ساحة الإبداع

أوبرا مصر تَنشُر “زينب والأيام الوهمية” قصة قصيرة للروائية الشابة منى خليل

الحياة قصيرة

لكنها مملة…

وطويلة..

صباح يوم جديد أشرقت فيه الشمس لترسل خيوطها تسلل بين خصائص الشباك، وتفرش شعاعها الدافىء علي وجه زينب البريء، لتستيقظ حاضنة أشعة الشمس التي تعشقها منذ نعومة أظافرها وهي تتذكر كلام والدتها لها.
ما أيقظ زينب هو هدير أمواج البحر التى كانت تسمعها بوضوح على الرغم من استغراقها فى النوم، وعلى الرغم من أن المسافة بين بيتها وبين البحر تزيد عن الكيلومترين مما يجعل – واقعياً – أن من المستحيل أن يصل صوت هدير الموج إلى سريرها.
لكن من يستطيع منا أن يُجزم اذا كان مايعيشه هو الواقع بالفعل أم أننا نعيش فى حلم ننتظر اليقظة أن تأتى فى أية لحظة؟
” يازينب… يا زينب ابتعدي عن أشعة الشمس سوف تحرق وجهك الأبيض المنير وتصبحين سوداء كالعبدة لا ينظر اليك الرجال.”
تضحك زينب وهي تتذكر كلام والدتها لها وتقفز من سريرها وتفتح الشباك وتحضن أشعة الشمس الذهبية التي ظلت طول عمرها تحبها وتعشقها.
لاتعرف زينب لماذا تشعر أنها اذا خرجت من حى ” العجمى ” فانها تشعر بالغربة !
هل هى حكايات جدتها التى زرعت فيها حب سيدى العجمى؟
كانت جدتها الراحلة – وهى أقرب إلي قلبها من أمها – تحكى لها أن سيدى العجمى ربته زوجة أبيه وكانت تقسو عليه أشد القسوة، وعندما مات دُفن فى ضريح يتوسط البحر، ولأنه كان يكره النساء – بسبب زوجة أبيه – فانه يقوم بجذب السيدات اللائى ينزلن البحر ثم يقوم بإغراقهن.
ونظرت زينب من شباكها لتطل على شباك جارها وحبيبها وعِشرة أيامها (طه)
ظل طه رغم الأيام ونضوجها هو الوحيد من بين الشباب فتي أحلامها وحبها التي لم تتنازل عنه أبدا رغم كل المشاكل التي تعرضت لها من أهلها ومن جميع أصدقائها.
طه مثال الشاب المتدين الملتزم الوسيم التي تحلم به أي فتاة. نظرت من شباكها لتري طه يصلي ويدعو ويرفع يده للسماء.
هي تعلم أنه يدعو الله أن يجعلها من نصيبه
شردت زينب على الرغم منها وتوالت الأفكار فى ذهنها كأمواج بحر هادر :
يأسرنا الحب لرحلة غير معلومة ننساق إليها مهرولين بكل مشاعرنا البريئة ثم نشرب من بئره العميق، وقد يحالفنا الحظ ويكون البئر به ماء حقيقي يُشبع الظمأ، أو قد يخوننا المحبوب ويضعنا داخل غياهب البئر ويتركنا وحدنا متعطشين طالبين النجاة للخروج من البئر.
وإن جاء أحدهم وانقذنا تظل الذكريات عالقة متشبثة بها أرواحنا لا يمكننا منها الخلاص.
تذكرت زينب المرة الأخيرة التى التقت فيها بحبيبها منذ أسبوع حيث اصطحبها لزيارة قصر المجوهرات بمنطقة زيزينيا.
فى أثناء سيرهما متشابكى الأيدى فى طريقهما إلى هناك حكى لها طه قصة صاحبة هذا القصر : الأميرة فاطمة التى تزوجت من أحد أفراد الأسرة المالكة، ثم طُلقت منه وتزوجت من المرحوم محمد يكن.
لكن لقب الأميرة سُحب منها بأمر ملكى إثر منعها من دخول القصر بأمر من زوجها لأسباب أخلاقية لما كان يتردد من أقاويل حول سمعة القصر.
وعندما قامت ثورة 1952 قامت لجنة المصادرة بمصادرة ممتلكات الأميرة فاطمة ومجوهراتها، وعندما انتهت اللجنة من الجرد صرخت الأميرة وهى ترتجف واستوقفت رئيس اللجنة وقالت له : لقد تذكرت.. انا عندى مبلغ خمسين ألف جنيه وفاتنى أن أرشدكم عنه، انه مخبأ هنا خلف هذه الصورة.
وأشارت إلى احدى الصور المعلقة على الحائط، فانتزعها رجل لجنة الجرد وأخذ المبلغ وصادره لحسابه الخاص.
وتركت الأميرة قصرها وعاشت فى شقة فى القاهرة، فقيرة حتى ماتت عام 1983 ولا توجد لها إلا صورة تذكارية واحدة فقط.
صمت طه قليلاً وهو يتأمل ملامح زينب التى تأثرت بالقصة، وبعد لحظات أردف عندما وقفا أمام بوابة القصر :
يطلقون عليه ” قصر الأميرة البائسة “
خفق قلب زينب هلعاً على الرغم منها وقفز سؤال مخيف الى عقلها فجأة لكن لسانها لم ينطق به :
” هل اختيارك لهذا المكان نبوءة شؤم يا حبيبى؟ ”
عندما انتهي طه من صلاته ودعائه أرسلت زينب له رسالة عبر الواتس :
” انا نازلة أشوفك في المكان بتاعنا يا طه “
خرج طه إلى شوارع بحرى التى يعشقها ويحفظها عن ظهر قلب حتى انه يتخيل انه يستطيع أن يسير فى شوارع بحرى مغمض العينين ويصل أيضاً إلى هدفه !
تعيش كل بنايات بحرى القديمة ذات النسق الموحد فى ذاكرته، يمشى طه بحماس لايلتفت الى البواكى ومحال الملابس والحناطير وعربات الكارو واللافتات الملونة والوجوه المطلة من النوافذ.
عندما يسيطر الشعور باليأس على قلب طه يعالجه بالمشى، يخترق ميادين بحرى وشوارعه وحواريه، يميل من الميدان الصغير قبالة نقطة الأنفوشى، يخترق السيالة، يمشى فى الشوارع الضيقة، المتقاطعة، المؤدية إلى ميدان الأئمة.
بحرى هو أولياء الله والبحر, والصيد والموالد وحلقات الذكر والطريق إلى الميناء.
يُنهى تجواله – عندما يكون وحيداً – بالتوجه إلى أقرب مسجد أو زاوية.
يأخذ فى تلاوة الأوراد والأدعية، اذا غالبه النوم تمدد أمام عامود، طوى ساعده تحت إبطه ونام.
لكن يظل مسجد وضريح المرسى أبو العباس حامى بحرى والاسكندرية كلها هو المكان الأقرب إلى قلب طه.
لاينس طه تلك الدهشة اللذيذة الطفولية التى أطلت من عينىّ زينب عندما أخبرها أن هذا المسجد الشهير وضع تصميمه المعمارى الايطالى ” ماريو روسى” الذى كان يشغل منصب كبير المهندسين فى وزارة الأوقاف المصرية.

هناك على الشاطيء الجميل جلست زينب وقد أعطت كل وجهها إلي البحر وكأنها تتحدث معه، أو تشكو له حظها العاثر مع قصة حبها التي تتمني أن تكتمل بالزواج من الشخص الوحيد الذي اختارته بالعالم.
أخذت الأفكار تتصارع بداخلها مع كل موجة من أمواج البحر وشعرت أن الأمواج تلطم وجهها الحزين.
فى جلستها على الكورنيش الحجرى، تلاحق بنظرها الأمواج المحملة بالزبد والأعشاب الخضراء التى تلامس رمال الشاطىء أو يدفعها المد فترتطم بصخور الشاطىء.
تسرح بنظرها فى الاتساع : الأفق والبواخر والحاويات والأوناش وقوارب الصيد واللانشات، والفلوكات الصغيرة.
يترامى إلى سمعها أصوات البحارة وعمال الشحن وراكبىّ الزوارق الصغيرة ونداءات والباعة والشيالين.
استفاقت علي صوت تحبه بشدة.
نظرت بوجهها وبكامل جسدها الي الصوت التي طالما أحبته ونامت علي نغمته.:-
ازيك يا طه وحشتني اوي.
نظر إليها طه نظرة مليئة بالحنان والحب:
– وانتي اكتر يا زينب. افتقدتك كثيرا. لكن ما باليد حيلة. كان لازم أسافر وأتغرب عشان أقدر أتجوزك.
من لم يسافر يظن أن السفر عالم ملىء بالمغامرات الخيالية.
قالت له زينب بكل حزن :
بس الإجازة قربت تخلص يا طه وانا زعلانة اوي ملحقتش أشبع منك.
نظر لها طه بعين مليئة بالحزن والحب معا :
ما تقلقيش يا زينب المرة دي هسافر وكده خلاص.. هاقدر أرجع اتجوزك علي طول إن شاء الله ماتقلقيش يا حبيبتي.
تسربت الدموع من عين زينب دون أن تشعر حتي شعرت أن البحر زاد حجمه من أثر دموعها وازدادت ملوحته.
تحدثا طويلاً، ورسما أحلاماً جميلة.
خطرت على باليهما كل الأفكار.
إلا فكرة أن هذا سيكون لقاؤهما الأخير.

أوبرا مصر ، ساحة الإبداع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى