولى لمعانقة الواقع الإبداعي الجديد المفارق لما عشته في أواخر العقد التاسع من القرن العشرين، وبداية عقده الأخير، فنالت من الاستحسان ما دفعها ودفعني إلى الأمام فنوقشت في الإذاعة المصرية، وكتب عنها في المجلات والدوريات ما أقنعني بداية بأن أستمر وأقاوم تيارات المد والجزر فيما حولي.
حتى صار جزءا من نهجى أن أتابع حلقات الأنا في مسلسل كتابات لا تعرف الفرق فيها بين الأنا والآخر الممتزج بها، من خلال ثيمات عديدة تنوعت بين الحلم والواقع والرمز، بقدر مقومات المرحلة الإبداعية سمه ما شئت: تماه.. توحد.. انشطار متبادل.. إحلال.. علاقة طردية، أو أطراف من كل تلك المعاني مجتمعة؛ فكانت مجموعتي القصصية التي فتحت لي آفاقا جديدة متسعة في فضاء الإبداع الرحيب “وخز الأماني” أو سمها طوق النجاة الثاني الذي فتح لي بابا رحيبا للتلقي ومساهمات النقاد في تأطير ما يمكن أن أسميه “شكلي الجديد” على الأقل على مستوى التلقي والحضور، والمحافل الثقافية، فكتب عن الوخز بأقلام أكثر انتشارا وتمرسا وعلى صفحات أخبار الأدب وحواء والأسبوع والعرب الدولية والثقافة الجديدة، وغيرها وغيرها
بين الأنا الخالصة، والشاهدة على أنات الآخرين
حتى وصل القلم النازف بدم الأنا إلى مرحلة تبادل الأدوار بين تيار الأنا الخالص، وتيار الأنا الشاهدة على آلام الآخرين وانكساراتهم، إلى جانب شعورهم المراوغ بالأمن والسعادة.. ذلك الشعور المتفلت الذي بلا حابس ولا ضامن.. ذلك التسرب الذي يوحد بين الأنا المبدعة والآخرين؛ فتظهر كأنها آلامها وتباريحها.. هكذا جاءت “وخز الأماني”، أو وخز الذات حين تشعر وتتماهى مع ذوات الآخرين..
نفس آلية الانغماس في آلام الآخرين أو امتداد الطرح الإبداعي في نماذج قصص مجموعتي القصصية الثالثة “في انتظار القادم”، التي انسلخت أو كادت عن الذات وكتابتها ظاهريا على أدنى تقدير، لتشتعل في ذات الوقت ببعض النصوص القصصية التي تستدعي حالة النوستالجيا بحميميتها، ومن ثم استدعاء الأنا المختبئة لكي تعاود الظهور على سطح الكتابة لتعاود النزف الحميمي الذي يصل إلى الطرح الغنائي في بعض الأحوال.. فلا مناص من التعبير عن الذات مادامت الكتابة مطروحة كحق مشروع في الوجود، فطالما أنت تكتب أنت موجود وطالما أنت موجود فأنت لا تستطيع فصل ذاتك عن هذا الوجود..
ثمة ما يدفعنا أحيانا إلى التقمص والدخول في دائرة التشخيص، حال الكتابة عن العالم خارج الذات/ الآخرين، لكن هناك ما يميز هذا الدخول أو يهدمه على حد السواء، فتكون الكتابة هنا عرضا غير متوائم مع الغرض، وهو ما ينبغي حياله أن نتخير الشكل الأمثل للكتابة خصوصا مع تلك الكتابة الروائية التي تحيط قارئها ومتلقيها برباط من العشرة والمجاورة ما يسمح للقارئ أن يحكم بمصداقيتها أو نفي هذه المصداقية عنها بمجرد مجاورته للكتاب في ساعات القراءة الممتدة، ذلك مما قد أكون راعيته عندما كتبت روايتي “دوامات الغياب” التي كان للذات فيها نصيبا وافرا من خلال التجربة مع بعض الشخوص الذين ينتمون إلى حد كبير للواقع الفعلي والتاريخي، إضافة إلى ذاتية التعامل مع بعضهم في وجه الحقيقة، ومشاركتهم في بعض الأحيان في فعاليات حياة وتفاصيل وجود وعلاقات متشابكة فيما بين الصداقة والمعرفة والجوار.. وربما امتد التأثر والتعمق إلى درجة تقمص بعض شخصياتهم أو دمجها لتصنع مزيجا شخصيا روائيا مميزا قد يعبر عن بيئة الكتابة أو حقلها الواقعي!!
فثمة انفصال شكلي للأنا في إبداعات تعبر عن أنا(ت) الآخرين، لكن في يقيني أنه لا يمكن إقصاء الأنا/ الذات من أطراف معادلة الكتابة الصعبة التي لا تستقيم إلا بفعل الذات/ الذوات التي يتشكل منها الفعل الإبداعي، والفعل الإنساني، المصدر الرئيسي الذي لا ينضب لهذا الإبداع، بما يدحض ذلك الميل الادعائي بأن المبدع إذا لم يجد شيئا يكتبه، فإنه يتجه إلى داخله يستجلب منه ما يعيد الحياة إلى قلمه ..
كيف، والأنا المبدعة هي الدافع الأصلي للكتابة، التي ليست نزفا للحبر على الورق، بقدر ما هي نزف للروح، التي تعبر عن الذات..

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى