دراسات ومقالات

الطابع الإنسانى وجماليات التشكيل الشعرى قراءة فى شعر جابر بسيونى  د/شعبان عبد الحكيم محمد

-1-

جابر بسيونى شاعر متفرد فى إبداعه ، ثرى فى عطائه ، ساطع فى تواجده على الساحة الأدبية ، بمشاركاته الفاعلة فى المؤتمرات والندوات ، وعضو مجلس إدارة اتحاد كُثَّاب مصر ، وجمعيات أدبية متعددة ،  وصدر له العديد من الدواوين الشعرية ، والأعمال النقدية ، فمن دواوينه الشعرية : مشاعر تجددنى ، لتكن ما شئت ، لحن الماء ، حزنى أنا أولى به ، لاينفد حبى أبدا ، أحلام …إلخ ، وستكون دراستى المتواضعة عن مختاراته الشعرية بعنوان ” الطيبون يرحلون ” قامت بطباعتها الهيئة العامة لقصور الثقافة ( عام 2014م )

أول عتبات النص العنوان ،أقصد عنوان مختارات قصائد الشاعر فى دواوينه السابقة ، والتى ” الطيبون يرحلون ” والعنوان عنوان إحدى قصائد ديوانه ” لتكن ما شئت ” وهذا العنوان يوحى بسمت يتصف به شعر الشاعر الطابع الإنسانى الجميل ، ورشاقة اللغة ، فالعنوان المكون من جملة اسمية خبرها ” جملة فعلية ”  والجملة الفعلية تصور الموقف أكثر من الإبلاغ عنه ، وفى صياغة خبرية توحى بعبثية القدر ، فالطيبون لا بقاء لهم طويلا فى هذه الحياة ، والدنيا ليست المقام الخالد لهؤلاء وأمثالهم أصحاب القيم والمبادىء ، فالعنوان – كما ذكرنا- يحمل ملمحًا فنيًّا فى شعر الشاعر ، ألا وهو الطابع الإنسانى الذى يرتقى بإنسانية الإنسان ، فتسمو إنسانيته بسمو نفسه روحيًّا ووجدانيًّا ، ففى هذه القصيدة يصور هؤلاء بصفات أقرب إلى المتصوفين فى نقاء سريرتهم ، وصفاء نفوسهم ، لذا فالدنيا ليست مقرًّا لهم ، والصوفيون أنفسهم اعتزلوا الدنيا ومتاعها ، وعاشوا حياة الصفاء والرضا والقناعة والحب ، فشعروا بجمال الحياة ، وطمأنينة النفس ، يقول الشاعر فى هذه القصيدة :

من هوة الإثم الكبير يصعدون

على جناح الرحمة الفسيح خضرا يحملون

للملأ الأعلى فرادى يرتقون

الطيبون شربهم حب

وأكلهم تقى

وقولهم صدق

وخطوهم هدى

كيف على شر الأنام يصبرون

فالحرب غنت فى الدروب

والظلم يشدو فى القلوب  ص 119

وإن رثى الشاعر لوضع حالهم فى هذا الزمن ، الذى استشرى فيه كل قبيح ، وأصبح تواجدهم استثناء مع غيرهم ، ولكن فى النهاية يبقى الشىء الجميل والنفس الطيبة التى بطبيعتها ، تنزع إلى الخير ، يتمسكون بمبادئهم ، ويظلون على طبيعتهم رغم كل المعوقات ، يعيشون من أجل حياة أفضل وأقى وأجمل :

 الطيبون فى زماننا على جمر الصلاح يقبضون

وغير وجه ربهم لا يبصرون

….

الطيبون كالنجوم

عن هوى الدنيا الرخيص يرتقون

وفى دوائر الضياء يلتقون

وغير نور الحق فى قلب الورى لا ينظرون

رحابهم نورٌ على نور ص 120

والعنوان يتضمن فى أعماقه دلالة أخرى لا تتعارض مع هذه الدلالة ( البقاء فى الحياة والعلو الزائف يكون لأصحاب النفوس الوضيعة … وهذا منطق الدنيا التى لا منطق لها ) … والعنوان جملة خبرية يوحى – أيضا – كما ذكرنا بسمت فى  أسلوب الشاعر ألا وهو التعبير القريب إلى وجداننا وفى الوقت نفسه جاء التعبير مُعبّأً بالمعانى والدلالات ،وهذا سمت أسلوبى فى تشكيل شعر الشاعر ، يذكرنا بوصف ابن الأثير فى كتابه المثل السائر لشعر البحترى ” السهل الممتنع ” فهو قريب لفهمنا ، ولكن له دلالات بعيدة ، وفى ثوب جميل فى لغة رقيقة جاذبة .

 العتبة الثانية لهذه المجموعة الإهداء وجاء لولديه ( شهاب الدين وأحمد حفظهما الله وجعلهما صالحين ، ويرتبط الإهداء بقصائد شعره التى تهدف إلى تعميق وعى الفرد بنفسه أولا ، وبمجتمعه وواقعه ثانيا ، وعى الفرد بنفسه يكون بغرس المبادىء الإنسانية التى تعلى من إنسانيته ، وتعمق الوعى بمجتمعه فى علاقاته الوطيدة بهذا المجتمع ، وأوضح دليل على ذلك قصائد الرثاء لأهله وأحبابه ، والتغنى بجمال بلاده ( الإسكندرية ) فى قصائد عدة منها هى إسكندرية ، وغزل إسكندرانى ،إسكندرية البدء والعشق …وبواقعه فالشاعر جزء من هذا المكان وهذا التاريخ ، ويترسخ هذا من بداية هذه المختارات  ، بقصيدة ” نبوءة الجنوبى المهملة ” التى يهديها لأمل دنقل ( المتوفى عام 1983م ) وفيها يوظف هذه الشخصية التى اتخذت موقفًا متصلبًا من التعامل مع العدو الصهيونى ، وبرزت حدته فى قصيدته ” لا تصالح ” وأثبتت الأيام صحة رؤيته ، وحتى آخر قصيدة  ما عدت – يا أمى – أطيق الصمت ( مهداة إلى سليمان خاطر ) وسليمان خاطر أطلق النيران على ستة من الإسرائيليين وهم يعيثون فسادًا ولهوًا على أرضنا بعد تطبيع العلاقات ، فقتلهم ، ومات فى السجن (و قِيل إنه انتحر …)

العتبة الثالثة صورة الغلاف ، والتى تحتوى عربة تحمل فوقها متاعًا لراحلين ، تعبيرًا عن عدم استمرارية الحياة بالصورة التى نأملها ، وفى الديوان قصائد عدة لراحلين أعزاء على الشاعر ( الشاعرة أمل سعد فى قصيدة وأشرقت ، والشاعر أحمد الفلو فى قصيدة شوكة الغياب المفاجىء ، والشاعر عبد المنعم الأنصارى فى قصيدة الفريد فينا ، والشاعر صابر فرج فى قصيدة ارحل ، ورثاء أمه فى قصيدة الميلاد ثانية ، ورثاء الشاعر أحمد السمرة فى قصيدة رسالة ، ورثاء زوجته فى قصيدة عودة  …إلخ  ) هذا على المستوى المادى رحيل الجسد ، الذى يتبعه رحيل قيم تحلوا بها و صفات جميلة كانت تميزهم ، وتتوغل فى أعماقهم ( الصفاء والنقاء والحب والعطاء …إلخ )

 ونشعر فى قصائد الشاعر فى رثائه  بالأسى والحزن ، وخلود هؤلاء لعطائهم ، ناهيك عن كثير من القصائد تنعى لتردى الواقع خاصة فى قيمه المعنوية ، وفى الغلاف الخلفى ما يؤكد هذا عندما اقتطع جزءًا من قصيدة ” كبوة ” من ديوان ” لا ينفذ حبى أبدًا ” والتى تنعى لمفارقة الحياة وتبدلها ، فالحياة قد تعطى من لا يستحق الوجاهة والمكانة ، وتمنحه التسلط على الأصلاء ، ولكن الأصيل أصيلٌ ،والخسيس خسيسٌ ، وكل هذا متاع زائل وحلم كئيب فى ليلة صيف ثقيل ، يقول  :

وأعلم أن الجواد الأصيل

إذا ما اعتلاه خسيس

يئن

ويعدو إلى الموت طوعا

ويأبى المهانه

وأعلم أن الأراضى

تضمُّ البوار

ولاتشرب الماء

من كف أعدائها  ص 221

وفى هذا النص يلجأ الشاعر إلى الإيحاء والتعبير بالصورة وهذا ملمح بارز فى أعمال الشاعر سنقف عليه بعد هذا المحور ، فصوَّر الشاعر فكرته بصورة قريبة إلى فهمنا ( لا إيغال فيها ، ولاتعقيد ) من خلال أنسنة ” الحمار ” فجعله يرفض أن يركبه خسيس ، وإن اضطر لذلك لم يكن سكوته عن رضا ، ومن خلال ” أنسنة الأرض ” – أيضا – فإنها تتأفف من رويها من ماء أعدائها ، لأنها ترتبط بأهلها ارتباطًا وجدانيًّا ، وماعبَّر عنه الشاعر عن عدم منطقية الواقع  ،يذكرنا بقول صلاح عبد الصور فى قوله :

 هذا زَمنُ الحقِّ الضائِع
لا يعرفُ فيه مقتولٌ مَنْ قاتِلُهُ ومتى قتَلَه
ورؤوسُ الناس على جثث الحيوانات
ورؤوسُ الحيواناتِ على جثث الناسْ
فتحسّس رأسَك …
والشاعر نفسه وفى قصيدة ” تخير أمرك ” يشير إلى هذه الرؤية  صراحة فى قوله :

غب عن وعيك حتى  أجلٍ غير مسمى

فالواقع ليس جميلا

والسائد ليس أصيلا

والنسر الجارح بات جريحا

فبمن تسعد

حسبك بين غيابك تبعد عن

زيف الخطو

وسهم السطو

وعيش الوهم   ص 113

والنص يثير مرارة لدعوة الشاعر بعدم معايشة الواقع ، والعيش فى عالم آخر ، عالم الوهم والخيال ، لأن معايشته بهذه الصورة قتل لإنسانية الإنسان ، فالهروب من الواقع ضرورة يحتمها الواقع حفاظًا على الصحة النفسية لصاحبها ، فتحول العالم إلى حيوانات جارحة ، وذهب الصفاء ، وترسَّخ الزيف والخداع …إلخ .

-2-

يمكن إيجاز الملامح الفنية لشعر جابر بسيونى بترسخ الطابع الإنسانى ، وبتفرد تجربته الإبداعية ، ورشاقة التعبير اللغوى ، وجودة التعبير بالصورة الفنية ، والمشاركة الوجدانية فى قضايا الواقع والمجتمع .

وتكاد تستشف هذه السمات الفنية فى غالبية قصائده ، حتى التى لا يعبر فيها مباشرة عن طابعه الإنسانى تشعر بتعظيم قيمة الإنسان (على سبيل التمثيل لا الحصر فى قصيدة وعادت ملامح مصر يشيد بمن يرفض الذل والهوان ، وفى قصيدة إلى أبى تعظيم للشهيد ، وفى قصيدة سالومى يزدرى النفاق والخداع ، وفى قصيدة فى الدرب العصى يعلى من قيمة الوفاء ، وفى قصيدة درويش أغنية عربية يشيد بدور الشاعر فى رسالته الإنسانية اتجاه مجتمعه…إلخ  ) ولكنه فى قصائد عدة جاء تعبيره صريحًا عن هذا الجانب الإنسانى ، ففى قصيدة “أنا ” يعبر عن ذاته ، لا بلهجة المزهو فخرًا ، المعتد بنفسه تبجحًا ، ولكن بلهجة الإنسان الطيب الوديع الرقيق ، الذى يحمل قلبًا نقيًّا وضيئًا ، قلب فنان ، يحب الناس والحياة ، يقدم أجمل ما عنده ، لا تصنعًا ، ولكن عن طبع وسجية ، يقدم الخير من أجل الخير يقول :

تعرفنى خطوات الدرب

وأمواج البحر

وأفواج  السحب

وكل الناس

وديعًا فنانًا

أسقى بيدى الطير

وأعزف للزهر الألحانا

وأدق الباب  على الخلان

وأوصل  من آثر هجرنا

وأجود بما أملك ص  91

لم يلجأ الشاعر – كعادته – إلى التقريرية فى تعبيره عن ذاته ، ولكنه يلجأ إلى طرائق أخرى معبرة ، وأكثر تأثيرًا وعمقًا فنيًّا ، باعتراف الناس والكائنات بصفاته الإنسانية النبيلة ، الرقة والحب ، ولا يعبر عنهما – أيضا – بطريقة مباشرة  ، ولكن كما مرَّ بنا فى النص بتوحده بكائنات الحياة ( الحيوانات والزرع ) على نهج الرومانسيين ، وتغمره سعادة لافحة عندما يقدم لهم الجميل والندى ، يسقى بيديه الطير ، ويعزف للأزهار سيمفونية الإعجاب بجمالها والعشق الجميل لها ، ويتواصل مع الأصحاب والرفاق ، كل ذلك انطلاقًا من مبدأ ” إنسانية الإنسان ”  فكم يشعر بسعادته عندما يسعد هذا أو ذاك ، والحياة حب وعطاء ، وتواصل ولقاء ، وكما يقول :

 وعزائى

أن أحيا

منشرح الصدر وفرحانا

فالعمر قصير جدا

لا يحتمل العدوان

وأنا أوثرأن أصبح

بعد رحيلى إنسانا …إلخ ص 92

وفى قصيدة ” الميلاد الجديد ” دعوة من الشاعر للارتقاء بإنسانية الإنسان ، بتعميق المعانى السامية فى النفوس ، وغرس كل جميل فى الأعماق ، والحياة السامية التى تُعاش بالمشاعر والأحساسيس ، لا بحسابات المال والمكسب والخسارة  ، ولذا يوجه النداء بأن نغرس فى نفوسنا جمالًا وعطرًا نديًّا  ، فـ ”  تدخل موسيقى الكون إلى وجدانك / تنتشر بذاتك / تخرج فى أنفاسك /أقوالك /أفعالك / لحنًا يشدو ويعبر عنك /املأ عقلك حبًا /تصبح أفكارك أرضًا تثمر حب الحب وينمو   ص  95

بعدها يدعو بأن نتمثل حياة الحرية ونعيشها من الداخل ،حتى نتهيأ لرفض العبودية والذل ولانعتادها : افتح قلبك للحرية

تنبض أملًا

وضَّاءً

تتحرر من أسر الرهبة

وهوى الرغبة

وقيود الدنيا لم تسجنك

املأ نفسك نورًا

تولد ثانية إنسانيا نورانيا …إلخ  ص 96

وفى نهاية القصيدة  يدعو لملء النفس بالجمال ، لتظل النفس جميلة مشرقة :

املأك جمالا تتشكل فيه جميلا

أو أن تمتلىء بقبح فتظل على الأرض عليلا  ص 96

وهذا المختتم يذكرنا بقول إيليا أبى ماضى:

أىُّ هذا الشاكى وما بك داء    كن جميلًا تر الوجود جميلا

ومن هذا التصور الإنسانى لقيمة الإنسان بإنسانيته ، يدعو الشاعر بتشكيل الإنسان لنفسه ، بغرس العادات والقيم الجميلة فى روعه ، فالإنسان كما يتعود ، وكما يوطن نفسه ، نجد هذا التصور فى قصيدتيه ” لتكن ما شئت ، وكن أنت ” فى القصيدة الأولى يرسخ مبدأ حرية الإنسان فى تشكيل طباعه ، كما قال ” لك أن تتشكل ما شئت / إنسانًا / أو عصفورًا / أو حرباء / بيديك الأمر / فكن ما شئت ” وبقدر الارتقاء فى سلم الإنسانية يكون الإنسان إنسانًا : ” تصبح إنسانًا/ أو تعلو فوق الأغصان / تردد لحن الأمن / وأمن الألحان / وتنادى بالحب على كل الأشياء / وترفرف بالعفو وتسمو فوق الذات / تحيا طائر حب عصفورًا /  يأمنك  المخلوقات …إلخ ص 98

ويرسخ الشاعر حرية المرء فى اكتسابه وترسيخه للصفات الإنسانية ، ما بين القيم الراقية  أو نقيضها ، فيرى أن الإنسان بمقدروه أن يكون ” عصفورًا أو حرباء ” وهذه دعوة مواربة لتأصيل الجانب الإيجابى المشرق فى الإنسان .

وفى قصيدة ” كن أنت ” تأتى القصيدة امتدادًا للقصيدة السابقة فى توجيه الدعوة للإنسان أن يكون الوجه الجميل للإنسانية ، أو على حد تعبيره ” نقطة ضوء ، فى وجه الكون ” وعن قيمة هذا التعبير بالضوء ، فى جماله وفوائده المتعددة ، فالضوء ينير الكون ، وبلون ترضاه النفوس وتألفه ، ويقدم للناس ولا ينتظر المقابل ، ويؤكد الشاعر قيمة سمو الإنسان فى هذا المنحى ، أنه سيظل هو الأفضل ، فالضوء لونه أبيض ، واللون الأبيض هو الأنقى كذلك الإنسان الراقى بإنسانيته يكون الأنقى والاجمل  ، كما قال :

 فتفرد … تفرض خطوك

فوق الدرب

وعبر الأزمان

تتساوى الألوان إذا اختلطت

ويظل اللون الأنقى  ص 107

كى ترقى

كن أنت

تكن الأبقى

تصبح نجمًا فى سحب الدنيا

متبوعًا

تصنع أحداث الأشياء

ولست التابع

كقطيع

كنت أنت الحادى

كن نقطة ضوء تتفرد

فى وجه الكون

لتبقى

كن أنت    ص 108

وفى قصيدة ” اقرأ قلبك ” دعوة لصفاء القلب ، القلب الذى يحتوى الحياة ، ويحليها جمالًا وروعة وتألقًا ، وهو فى عادته لا يلجأ إلى التقرير فى التعبير عن دلالات نصه ،ولكن كعادة الرومانسيين فى الامتزاج بالطبيعة ، التى تتصف بالصفاء والجمال ، فيجعل القلب الصافى قلب طير ، لا يحمل غلًا ولا ضيقًا من أحد ، قلب يتعالى عن حقد الحاقدين ودناءة الساقطين ، وبذلك يعلل لاختياره لقلب الطير فى الصفاء والسمو ، فانطلاقه فى الفضاء فيه علو ، وترفع عن التافه والساقط ، يقول :

ما أجمل أن تملك قلبا كقلوب الطير

يرفرف فى سحب الكون

يفتح بالحب هوى الأشياء

ويرسل للأرض سلامًا

يمطر خيرًا ينمو ….يكبر

ينهل منه الناس / الشجر / الحجر

ويأمن فيه الكل

يطل على المأزوم يفك قيوده    

يتسع ليشمل كل الخلق  ص 109

ويتوالى فى شدوه الجميل بصفات هذا القلب ، الذى يمنح الآخرين الخير والحب :

يزرع فى الحقل سواقى الخير

تدور ….تدور

وتروى عطش الزرع

تغنى فى العمل الدائر أغنية العزم وعم الصدق

ما أجمل أن تملك قلبًا كقلوب الطير يرفرف

لا يعرف غير الحب /الود /الصفح/الحق مدى  ص 110

هكذا يعيشنا الشاعر الحياة بروح الشاعر الوضيئة الجميلة ، التى تعيش الحياة من الداخل بالمشاعر والأحاسيس والشعور بالجمال ، والحق والفضيلة ، هذه الحياة يرفضها الواقع المؤلم ، الذى ينتشر فيه الفساد والظلم والضلال ، فى هذا العالم لم يعد بيئته صالحة للشعر الذى يدعو للفضيلة والرقى ، يقول فى قصيدة ” عذرا يا شعر ” :

عذرا يا شعر

لم تعد الفارس فى الميدان

لم تعد الكلمات عصافير مشاعر

ومرايا النبض

وفرشاة ترسم قلب حبيب  ص 133

ضل الحرف خطاه

….هذا زمن الخنجر والغربان

زمن ..فيه البطل النجم الساطع

والشعر الفارس

خلف ستار الزيف اليوم انحصر وهان ص 134

فلتصمت يا شعر

فلآن الآن

السكر والملح هنا سيان ص 134

والنص يوحى بمرارة مؤلمة لضياع القيم فى الحياة ، وأولها قيمة الفن ، أليس الشعراء كما قال شيللى ” الشعراء مشرعو العالم غير المعترف بهم ” وكما أعلنها بودلير صريحة ” إن أية مهنة لا يمكن أن ترتقى إلى مستوى مهنة الأديب ”  فلم تعد الشعر فى المقدمة لأنه منهاج البشرية فى نشره للفضيلة والقيم ، وفى العيش فى نضارة وبهاء …وهذا ما يرفضه النفعيون الذين يبحثون عن مصالحهم على حساب قيم المجتمع ، هذا ما دفع الشاعر أن يدعو الشعر بالصمت ،لأنه يعيش فى زمن غير زمانه ، وبين بشر لا يقدرون مكانته ، وهنا جاءت صيحة الشاعر:

عذرا

يا شعر

فلتصمت

لم يغد – الآن – زمانك

والصمت أمان …

فلتصمت  ص 136

ونعى الشاعر لضياع قيمة الشعر ظاهرة متأصلة فى مجتمعاتنا ، ففى القرن الرابع الهجرى  قال المتنبى :

حتى رجعت وأقلامى قوائل لى   المجد للسيف ليس المجد للقلم

اكتب لنا أبدًا بعد الكتاب  به     فإنما نحن للأســــــــياف كالخدم

-3-

التعبير بالصورة أبرز ملامح شعر جابر بسيونى كما ذكرنا ،  وفى قصائده  يصور لنا الشاعر الأمور الوجدانية التى لا تُجسد نراها فى صورة حسية ماثلة أمامنا ، نراها بأعيننا ونسمعها بأذاننا ونتحسسها شكلا وتواجدًا ، ونعيش نبضها ، ومن جماليات التعبير بالصورة – هنا – أن الصورة أكثر تأثيرًا فى النفوس ، وأبلغ توصيلًا للفكرة ، وأوقع فى النفس عن التعبير المباشر عن الفكرة ، فى قصيدة “أشيائى ” يصور لنا طابعه وطبيعة شخصيته ، فى صور بليغة مؤثرة ، مستخدمًا التصوير القريب المجسَّد للمعنى ،  هذه الشخصية التى كونتها عوامل عدة ، وشكلتها ملابسات محيطة بها ، ارتبطت بها ارتباطا عميقًا ، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ منه ، يقول :

أشيائى  بعض منى

وأنا نبض فيها

أحياها

وأغنيها

تحينى وتغنينى

فيها عمرى وطموحى

ومواعيدى هنائى  وجروحى

تشرحنى للكون وأشرحها

أجمعها فى الدرب وأطرحها

وبها أمضى إنسانًا   ص 29

قدرة الشاعر على تجسيد هذه الأمور المعنوية ، ليعبر عن سمت الشخصية ، التى تعبر عن كيانها ، ومزاجها ، وارتباطها بالناس والأشياء ، فمن منا بدون مجموعة من الصحاب ؟ وبدون الارتباط بأمكنة معينة ، وبمجموعة عادات يمارسها ، ونشاطات بعينها يمارسها ، هذه هى الأشياء التى تشكل الشخصية وتميزها .

لقد توحد بها وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيانه وشخصيته ، منها هواه للشعر ، وحبه للناس والتواصل معهم ، يقول مصورًا توحده بما يرسخ شخصيته ، ولولاها ما كانت شخصيته وذاته :

أشيائى نوع دمى

ودمى لحن ضياها

أتنفسها  أرعاها

تتنفسنى …ترعانى

نتوحد معنى فوق الأرض جديدًا

تتجدد أملًا  فى أعين العمر سعيدًا

…..

أشيائى أحبابى  والدفء

أغار عليها وتغار علىَّ

أحدثها  وتحدثنى

فى كل شئون الكون

أضمُّ هواها

تؤنسنى

وتكون الفرحة والأحباب

وإن جحد الناس طريقى 

أو حجب البعض بريقى  ص31

ولعب المعجم اللغوى دورًا فاعلا فى تشكيل بنية النص ( أتنفسها وأرعاها ..تتنفسنى وترعانى ) تعبير يدلل على التوحد الوثيق بين الشخصية وما يحيط بها …ويوثق هذا بقوله أغار عليها وتغار علىَّ ،أحدثها وتحدثنى …أضمُّ هواها … تؤنسنى …فهو يشخص هذه الأشياء التى  لاتنطق ولا تسمع …ولكن لترسخها فى نفسه أصبحت جزْا منه …إلخ ، معجم لغوى يتصف بالرشاقة ، فلا نشعر بتصنع ولا تكلف فى صياغته  وألفاظ معهودة فى استخدام تعكس لنا قدرة الشاعر فى نسج كلماته ، والتعبير عن أدق المشاعر بكلمات لا تحتاج قاموسًا …لتكون قريبة من وعى المتلقى .

وفى قصيدة  ” بَرْدٌ ” يعبر عن تمزق العلاقات بينه وبين من يحيطون به ، والعنوان جزء من القصيدة ومعبر عن وجدان الشاعر ، فالبرد يمنع التواصل بين الناس ، وفى الوقت نفسه يوحى ببرود المشاعر ، وهذا ما نجده فى القصيدة ، فمن البداية يصدم القارىء بقوله : اليوم وحيدًا أخرج منك … وفى تعبيره عن المفارقة بينه وبين من يحيطون به ، فالتعبير “أخرج منك ” يوحى بمدى التوحد بينه وبينهم ، ويعمق هذا الارتباط فى التعبير وبغية مؤسية عن تصوره لمشاعر هؤلاء بأنه كان يظن نفسه ضوءًا يضيىء كونهم ، وقمرًا يفرش سماءهم نورًا وضياء ، ومطرًا يبعث الحياة فى حياتهم …لكنه صدم فيهم :

كم خلت بقائى فيكم مطرًا

لا يحجب

كم خلت وجودى  معكم ضوءًا

لا يطفىء

كم خلت طريقى مرآة لخطاكم

لكن الباب الموصد فى وجهى اليوم

يرد يدى

يرد عيونى  ص 25

والتعبير بالباب الموصد يوحى باستحالة التواصل معهم ، وسدّ كل الطرق فى وجهه ،  ونلاحظ على النص لجوء الشاعر للإيحاء بديلًا من المباشرة ، وظلال المعنى بدلًا من التقرير ، ومن جماليات التصوير فى هذا النص قربه من ذهن المتلقى بالصورة التى تندُّ عن الافتعال …. يقول :

ويزلزل أملى وبقائى

وأمرٌ أضمُّ  أساى وحيدًا

وأردد … قد كنت لكم دفئًا

كيف أمر الآن وحيا

أخرج منك

أتدثر برْد الغربة عنكم

كيف …ّ؟!!! ص27

ومن التعبير بالصورة تصويره لشعور الانتماء بزهرة ( الانتماء ) فى قصيدة بهذا العنوان ” زهرة الانتماء ”  ولعلنا نلاحظ – هنا – مدى تعبير العنوان عن الدلالة ، وتوفيق الشاعر فى تصويره لشعور الانتماء بالزهرة ، وتأتى تفاصيل الصورة لترسيخ هذه الدلالة ، فى تصويرها ( هى زهرة يدمى شذاها ، بيد أن القلب يعشق جرحها ، ترعرعت بدماء من عشقوا هواها ) للتعبير عن وفاء أبناء الوطن وحبهم له ، رغم المتاعب ، وانتشائه عند ارتقاء هذا الوطن ونجاحه ، يقول :

 فانبرت أوراقها

عطرًا تلظى فى وريدى المعتدى

هى زهرة تهب الحياة لمن  ص 33

يزود بعمره عنها

وترسل فى ربيع الخلد  ص 24

وما أجمل تعبيره عن الانتماء فى قوله ” هى زهرة / فى صلبنا / فى فكرنا ….فى حسنا / تسمو / وفى أضوائها / نخطو / وإلى الغد أغنيه ” ص25

تعبيرات تدلل على أن الوطن يعيش فينا وفى أعماقنا ، ومن نماذج التعبير بالصورة مانجده فى قصيدة ” صورة ” والتى تعبر عن مشاعر طفل لتجاه أبيه الشهيد ، الذى استشهد فى ثورة يناير 2011م ، والشاعر لا يلجأ فى التعبير عن هذه التجربة ، فى سؤال الطفل عن أبيه ، ولكن يلجأ إلى الإيحاء للتعبير عن قيمة ومكانة الشهيد بالسؤال عنه فى قمم السحاب ، وعن خلوده وعظمة ما قدَّمه يقول :

 أبوك شهيد الوطن

تحدى المحن

تراه على كل وجه ندى وابتسامه

وفوق الطريق لكل عظيم علامه

أبوك تعطَّر بالذود عنا

وغنَّى لصبح جديد

وضحَى لأجلك بالروح والأغنيات

فلا تقل اليوم مات   ص21

المعجم اللغوى المعبر عن الدلالة ”  شهيد الوطن ، تحدى المحن ، على الوجه مدى وابتسامة ، تعطَّر بالذود عنا ، غنَّى لصبح جديد ، ضحَّى لأجلك …” هذا المعجم يتوالى فى نظم جميل كالماء الذى ينثال على الأرض انثيالا ، لا ترى فيه تصدعًا ،أوتنافرًا بين مفرداته ، وفى الوقت نفسه يعبر عن الدلالة فى صورة نضرة جميلة .

وهكذا نجد التعبير بالصورة أبلغ وأكثر تأثيرًا فى النفوس ، وأجمل صياغة عن مثل هذه المعانى الوجدانية ، التى إن جاءت فى صورة تقريرية ما كانت بهذه الصورة من الجمال والدفء الفنى .

-4-

الحديث عن لغة الشعر لا يمكن فصلها عن بقية مكونات النص الشعرى ،  فاللغة هى المشكلة للدلالة ، وللصورة ، وللإيقاع النغمى ، كلُّ ذلك وفى بوتقة واحدة ، لغة الشاعر فى أشعاره لغة نابضة بالحياة ، تعبر عن تجربة الشاعر ، فى شاعرية عالية ، لقدرة الشاعر على نسج اللغة التصويرية ، اللغة التى تعبر عن الموقف ، لغة الإيحاء ، اللغة التى تومىء ولا تقرر ، وتهمس ولا تصرح ،  لغة تكتنز دلالات عديدة وفى ظلال شفيفة رقيقة .

اللغة الشعرية الوهاجة التى تفيض إشراقًا وجمالا تبدأ من عنوان القصيدة ، فعناوين كثير من قصائده يتفجر شاعرية وإشراقًا ، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر : نبوءة الجنوبى المهملة ، وعادت ملامح مصر ،زهرة الانتماء ، وخز الرجاء ، شط الردى ، غفلة ، وأشرقت ، شوكة الغياب المفاجىء ، غزل إسكندرانى ، فتح نورانى ، لست الآن هنا ، عذرا …لحبك الجميل ، الطيبون يرحلون ، وردة العيد ، عصفور الجنة ، شجن ، ليس للنور مدار، زلزال ، محاولات الخروج منى ،كبوة ، كل صباح أتجدد ، إسكندرية البدء والعشق …إلخ .

 ونقف على بعض أمثلة من هذه المختارات ، ففى قصيدة ” وعادت ملامح مصر ” والتى كتبت بعد اندلاع ثورة 25 يناير ، يقول :

تشظى  الشباب

فعادت

ملامح مصر الشريدة

نارًا

تعيد صياغتنا

ثورة وإرادة ….

فلم يعد الخوف أمرًا يبرر فينا

ولم يعد النوم كهفا أمينا ص 13

فهذا المقطع يختزل التجربة برمتها ، ولعل التعبير بـ ” تشظى الشباب ” وفى المفتتح تعبير يدلل على ثورة جامحة ، و ” عادت ملامح مصر الشريدة ” إشارة إلى عودة الروح الأصيلة التى تأبى الذل ، وترفض التسلط ، وتضحى بحياتها من أجل قيمة الحرية ، وفى قوله ” نارًا ” تعبير عن  مدى غضبة هذا الشعب ، وفى ”  تعيد صياغتنا ” تعبير عن كتابة تاريخ جديد ، وفى استخدام النفى فى قوله ” فلم يعد الخوف …ولم يعد النوم ” توكيد لنزع صفتى الخوف والخمول من النفوس ، هكذا نجد الشاعر فى شعره – وهذا نموذج منه – يتكأ على الألفاظ التى تتفجر طاقة وجمالا ، للتعبير عن التجربة ، اللغة المشحونة بالمشاعر والدلالات ، لا اللغة الميتة الذابلة ، التى لا تثير فينا إحساسًا ،  ولا تعبر عن جديد .

هذه اللغة  تتلون بلون تجربة الشاعر ، ففى قصيدة ” فتح ربانىُّ ” تأخذ سمتًا صوفيًّا فى قوله : أدرك أن البحر كبير

وعميق

والبحر  مثال فى القرآن

ينفذ قبل نفاذ الكلمات الربانية

لكنى

أملك ما هو أكبر منه

أعرف أن الجبل الأقوى

وتجلى الله له

ثم جعله دكا

أعرف أن الجبل يصير الخاشع  ص 79

المتصدع

لو أنزل ربى القرآن عليه

من خشيته

لكنى

أملك ما هو أقوى منه وأخشع

….

أعلم أن النفس ومهما بلغت ذائقة الموت

يبدأ الشاعر قصيدته بإدراكه ” أن البحر عميق ” فالبحر – هنا – له دلالته البعيدة ، لا تتعارض مع الدلالة المادية الملموسة للبحر فى عمقه واتساعه ، وامتلائه بالأسرار ، البحر – هنا – تعبير عن الحياة برمتها ، فالحياة بعيدة الإدراك ، متسعة فى أسرارها وألغازها ، كالبحر وهنا يفجر طاقات هذه الكلمة ، فالبحر على امتداده واتساعه يمكن أن ينفذ لو كان مدادًا لكتابة كلمات الله  ، ولكن كلمات الله لا تنفذ ( تناص من الآية 109 من سورة الكهف قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) والمفردة الثانية ” الجبل ” الذى يتصف بالثبات والامتداد والصلابة والقوة ، تصدَّع من خشية ربه ( تناص مع الآية القرآنية رقم 143 من سورة الأعراف فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ) والمفردة الثالثة ” النفس ” ذائقة الموت ( تناص مع الآية رقم 185 من سورة آل عمران كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ  وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ  وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ولكن الشاعر (الصوفى ) يمتلك الـ ” فتح الربانى ” كما يقول فى نهاية القصيدة :

لكنى

أملك ما لم يذق الموت ولن

….

أملك قلب المؤمن

والقلب المؤمن

وسع الله

والله أكبر    ص 80

وفى قصيدة ” الميلاد ثانية ” والتى رثى فيها أمه يقول :

يا قارئة ما كنت أفكر فيه

غبت

وأسدلت الحزن على البيت

….

ياشرفة حب كل عصافير الحى تحج إليها

يا دوحة خير ظل غصون النخل تطل عليها    

وبطيب خطاها الأرض تقر

ومن أبلغ سرب حمام أبيض أن يطوف بالقبر ؟!

من علم ضوء الشمس الشاهد أن يتلو ورد الصبر ؟!

كنت النهر الدافق  عطفًا وحنانًا

كنت الدرب السائر أمنا وأمانا

كنت لكل الناس الحب …إلخ ص 117 : 118

النسيج اللغوى يصنع تفرد النص ، وينسج جمالياته ، فلم نجد نص رثاء معلب ، ولكن وجدنا خلق حالة حزن جديدة فى تشكيلها ، بدأت بجملة يا قارئة ما كنت أفكر فيه ، جملة خبرية مكونة من كلمات قريبة إلى ذهننا ، لكنها تحمل فى طياتها دلالة التوحد بينه وبينها ، وتحمل – أيضا – ما كانت تتصف به أمه من بعد بصيرة ، وفى السطر التالى يفجعنا بكلمة ” غبت ” كلمة واحدة لها دلالتها على الحسرة والألم لما فى الغياب من نسف كل شىء جميل كان موجودا ( بداية من طلعتها ووجودها الفاعل فى حياته …إلخ ) وجاءالسطر الثالث مفسرًا لأثر الغياب المؤسى فى حياته (أسدلت الحزن على البيت ) وجاء تفرد النص من خلال المعجم اللغوى بوصف أمه ( شرفة حب ،  دوحة خير ، طيبة الخطا ) وجعل لكل صفة ما يقترن بها  ” شرفة حب كل عصافير الحى تحجَّ إليها ” شرفة حبٍّ تعبير عن قلبها النقى الجميل الخير ، وشرفة  الحب تعكس لنا ما تثيره فى النفوس من  ضياء فى النفوس و” دوحة حبٍّ ” يوحى بالارتياح النفسى لما تقدمه لهم بنفس طيبة ، فالخضرة تبعث الارتياح النفسى  ،ورسَّخ هذه الصفة بصنع صورة جميلة بظل غصون النخل تطل عليها تعبيرًا عن الهدوء الجميل لهذا الظل [ ألم يقل السياب عن هدوء نظرة المحبوبة : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ]  وبطيب خطاها على الأرض تعبيرًا عن نشرها الأمن والهدوء فى المكان الذى تحلُّه ، ويكمل نسيجه اللغوى المتفرد بوصف القبر بالهدوء والسكينة ، ولم يقل هذا مباشرة ، لكنه لجأ إلى الصورة الفنية فجعل الحمام يطوف بالقبر ( كناية عن شعوره بالأمن والسلام فى هذا المكان ) ويعود فيعبر عن حالته النفسيه بعدما قال (فكيف من الأحزان أفر ؟!)  ولكنه يستدرك فيعبر عن شعوره براحة نفسية مصدرها تلاوة الشمس لورد الصبر …إلخ ، هكذا يتضافر النسيج اللغوى فى نسج النص ، وبأداء طازج ، وتأتى الكلمات محمّلة بالدلالات  البعيدة ، مع نسج الصور الفنية التى تصور المعنى وتجسده فى رقة وجمال وتفرد فى الأداء .

 وتتجلى قدرة الشاعر اللغوية فى مقطوعات صغيرة ، تمثل دفقة شعورية يعبر من خلالها عن معنى جميل جليل ، ومن خلال كلمات وجيزة ، فى موتيفة قصيرة مكثفة ، مثل قوله فى ” جدديه ” والتى يعبر عن مدى شوقه للمحبوبة ، الشوق الذى يزداد مع البعاد ، ورغم قسوته يجد فيه متعة وارتياحا ، فيدعو المحبوبة بتجديد الأمل بينهما حتى يظل القلب نابضًا بالشوق …فبالحب تكون الحياة ، يقول :

 إن قلبى فى اشتياق لك –دومًا –

فإذا ما ملَّ يومًا

جددى الأشواق فيه

جدديه ص 263

ومثله – أيضا –  قوله فى هذه القطعة ” خوفٌ ” والتى يعبر فيهاعن حالته النفسيةالمضطربة لعدم شعوره بالأمان ،لأنها لا تستمر على حالها …يجسد هذه الحالة فى كلمات وجيزة :

وأنا – حتى – فى حماك

أخاف

ويلتى…ماذا بعد هذا

يُضاف ؟! ص 265             

-5-

يتوافر فى قصائد هذه المختارات الشعرية  الجمال الموسيقى ، والذى هو مقوم من مقومات جمال الشعر ، وهذا ما أدركه النقاد  منذ القدم ، فللشعر وظيفة جمالية ، تهدف إلى إثارة المتعة ، فالشعر– عند القاضى الجرجانى  – عند سماعه ، تجد فى نفسك  ” من الارتياح ويستخفك من الطرب إذا سمعته ” وعند ابن رشيق  ” إنما الشعر ما أطرب ، وهز النفوس ”  وعند ابن طباطبا ” للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ، وما يرد عليه من حسن تركيبه ، واعتدال أجزائه ”  وأوصى المرزوقى بتخير ” لذيذ الوزن ، لأن لذيذه يطرب الطبع لإيقاعه ، ويمازجه بصفائه ، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه ، واعتدال نظمه ”   أكثر من ذلك ارتبط الشعر منذ نشاته بالغناء ، فكان العربى ينشد الشعر كأغنية ، يحدو بها بعيره فى الصحراء ، فينتظم ” كلامه على ضربات أخفاف الإبل وحركاتها ، ومعروف أن السير عملية إيقاعية ، ومن ثم بدأ الإيقاع يتوازى مع مقاطع اللغة المنغومة ”  وورد عن حسان قوله :

تغن بالشعر إما كنت قائله       إن الغناء لهذا الشعر مضمار  

ومع إيماننا بأن الإيقاع فى قصيدة التفعيلة تبلوره مجموعة من الأدوات الفنية فى بنية الكلمة ، من بينها تناغم الكلمات فيما بينها ، ومدى تآلف الحروف فى الكلمة الواحدة و توظيف الخيال ، والذى يتمثل فى الصورة الشعرية ، فالخيال له دور فى شعرية النص وفى إيقاعه ، ويسهم بروزه وتجليه، وفى تأثيره وتلقيه ، لذلك  كان أساس الإيقاع فى الشعر لأنه يضبط  المستويات الصوتية للحروف والكلمات وما تكون من مقاطع وأجزاء ، وينظم  العلاقات التنغيمية بينها ، ويبرز مختلف أنواع النبر والنقر وينسق الاهزازات الإيقاعية، والانسجامات الصوتية والموجات الموسيقية ، وهذا ما نلاحظه فى الأداء الموسيقى فى قصائد هذه المختارات ، حيث تتجاوب الكلمات فيما بينها ، وتتناغم الحروف فى الكلمة الواحدة ، فيجعل إيقاع النص ينساب فى لحن رقيق هادىء جميل ، يطرب الأذن ، ويلذ السمع ، هذا الإيقاع السيمفونى ، نستشعره فى قصائد الديوان ، فالأذن تستقبل معزوفة موسيقية ، تشعر ببدايتها ، وتظل معها منصتة مستمتعة بها حتى نهايتها ، ونقف على نموذج من قصيدة ” وأشرقت ” …  (إلى روح الشاعرة أمل سعد )

أشرقت فى زحمة الناس قليلا ،

ثم ولت ،

بعدما أورثت الأرض عبيرا

وغناء سرمديا

وتسامت صورة تبدو خيالا

ونشيدا أبديا

من تُراها؟!

خطوة فى جنة

أم

لحظة من نشوة ٍ   ص63

أم

نظرة من فتنة

أم …..

من تراها ؟!

كلما غنت عيون الشمس كانت

أو تسنى البدر حانت

أو أضاء الشعر أنت

وتجلت فى ابتسامة

من تراها؟

كلنا يكتم فى وجدانه شوقًا إليها

كلنا يكبت فى أعصابه عطفًاعليها

وعلى الوجه اندهاشات عنيدة   ص 64

  • كيف هلت ؟!
  • كيف ولت؟!

بيد أنا لانزال

فى اعتقاد واحتمال

والسؤال…

  • زهرة كنا نراها أم قصيدة ؟!! ص65

الشاعر يستحوذ على حواس المتلقى وعقله ، لينصت مستمتعًا بهذه السيمفونية الموسيقية الحزينة والمؤسية والمشجية ، معزوفة تشعر الأذن ببدايتها ونهايتها ، مع تموجات الإيقاع فى نغمه الحزين ، لقد تحيَّر النقاد فى تفسير وقع الموسيقى ومصدرها ، وقديما سأل المعتصم إسحاق الموصلى :  أخبرني عن معرفة النغم ، وبينها لي ، فقلت ( إسحاق الموصلي )  :” إن من الأشياء أشياء ، تحيط بها المعرفة ، و لا تؤديها الصفة ”  ، إننا نشعر بالوقع الموسيقى ، وقد نعلل لمصدر حِسْنا لهذا الوقع ، ولكن يظل شعورنا بالجمال الموسيقى ليس مبررًا تبريرًا كافيا ، فقد يهتز الجسد عند بعضنا ، وقد يشيح بعضنا بيده إعجابًا ، حتى أن ابن رشيق قال عن شعورنا بجمال النص الفنى ” سمعت بعض الحذاق يقول : ليس للجودة في الشعر صفة ، إنما هو شىء يقع في النفس عند المميز كالفرند في السيف ، والملاحة في الوجه “

ونحاول أن نقف على بعض استشعارنا بالوقع الموسيقى فمن البداية نشعر ببداية المعزوفة الموسيقية :  أشرقت فى زحمة الناس قليلا ،

ثم ولت ،

ولعلنا نلاحظ قدرة الشاعر فى نسيجه اللغوى على الدمج بين إيقاع الكلمات وصنعها للصورة الفنية ، والصورة تسهم فى خلق الإيقاع ، وما تثيره من مقابلة مؤسية فى قوله (أشرقت ، ولت )  وبعدها يأتى الإيقاع من التوازن بين السطور الأربعة كالآتى :

بعدما أورثت الأرض عبيرا وغناء سرمديا

وتسامت صورة تبدو خيالا ونشيدا أبديا

ولعلنا نلاحظ هنا مدى التوازن بين هذين السطرين ، ونلاحظ أيضا نسيج الصور الفنية التى تعزز الإيقاع الموسيقى ، هذه الصور الخيالية تعلى من قيمة الراحلة فى عطائها الراقى قيمة وخلودًا ” العبير والغناء وتسامى صورتها نشيدا ” وهذا التوازن نجده فى قوله :

من تُراها؟!خطوة فى جنة / أم لحظة من نشوة ٍ  

ويتوالى الإيقاع فى القصيدة حتى نهايتها فى قوله :

فى اعتقاد واحتمال

والسؤال…

  • زهرة كنا نراها أم قصيدة ؟!! ص65

فنشعر بانتهاء السيمفونية الجميلة …ولعلنا نلاحظ انتهاء القصيدة بسؤال غرضه البلاغى ” التسوية ” والمديح ، فالراحلة ( زهرة وقصيدة )أى أنها خُلقت من طينة خاصة .

ولعلنا نلاحظ فى النص السابق اعتماد الشاعر على التوازن فى خلق موسيقاه النغمية ، وهذا الملمح الموسيقى يسمُّ كل قصائده ، ونقف على مثالين فقط لتوضيح دور التوازن فى صنع النغم الموسيقى ، فى قصيدة ” وعادت ملامح مصر ” نجد الإيقاع الجميل فى معزوفة موسيقية مكتملة ، تسير فى وقعها الجميل ، مستخدمًا حاسته الموسيقية ، ومن خلال سلاسة الكلمات ، فى انسيابيتها بصورة تلقائية جميلة ، فيجىء النغم هادئًا مترقرقًا ، يقول :

على   شجر الدرب يشدو حمام

ونبات

….

بنبض الكفاح يثور

يمور

يفور

يبدد صمت السنين العجاف

يجدد فينا هوانا

خطانا

منانا

يعيد لمصر لواء الريادة  ص 15

ولعلنا نلاحظ التوازن فى المعجم اللغوى ، فى هذه الكلمات ( يثور ،يمور ، يفور – هوانا ، خطانا ،منانا ) ففى التوازن التساوى النغمى فى هذه الكلمات ، مع اشتراك الكلمات الثلاثة فى المقطع الصوتى الأخير ( الثلاث  كلمات الأولى ” ور”  – والثلاث الثانية ” انا ” ) وفى السطر الأخير يجىء الوزن الشعرى بتكرار تفعيلة فعولن (أربع مرات ، ومعروف هذه التفعيلة فى تكرارها تصنع البحر المتقارب …ولكن فى النهاية تستمتع الأذن بمعزوفة موسيقية ذات إيقاعى هادىء ، يطرب النفس ، ويلذُّ القلب .

وفى قصيدة ” ما عدت يا أمى أطيق الصبر ” والتى أهداها لسليمان خاطر ، يصنع الشاعر معزوفة موسيقية متكاملة ، تلذُّ لها الأذن ، ويطرب لها السمع ، يقول :

تمتد فى أرضى …وفى دمى

تغرس فىَّ الموت

تسرق من ذاكرتى عهد أبى

” عش عالى الرأس  أبيا …

تكن نبيا …”

لا تنحن – العمر – لغير الله

الأرض فرض

الأرض عرض فكيف أحيا – اليوم – فى صمتى    ص 275

أبيع مرغمًا أرضى

أمشى إلى موتى …!!

تمتد فى أرضى …وفى دمى

تغرس فىَّ الموت

ولعلنا نلاحظ فى بنائه السيمفونى الداخلى فى النص …بصنع التوازن فى كلمات النص ( أرضى – أبى – دمى، أبيًّا ، نبيًّا – فرض ،أرض – صمتى ، موتى ، دمى …) 

هناك كثير من القصائد ذات الوزن الخليلى فى شعر هذه المختارات  ، ويشكل الوزن عنصرا هاما من عناصر الإيقاع ، فإننا ندرك أهميته فى الترتيب والتوزيع المنتظم بالحركات والسكنات ، تبعا لدفقات الوجدان ، و كما ذكرنا يلعب الإيقاع دورا فاعلا فى تلقى الشعر  ،ومن عناصر الإيقاع فى القصيدة العمودية القافية ، التى وصفها ابن رشيق بأنها شريكة الوزن ، ولهذا النظام الهندسى (تكرار مجموعة من التفعيلات وانتهاء البيت بالقافية وحرف الروى ) جمالياته لأنه يقوم على التساوى ، والتناسق ، والانسجام ، والتوازن، والتلازم ، والتكرار ،وقد تغنى الشاعر القديم بهذا الجمال ( الشكلى ) فى بنية الشعر موسيقيا ، وقرنوا هذا الجمال ( للبيت الشعرى ) ببيت الشعر ( فى التناسق والتناسب ) فقال أبو العلاء المعرى :

 الحسن يظهر فى شيئين رونقه       بيت من الشِّعر أو بيت من الشَّعر

وقد تنوع استخدام الشاعر – فى مختاراته –  فى استخدامه للبحور الشعرية :  البحر البسيط [ نذكر منها قصيدة شوكة الغياب المفاجى ، وقصيدة غزل إسكندرانى ، وقصيدة إسكندرية البدء والعشق ، وقصيدة س ج ، وقصيدة بغداد ، وقصيدة رسالة ، وقصيدة ياريف مصر ] والبحر الخفيف [ نذكر منه قصيدة زلزال  ، قصيدة شط الردى ، وقصيدة غفلة ، وقصيدة المرأة الزئبقية ]  والبحر الوافر  [ نذكر منه قصيدة  سالومى ]   والبحر الرمل [  نذكر منه قصيدة هو  الحب ]  والبحر الرجز [ نذكر منه قصيدة  الأشق ] 

وأبرز ما يميز القصيدة العمودية الجانب الإيقاعى ، حتى أن قدامة بن جعفر عرَّف الشعر بقوله ” كلام موزون مقفى ، دال على معنى ” مع تحفظنا لتجاهل الجانب الخيالى ، ولكننا – هنا – نستشهد على مدى إدراك الناقد القديم لما تتوافر عليه القصيدة العمودية من جانب إيقاعى يتمثل فى الالتزام بالوزن والقافية ، من خلال تكرار مجموعة من الوحدات الصوتية قوامها المتحرك والساكن ( أقصد التفعيلات ) مع انتهاء القصيدة بتكرار وحدة نغمية مميزة لاشتراكها فى الحرف الهجائى كآخر صوت نغمى فى البيت ، مما يعمل على إيقاظ المتلقى بانتهاء المعزوفة النغمية للبيت ، والاستعداد لسماع معزوة أخرى مكررة فى البيت التالى (أقصد القافية ) … هكذا ،  وهذا عمل على غنائية القصيدة (أى صالحة للتغنى بها ) لذا رأى أحد النقاد المحدثين أن كلمة الشعر مرتبطة بالغناء ، لأن كلمة شعر تعنى الغناء فى إحدى اللغات السامية ، واللغة العربية إحدى هذه اللغات ، وأن  لفظة شعر العربية مأخوذة من اللهجات الكنعانية … من لفظة شير ، التى تعنى فى ما تعنى الغناء ، والتى يبدو أن حرف العين فيها استبدل بالياء ، ففعل ” شار ” ” يشير ” فى الكنعانية فعل ثلاثى أجوف ، ومعناه يغنى ”  وفى الغناء استمتاع وطرب ، يهز النفوس ، فتستجيب له ، بحركات لا إرادية تعبيرا عن هذا الفرح ، وقد ظل هذا الملمح مقترنا بالشعر ، لذا رأى أحدهم  أن الشعر ” إذا لم يهز ويثر بموسيقاه ، يفقد أهم عناصره ، ولا يعد شعرًا ، بل قد يعد نظمًا ، أو نثرا موزونًا  “

ولاستخدام هذه البحور جمالياتها الموسيقية ، فالبحر البسيط بحر يفوق البحر الطويل رقة وجزالة، لذا قل في شعر الجاهليين، وكثر في أشعار المولدين ومن بعدهم ، وينبع جمال الموسيقى فى هذا البحر من بنائه من تفعيلتين ( مستفعلن فاعلن مكررة أربع مرات ) وهناك علاقة نغمية بين التفعيلتين ( البدء بسبب خفيف /5 – مستفعلن /5/5//5 وفاعلن /5//5 ) ويقتربان – أيضا – فى زيادة تفعيلة مستفعلن عن التفعيلة فعولن بسبب خفيف ، و البحر الخفيف (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن  – /5//5/5 – /5/5/ /5 – /5//5/5) سُمي بالخفيف؛ لخفته على اللسان؛ لأنه مركب من أخف الأجزاء السباعيات كما قال الخليل، وقيل: لأن حركة الوتد المفروق فيه اتصلت بحركة الأسباب فخفَّت؛ لتوالي ثلاثة أسباب -وهذا القول مبيِّن للأول- وهو مسدَّس مبني من (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن).

والبحر الوافر سُمِّىَ الوافر ( وافرًا لتوفر  حركاته )  لأنه ليس فى الأجزاء أكثر حركات من مفاعلتن [ //5///5]  والبحر الوافر كباقى البحور الأخرى له موسيقاه الخاصة التى تؤثر فى المتلقى دون أن يدرك سر حيويته لكون إيقاعه ينصهر انصهارًا شديد الخفاء فى البناء العام للنص ، فيصعب اجتلاء إلا من خلال إحساس عام بقدرة الإيقاع على التغلغل فى النفوس ،  والبحرالرمل بحر رشيق وسمى” رملا ” لأن الرمل نوع من الغناء ، يخرج من هذا الوزن ، فسمى بذلك ، وقيل : سمى رملًا لدخول الأوتاد بين الأسباب [ كما نلاحظ فى تركيبة تفعيلة فاعلاتن وتد مجموع //5 بين سببين خفيفين سبب قبله /5 وسبب بعده /5    فالتفعيلة فاعلاتن بهذه الصورة سبب خفيف – وتد مجموع – سبب خفيف [ /5//5/ 5] وانتظامه كرَمَل الحصير الذى نُسج به يقال ….وفضلاعن هذا التكرير الوارد فى تفعيلاته ، فإن تأثيره  كامن فى إيقاعه الذى يقوم بدور التشكيل النصى ، وبتكرير الحركة والسكون تتفاضل بحور الخليل ، والبحر الرجز نعرف جمالياته الموسيقية من وقوفنا على المعنى اللغوى للرجز فالرجز ( لغويًّا) بفتح الجيم هو داء يصيب الإبل ترتعش منه أفخاذها عند قيامها ولذلك أطلق على هذا البحر من الشعر رجزا لأنه تتوالى فيه الحركة والسكون، ثم الحركة والسكون  [ وزن البحر مستفعلن /5/5//5 مكررة ست مرات ] وهو يشبه في هذا بالرجز في رجل الناقة ورعشتها حين تصاب بهذا الداء فهي تتحرك وتسكن ، وهو فى الشعر على هذا الوزن هكذا فى ذبذبة إيقاع هذا البحر ، ونقف على نموذج من قصيدة قصيدة شوكة الغياب المفاجىء على وزن البحر البسيط ، ويفتتحها بقوله :

عينى على الباب كالمعتاد تنتظرُ     حتَّى بدا فى المدى ما قدر القدر

مدَّ الفراق يدًا بينى وبيــــــــــــنك فى       ظــــــــــــــــــلام يوم أتى بالوعد يستتر

قد كنت لى نجمة فى الليل تؤنسنى  وكنت لى كلمة فى الصمت تشتهر

تقطيع البيت الأول :

عينى علل – باب كل – معتاد  تن- تظر     حتتىبدا – فلمدى – ما قددرل –    قدر

/5/5//5  – /5//5   – /5/5//5 – ///5     /5/5//5- /5//5 – /5/5//5 – ///5

مستفعلن   – فاعلن    – مستفعلن  – فعلن    مستفعلن   – فاعلن  – مستفعلن  – فعلن   

وأول الملحوظات لسلامة الوزن فى البيت – والقصيدة بأكملها – قلة الزحافات ، فلم نجد سوى زحاف الخبن فى التفعيلة ( فاعلن /5//5 والخبن حذف الثانى الساكن فصارت فعلن ///5 ) فى تفعليتى العروض والضرب ، وهنا يلتزم الشاعر بهذا الزحاف فى سائر أبيات القصيدة ، لضبط حركة الإيقاع ، ومعروف أن كثرة الزحافات يُعدُّ عيبا موسيقيا ، أطلق عليه القدماء ” التخليع ” لأنه يعمل على نشاز الإيقاع الموسيقى ، فالزحافات والعلل رخص لاستقامة الوزن والموسيقى ، لا لنشازه ،وكثرتها تزلزل بنيته الإيقاعية .

 والإيقاع – هنا – ينبع من تكرار وحدات صوتية ( مستفعلن ، فاعلن فى البيت ، ثم فى الأبيات التى تليها ) مع تساوى هذه الوحدات فى الوزن ، ثانيا من تكرار القافية (رالقدر ، يستتر ، تشتهر ) لأن القافية -كما عرَّفها الخليل بن أحمد – بقوله ” القافية من آخر حرف فى البيت إلى أول ساكن يليه من قبله ، مع حركة الحرف الذى قبل الساكن ”  هذا عن الإيقاع بالصورة الملموسة ( ظاهريًّا)  من خلال الوزن والقافية ، ولكن هناك موسيقى داخلية تنبع من تآلف الحروف فى الكلمة الواحدة ، والكلمات فيما بينها ، تشعر بها الأذن ، وتستحث وقعها الموسيقى الجميل ، ففى الأبيات تنساب الكلمات متجاورة فى سلاسة كسريان الماء على الأرض المنبسطة .

أخيرًا لم أقل كل ما فى جعبتى عن شعر جابر بسيونى لارتباطى بحجم المقالة ، ولكن نستنتج من هذه القراءة المستعجلة والمتواضعة أن شعر جابر بسيونى له مذاقه وجماله الخاص ، شعر يمتع الروح والعقل والأذن ، شعر يندُّ عن الوضوح السافر ، ويبعد عن الغموض المعمى َّ ،  ومن جمالياته الفنية أنه شعر ذو طباعى إنسانى رقيق ، يعتمد على التشكيل بالصورة ، ومن خلال معجم لغوى يعتمد على ظلال المعانى والإيحاء والتصوير ،إضافة إلى جمال الإيقاع الموسيقى الممتع للأذن ” يدخل الأذن بغير أذن ” كما قال الناقد القديم ، فهنيئًا للمكتبة العربية بهذا العطاء الشعرى الراقى ،  وهنيئًا للقارىء لاستمتاعه ، وتمنياتى للشاعر بدوام العطاء المتفرد الجميل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى